انتهت رحلة البحث عن العمل الذي أكسب منه لقمة العيش الحلال؛ لأدخل في رحلة أخرى هي رحلة البحث عن بنت الحلال، شريكة الحياة.

ومن الطبيعي لشاب أزهري: أن يفكر في الزواج، ويبحث عنه، وقد أتم الثلاثين من عمره. وقد حث القرآن والسنة على الزواج، وجعله من سنن المرسلين {وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَذُرِّيَّةٗ} (الرعد: 38)، واعتبر رسول الإسلام الزواج من سنته: «فمن رغب عن سنتي فليس مني» متفق عليه. ولم يشرع الإسلام الرهبانية، بل رغب عثمان بن مظعون في «التبتل» والانقطاع للعبادة، فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

صحيح أن هناك بعض العلماء الكبار شغلهم العلم أو هموم الأمة عن الزواج، فعاشوا وماتوا عزابًا مثل: النووي، وابن تيمية، وقد صنف صديقنا الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله: كتابًا عن العلماء العزاب، ولكنهم يمثلون الشذوذ الذي يثبت القاعدة.

وقد كنت أرجو قديمًا أن أتزوج بعد تخرجي بسنة واحدة، ولكن الاعتقالات لاحقتني، فلم تمكني من تحقيق هذه الأمنية. وقد قال شوقي حديثًا: قدّرت أشياء، وقدّر غيرَها  **  قدرٌ يخط مصاير الإنسان!

وقال غيره قديمًا: ما كل ما يتمنى المرء يدركه  **  تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن!

وكم للإنسان من أحلام وأماني يعيش بها، ويركض وراءها، وقد يحقق بعضها، وقد يخفق في تحقيق شيء منها، ويعود بخفي حنين كما قال العرب، أو بلا خف أصلًا. كان الجانب المالي يمثل أولى العقبات في سبيل الزواج، فلم تكن لديّ الوظيفة المستقرة بعد خروجي من المعتقل، كما لم يكن لديّ ما أدفعه مهرًا وشبكة وأعد به بيتًا صالحًا لحياة زوجية مناسبة.

فلما هيأ الله لي التعيين في وزارة الأوقاف؛ أمست لي وظيفة معقولة، كما هيأ الله لي ظروفًا جمعت فيها ما يقرب من مائتي جنيه، وهذا مبلغ طيب يشجعني على التقدم إلى أسرة ملائمة لأخطب منها. ويطيب لي أن أذكر من أين جاءني هذا المال، لقد جاءني من ابتعاثي سنتين خلال شهر رمضان إلى مدينة العريش عاصمة سيناء من قِبل وزارة الأوقاف، وكانت تعطيني في كل مرة حوالي سبعين جنيهًا.

كما كلفتني الوزارة أو مراقبة الشئون الدينية فيها - أنا والأخ أحمد العسال - بالإشراف على طباعة تفسير لعالِم هندي كبير «ثناء الله الأمر تستري»، ويتضمن تفسير القرآن بالقرآن، وهو تفسير على هامش المصحف، وقد قمنا بالمهمة، ومنح كل منا مكافأة، أظنها كانت سبعين جنيهًا. هذه «السبعينات» الثلاثة من الجنيهات المصرية، كانت هي رأس المال الذي ادخرته للزواج، ولم أنفق منه شيئًا، ولا سيما أني ليس لي مصاريف شخصية، فأنا لا أجلس على مقهى، ولا أدخل سينما، ولا أدخن.

ولا أكاد أنفق إلا في مأكلي ومشربي وملبسي، وشراء كتبي، وغالبًا ما تكون من الكتب القديمة، بعضها من «سور الأزبكية» الشهير، الذي كان سوقًا معروفة لبيع الكتب القديمة، ولا يوجد عالِم أو أديب أو باحث، لم يذق لذة البحث عن الكتب حول هذا السور العتيد. وبعضها من مكتبة الشيخ عليّ خربوش صاحب مكتبة الآداب في درب الجماميز بحي السيدة أو باب الخلق، وهي مكتبة يعرفها طلاب ذلك النوع من الكتب، الذي قد لا يوجد في المكتبات الحديثة، ولكنه يوجد عنده.

فمن حقي الآن - بل من واجبي - أن أبحث عن النصف الآخر، الذي أُسعد به دنياي، وأكمل به ديني. فالمرء بفطرته يتطلع إلى الجنس الآخر، فكلا الجنسين لا يستغني أحدهما عن الآخر، لا يستغني الرجل عن المرأة، ولا المرأة عن الرجل، فهم يكملها، وهي تكمله، كما قال تعالى: {بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖ} (آل عمران: 195)، أي الرجل من المرأة، والمرأة من الرجل. ولما خلق الله آدم أبا البشر، وأسكنه الجنة، لم يدعه وحده، إذ لا معنى لجنة يعيش الإنسان فيها وحيدًا مستوحشًا؛ لهذا خلق الله له من نفسه - أي من جنسه - زوجًا ليسكن إليها، وقال له: {ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ} (البقرة: 35).

فالإنسان إذن يحتاج إلى سكنين: سكن مادي: يسكن فيه، وسكن معنوي: يسكن إليه. والمرأة للرجل هي السكن المعنوي النفسي الذي يحتاج إليه؛ ليجد الأنس والرّوْح إلى جانبه، كما قال تعالى: {وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةً} (الروم:21)؛ ومن هنا كان دعاء عباد الرحمن الذين أثنى الله تعالى عليهم: أنهم يقولون: {رَبَّنَا هَبۡ لَنَا مِنۡ أَزۡوَٰجِنَا وَذُرِّيَّٰتِنَا قُرَّةَ أَعۡيُنٖ وَٱجۡعَلۡنَا لِلۡمُتَّقِينَ إِمَامًا} (الفرقان: 74).

وبهذا يكون الزواج مكملًا لدنيا الرجل، ومجملًا لحياته، ومصدرًا من مصادر سعادته، كما في الحديث: «الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة»، وكما في الحديث الآخر: «أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء». كما أن الزواج مكمل لدين الرجل أيضًا، حتى شاع بين جماهير المسلمين أن الزواج نصف الدين، وهو مقتبس من الحديث النبوي: "من رزقه الله امرأة صالحة، فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الباقي".

وبهذا يتبين أن مجرد الزواج ليس هو شطر الدين أو نصفه، بل الزواج من المرأة الصالحة، التي تعينه على أمر دينه، فتذكره إذا نسي بأمر ربه، وتنبهه إذا غفل عن واجبه، وتقويه إذا ضعف عن القيام بأعباء دعوته. ورُبَّ زواج من امرأة قليلة الدين تكون سبب ضياع صاحبه. وقد كان الإخوان إذا سئلوا عن الأخ إذا تزوج من امرأة، فتقاعس عن الدعوة وتكاليفها، قالوا: رحمه الله، انتقل إلى جوار زوجته! وفي الحديث المتفق عليه: «تنكح المرأة لأربع: لحسبها، ولمالها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك».

وذات الدين هي المرأة الصالحة، وهي إحدى النعم التي من أوتيها فقد أوتي خير الدنيا والآخرة، مثل اللسان الذاكر، والقلب الشاكر، وهي من خير ما يكنزه المرء لدنياه وآخرته. وهي التي إذا نظر إليها سرته، وإذا أقسم عليها أبرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله، كما قال تعالى: {فَٱلصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٞ لِّلۡغَيۡبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ} (النساء:34).

لا عجب أن أتطلع بجد للبحث عن تلك المرأة، فأين أجدها؟ وأين من يدلني عليها؟ لقد حاول خالي رحمه الله -وأنا طالب بكلية أصول الدين- أن يزوجني من إحدى قريباتنا من قرية شبشر الحصة بالقرب من قريتنا، وكان لا ينقصها الجمال ولا الدين ولا الخلق، ولا الحسب ولا المال، ولكن كان ينقصها شرط، وينقصني أنا شرط. أما شرطها، فهي أنها لم تتعلم أكثر من الابتدائية، وهذا القدر من التعلم لا يكفيني. وأما الشرط الذي ينقصني أنا، فهو أني لم أزل طالبًا، ومعنى زواجي منها: أن تنفق عليَّ من مالها، وقد كان أهلها مرحبين غاية الترحيب بذلك، ولكن كرامتي لم تسمح لي أن أكون عالة على مال امرأتي.

شروط فيمن أريدها زوجة:

بدأ إخواني وأصدقائي من حولي يسألونني عن شروطي في الفتاة التي أنشدها زوجًا لي وأما لأولادي. فقلت لهم: إن لديَّ أربعة شروط لست مستعدًا لأن أتنازل عن واحد منها:

الأول: أن تكون من أسرة طيبة، ذات معدن أصيل، وأن يظهر ذلك في دينها وسلوكها، فلا أريد «خضراء الدِّمَن» وهي المرأة الحسناء في المنبت السوء. فلا بد أن تكون محافظة على الصلاة، فهذا أمر أساس. قالوا: هل تشترط أن تكون محجبة؟ قلت: أستحسن هذا ولا أشترطه؛ لندرة المحجبات في ذلك الوقت، ولكن لا تكون متبرجة.

والثاني: ألا يقل تعليمها عن الشهادة الثانوية، ولو كانت جامعية، فهو أفضل، حتى تستطيع أن تتفاهم معي، وأتفاهم معها، وأن تساعد أولادها في المستقبل.

والثالث: أن تكون على قدر من الجمال يرضيني، فخير النساء من تسر إذا نظرت، وتطيع إذا أمرت، والجمال أمر نسبي، فما يعجبني قد لا يعجب غيري، وما يعجب الآخرين قد لا يعجبني. والناس في ذلك جد متفاوتين. المهم أن أراها فتدخل قلبي. والناس يقولون: الحب مستغن عن الجمال، يعنون: أن الرجل قد ينظر إلى امرأة فتستهويه وتملك عليه قلبه من أول نظرة، وهي في عينه ملكة جمال، والآخرون ربما لا يرون فيها شيئًا من الجمال.

والرابع: شرط غريب في نظر الكثيرين، وهو: أن يكون لها إخوة أشقاء من الذكور خاصة، وسر ذلك: أني وحيد أبي، فليس لي إخوة، ومعنى هذا: أن أولادي لن يكون لهم أعمام، فينبغي أن يكون لهم أخوال.

هذه شروطي الأربعة، التي أعلنتها وأشعتها بين الأصدقاء، وعلى أساسها يجب أن يكون بحثهم معي عن النصف الآخر، وقد طفقوا يبحثون، وطفقت أنا أبحث أيضًا.

محاولات عدة لم يكتب لها التوفيق:

وفي أثناء بحثي عثرت على فتاة رأيتها ضالتي التي أنشدها، كانت تدرس معي في معهد الدراسات العربية العالية، وفي قسم اللغة والأدب الذي أدرس فيه، وهي على قدر ملائم من الجمال يرضي تطلعي، وهي خريجة قسم اللغة الإنجليزية من كلية الآداب، ويمكن أن تساعدني في تعلم اللغة، وهي محجبة، وعلى غاية من الأدب والحياء وحسن السلوك، وهي تصغرني بنحو خمس أو ست سنوات..

وسألت عنها، فعرفت أنها غير متزوجة، ثم عرفت أنها شقيقة أحد الإخوة الأفاضل، كان زميلًا لي في معهد طنطا، وإن كان بعدي بسنتين، وكان من طلاب الإخوان، فاستبشرت بذلك، فهو يعرفني جيدًا وأنا أعرفه، وبالفعل كتبت إليه أطلب التقدم لخطبة شقيقته إذا لم يكن هناك مانع. وسرعان ما جاءني جوابه يحمل كثيرًا من الثناء عليَّ، والترحيب بي، وأني نعم الزوج، ونعم الصهر... لولا أن شقيقته مخطوبة لابن خالها من الصغر. وقلت هنا ما يقوله الناس في هذا المقام: الزواج قسمة ونصيب.

وبدأ الأصدقاء يرشحون لي أسماء لفتيات من مدن وبلاد شتى، فأحيانًا أرفض العرض، لنقص شرط من الشروط التي وضعتها. من ذلك أن أحد إخواننا الوعّاظ، وكان معنا في مدينة العريش في شهر رمضان، كان هو مبعوثًا من الأزهر، وكنت أنا مبعوثًا من وزارة الأوقاف، وقد رشح لي فتاة من قريته قريبًا من دمياط، هي وحيدة أبويها، وترث من أبيها ستين فدانًا، وهي ثروة تغري الكثيرين، ولكني أعرضت عنها لسببين:

السبب الأول: أنها وحيدة أبويها، وأنا أشترط أن يكون لزوجتي أشقاء.

السبب الثاني: أني عرفت أنها كانت مخطوبة لضابط بالجيش استشهد في مقاومة العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، فخشيت أن تكون معلقة القلب به، وهذا قد يسبب مشكلة نفسية في المستقبل.

ورشح لي أحد الإخوة في محلة أبو علي، ابنة قريب له في قرية «الراهبين» بجوارهم، ولكنهم اعتذروا، ولعل وضعي المادي لم يقنعهم، فقد كنت موظفًا في أول درجات السلم الوظيفي، وليس لي ميراث من أبي أو أمي، فما الذي يجعلهم يرضون بي على هذا الوضع، والرجال كثير؟

ورشح لي أحد الإخوة من المحلة ابنة قريب له من إحدى قرى مركز المحلة، كان معنا في السجن الحربي، وكان من خيرة من عرفت دينًا وخلقًا وفضلًا، ولكنه من أسرة كبيرة من أعيان قريته، ولا غرو أن جاءني الرد بالاعتذار، وأعتقد أن هذا من حقه؛ فالفرق الاجتماعي بيننا كبير، فأنا من أسرة صغيرة من الفلاحين أو من الأهالي، وهو من أعيان القوم.

وأعتقد أن هذا كان خطأ مني في تقدير الأمور؛ فالرجل - وإن كان من صفوة الإخوان - من عائلة كبيرة لها تقاليدها. ومثلي لا يصلح لها، وخصوصًا مع وضعي المادي والوظيفي الناشئ، صحيح أن تراثنا يقول: العالِم كفء لبنت السلطان، وكم من علماء تزوجوا من بنات الأمراء والوزراء. ولكن لا بد أن يكون العالِم في وضع مادي يسند ظهره.

على أن تفسيري هذا ليس حتميًّا، فقد يكون الرجل نظر إلى الأمر نظرةً أخرى، وهو أني رجل معرض للزلازل والمحن في حياتي بحكم عملي الدعوي، وهو لا يريد لابنته أن تبتلى بالمحنة التي ابتليت بها زوجته حين اعتقل، ومن حق كل أب أن يحرص على ما يراه ضروريًّا لسعادة ابنته.

وكذلك رشح لي بعض إخواني في المحلة ابنة شقيق أخ معروف منهم، وهو من أعز أصدقائي، وهي في السنة النهائية بقسم اللغة العربية بكلية الآداب، وتوشك نتيجتها أن تظهر، وأنها على قدر طيب من الجمال. وفعلًا اتصلت بعم الفتاة، وأفضيت إليه برغبتي وطلبي، فاتصل بأخيه وأسرته وحددوا لي موعدًا لأرى الفتاة وتراني، فإذا تمت موافقة كل منا على الآخر، شرعنا في الخطوات التالية.

وسافرت إلى المحلة في اليوم الموعود، ووجدت القوم ينتظرونني، وقد أعدوا ما يشبه أن يكون حفلًا صغيرًا، ورأيت الفتاة، والحمد لله قد أعجبتني، وحدثتها وحدثتني، وتجاوبنا معًا، واتفقنا على أن نلتقي لقاءً آخر بعد ظهور نتيجتها.

وعدت إلى القاهرة، وأنا قرير العين، سعيد الأحلام، لا تسعني الدنيا من الفرحة، صحيح أنها ليست محجبة، ولكنها محتشمة، ولا تمانع أن تتحجب في المستقبل كما يبدو لي، وبقيت أيامًا على هذه الحالة من السرور والاستبشار، حتى جاءني من يخبرني بأن الجماعة في المحلة يعتذرون عن عدم إتمام المشوار الذي بدأناه لظروف طارئة، لم يفصحوا عنها، ولا أدري حتى الآن ما هي؟ وقلت مرة أخرى: الزواج قسمة ونصيب.

ثم رشح لي بعض الإخوة من طنطا فتاة من أسرة يعرفونها، ورتبوا لي لقاء في بيت أحدهم، وحضرت الفتاة مع بعض أهلها، وحضرت معهم، ورأيتها، كما رأتني، ولكنها لم تدخل قلبي، ولم ترق لي. وإن كانت هي قد استعجلت وأشاعت بين زميلاتها أن فلانًا خطبني، مع أني لم أقل كلمة واحدة تفيد قبولي لها بالتصريح أو التلويح. وهذا آلمني كثيرًا. فما أحب أن أجرح شعور أحد.

وكذلك رشح لي بعض أبناء قريتي ابنة أحد رجال القرية من موظفي شركة الغزل بالمحلة، وممن يقيمون بالمحلة منذ زمن، ودعاني والد الفتاة لأراها في منزله، وألقيت نظرة عليها، ولكنها للأسف لم تنل إعجابي، ولم ينفتح لها قلبي، وماذا أصنع في هذا القلب؟ إنني لا أملك أن أفتحه أو أغلقه، فإن الذي يفتحه ويغلقه هو الله.

ولقد تألمت من نفسي أشد الألم، واستبد بي شعور يكويني كيًّا، كلذع الجمر، حيث لم تقع الفتاة موقعها مني، وقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، كيف أسمح لنفسي أؤذي مشاعر بنات الناس واحدة تلو الأخرى؟ وكأني وحيد دهري، وفريد عصري! ولماذا لا يكون العيب فيَّ أنا، وليس في هؤلاء الفتيات؟ وربما كنت معجبًا بنفسي أو مغرورًا أكثر من اللازم، والعجب والغرور من «المهلكات»، كما سمَّاها الإمام الغزالي في «الإحياء»، أخذًا مما جاء في الحديث الشريف.

على كل حال، قد آليت على نفسي أن لا أرى الفتاة التي أريد خطبتها بهذه الطريقة الرسمية أبدًا. وإنما أفعل ما كان يفعله سيدنا جابر بن عبد الله عندما أراد أن يتزوج، فقد قال: كنت أتخبأ لها تحت شجرة، حتى رأيت منها ما دعاني إلى زواجها.

وأخيرًا وفَّق الله:

وبعد هذا المشوار الشاق الحافل بالمحاولات الفاشلة؛ جاء الفرج والتيسير من الله، الذي قضت سنته أن تجعل بعد العسر يسرًا، وبعد الليل فجرًا.  لقد رشح لي عدد من أصدقائي بمحلة أبو علي وسمنود؛ فتاة من عائلة طيبة الأصول، كريمة المعدن، والدها يعمل ناظرًا بإحدى المدارس، في مركز سمنود، وخالها طبيب كبير مشهور، ولها ثلاثة أشقاء، أكبرهم خريج كلية الحقوق، وهو يقضي الآن مدة التجنيد الإجباري..

وقالوا لي: نظنك تعرفه، فقد كان معتقلًا معك في السجن الحربي، وهو الأخ سامي عبد الجواد الهرم. وقد حصلت على الشهادة الثانوية، ولم تسمح ظروفها العائلية بالسفر إلى القاهرة للدراسة بالجامعة، وهي الآن في العشرين من العمر أو فوق العشرين بقليل، وهي على قدر طيب من الجمال باعتراف الجميع. كما أنها على قدر أطيب من حسن السيرة والخلق يشهد به كل من خالطهم.

قلت للإخوة: أما الأخ سامي عبد الجواد، فأنا أعرفه جيدًا، وهو مفتاح جيد لهذا الباب. وقلت في نفسي: الحمد لله، هذه والله مناسبة من جميع الوجوه، وفيها توافرت الشروطة الأربعة التي وضعتها لمن أختارها، وهي: العائلة، والجمال، والثقافة، والأشقاء. لعل الله جلَّ ثناؤه يكون قد كتبها لي.

ولكن بقي شيء مهم، وهو: أن أراها، فرأي الناس فيها لا يكفيني، وفي قضية الجمال تختلف أذواق الناس اختلافًا كثيرًا. وقد شرع لنا الإسلام أن يرى الرجل من يخطبها، كما يشرع ذلك للمرأة أيضًا. وقد خطب المغيرة بن شعبة من الصحابة امرأة، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: «هل نظرت إليها؟» قال: لا، قال: «اذهب فانظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينكما».

وقال الإخوة الكرام الوسطاء: محمد بدر عبد الباسط، وعليّ خلف من سمنود، ومصباح عبده، ورمزي الدمنهوري من محلة أبو عليّ: نرتب لك لقاءً، تراها وتراك. قلت لهم: لقد حلفت أن لا أفعل ذلك؛ لما سبَّبْته من أذى نفسي لبنات الناس. ولكن يجب أن تساعدوني في رؤيتها بدون علمها. وهذا جائز شرعًا؛ ما دام القصد هو الارتباط الحلال وفق شرع الله.

وفعلًا رتبوا ترتيبًا حسنًا، فقد كانت الفتاة المرشحة صديقة صدوقة لشقيقة الأخ محمد بدر عبد الباسط، وكانتا زميلتين في الدراسة، وبينهما تزاور وتلاق مستمر، وكانت الخطة: أن تذهب شقيقة الأخ محمد للعروس، وتصحبها من بيتها لزيارة أخرى، وأن أنتظر في مكان معين مناسب في الطريق، ومعي بعض هؤلاء الإخوة، ليعرفوني: من هي منهما؟ وقد تحقق ما اتفقنا عليه، ومرت الفتاتان في المكان المعهود عند مكان اسمه: «سيدي محمد»، وقيل لي: إنها تلك صاحبة الفستان الأصفر، فقلت: الله أكبر. هذه هي العروس التي كنت أبحث عنها. لقد انفتح لها قلبي من أول نظرة. والعين رسول القلب، وسألت الله أن ييسر الأسباب لإتمام الأمر على ما يحب ويرضى.

وهنا قال الإخوة الأصدقاء الوسطاء: بقي عليك الآن أن تتحرك، وتبدأ الخطوة الأولى. وهي الاتصال بشقيقها الأستاذ سامي، الذي عرفته في السجن الحربي، وهو يعرفك من قديم كما نعرفك، وازداد معرفة بك داخل السجن قطعًا، وهو يقضي فترة التجنيد في القاهرة، ويخرج كل يوم خميس ليقضي إجازته عند خالته في حلوان، وتستطيع أن تقابله هناك. وأعطوني العنوان، وأوصوني بسرعة التحرك.

ولقد عرفت الأخ سامي فعلًا في السجن، واسترحت إليه؛ لما لمست فيه من ذكاء وإخلاص ونشاط وبشاشة وجه، وحسن خلق، وحضور شخصية، ولم أكن أحسب أن القدر سيربط بيننا بمصاهرة أبدية، وأنه سيصبح الخال الأكبر لأولادي؛ لذا حين عدت إلى القاهرة بدأت أتهيأ للقاء الأخ سامي في أول مساء خميس يأتي.

وذهبت إلى حلوان لأبحث عن العنوان الذي أعطاه لي الإخوة، ولم يكن لي معرفة ولا خبرة بحلوان؛ لهذا ضللت الطريق، وأخطأت العنوان في أول الأمر، وكلفني هذا مشيًا طويلًا على قدمي، وبخاصة أننا في الليل، ولكني لم أحس بطول المشوار، وهو مشوار محبب إلى نفسي، ولا بأس على المرء أن يجهد ويتعنى في تحقيق آماله، حتى يعرف قيمتها إذا تحققت.

ووصلت إلى منزل الخالة نجية خالة سامي وخالة العروس، ودققت الباب، فخرج الأخ سامي، وفوجئ بي، فقال: أهلًا وسهلًا، وتعانقنا، وجلسنا في حجرة الضيوف التي يسمونها: «الصالون». ورحب بي الأخ سامي الذي لم يرني منذ أيام الحربي، ولم يكن يتوقع هذه الزيارة التي لا يدري سببها. وقد كان يعرفني شيخًا معممًا، فها هو يراني قد غيرت زيي القديم، لأرتدي الحلة الإفرنجية «البذلة» .

وبادرت أنا بالحديث لأقطع دهشة المفاجأة، وقلت: هل تعرف يوسف القرضاوي؟ قال: كيف لا أعرفه؟! أخونا الكبير وأستاذنا. قلت: وهل تعرف إسعاد عبد الجواد؟ قال: كيف لا أعرفها وهي أختي وشقيقتي؟ قلت: بلا مقدمات وتطويل، لقد جئت لأخطبها، فما قولك؟ وأنا الآن موظف في وزارة الأوقاف، ومستقر والحمد لله.

قال: مبدئيًّا هذا يسعدني ولكنك فاجأتني، ولا بد من تمهيد الأمر عند العائلة، وخصوصًا الوالد، فأعطني فرصة حتى أرد عليك... ثم دخل عند خالته ليحضر لنا الشاي، ولكنه انتهز الفرصة وكلمها فيما جئت من أجله. فقالت له: أتح لي فرصة لأراه و«لأخطبه» نيابةً عن إسعاد ابنة أختي، فقال لها: يمكنكِ أن تريه من نافذة الحجرة إذا خرجت إلى الشارع. وقد علمت أنها رحمها الله خرجت إلى الشارع ونظرت وحدّقت، وقدمت تقريرًا كان في صالحي.

سرتني هذه المقابلة الأولى، وأستأذنت في الانصراف، منتظرًا الرد من الأخ سامي، بعد أن يكتب إلى والده، ويشاور العائلة. وكان سامي في صفي، واجتهد أن يقنع والده بقبولي خاطبًا لابنته الوحيدة، وأن يضفي عليَّ من الصفات و«المقبّلات» ما يروج عند والده رحمه الله.

ولم يكن لدى والده أي اعتراض عليَّ إلا من جهة واحدة، وهي: أني من الإخوان، ومن دعاتهم الناشطين، وأن أي محنة تأتي سأكون في طليعة المعتقلين، وقد جرب ذلك في سامي. وقال لزوجه أم سامي: يعني في أي بلوى تصيب الإخوان، سيكون ابنك وزوج ابنتك كلاهما في المعتقل! وكانت الحاجة أم سامي معي، فقالت له: لماذا نفترض البلاء قبل وقوعه؟ وهل نعرف نحن ما يخبئه المستقبل؟ كل الناس يمدحون هذا الرجل، فلماذا نخسره؟ لندع أمر المستقبل لله.

وكان ممن سألوه عني: الأستاذ مصطفى الحسني ابن عمة سامي والعروس، وهو أزهري يعمل في مهنة الصيرفة، وكان طالبًا قبل ذلك في معهد طنطا، وقد عاصرني فيه، فلما سألوه عني أوسعني مدحًا وثناءً، بما يعرفه عني، وأطراني في العلم والخلق والسلوك وحسن السمعة، ثم قال لهم: إن ابن عمته - الأستاذ يوسف النجار - زميل لي يعمل في الصيرفة، وسأسأله عنه وآتيكم بالمزيد، وابن عمتي هذا هو الذي كنت أسكن معه في السنتين الأولى والثانية بالمعهد الديني، وهو يعرفني منذ الطفولة ويعرف مدخلي ومخرجي، فأعطى تقريرًا عني، نقله مصطفى الحسني إلى خاله الأستاذ عبد الجواد، فزادهم ثقةً واطمئنانًا.

وكل الأزهريين في سمنود الذين سألوهم لم يجدوا بينهم أحدًا قال عني كلمة سوء. جزى الله الجميع عني خيرًا، وجعلني عند حسن ظنهم. وأرسلت الخالة نجية من حلوان إلى أختها أم سامي تقول لها: إنها رأتني، وإنها تنوب عنها وعن إسعاد ابنتها، وتحب أن تطمئنهما إلى صورة «العريس» وشكله وطوله وعرضه.

وكانت حصيلة هذا كله: الموافقة من العائلة عليَّ، وأبلغني الأخ سامي بذلك، على أن نلتقي لنتحدث في التفاصيل والإجراءات. والتقينا في أقرب خميس في حلوان في منزل الخالة نجية، التي تعرفت عليها وعلى زوجها الأستاذ عبد المنعم جابر، وقالت لي: إنها ساهمت في إنجاز الأمر بما قدمته من تقرير عني للعروس ولأمها، فهما رآياني بعينيها.

الرحلة إلى سمنود ثم المنصورة لشراء الشبكة:

واتفقت مع الأستاذ سامي على المهر و «الشبكة» وعلى موعد عقد القران. وفي أواخر شهر يوليو ذهبت إلى منزل والد العروس في سمنود لأول مرة، ومعي: السكر والشربات وعلب الحلوى التي توزع على المدعوين ونحو ذلك.

وعندما وصلت إلى المنزل قلت لهم، والعروس حاضرة، وقد رأوني لأول مرة: أما أنا فقد رأيت العروس من قبل رؤية خاطفة، ولكنها كافية، وهي لم ترني إلا الآن، ومن حقها ألا تتم الصفقة إذا لم تعجبها البضاعة عند المعاينة، والقاعدة الشرعية: أن من اشترى ما لم يره، فله الخيار إذا رآه. وضحكوا، وقالوا: يبدو أن العريس دمه خفيف. وقالوا: كيف نرجع في كلامنا بعد أن أحضرت الشربات ولوازم الفرح؟ قلت: ولكنا لا زلنا على البر.

وبت عندهم تلك الليلة، وجلست مع العروس في حضور أهلها، وتعرفت عليها، وتعرفت عليَّ، واستراح كلانا إلى الآخر، أو «دخل قلبه». وفي الحديث الصحيح: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف»، ويبدو أن روحينا قد تعارفتا فائتلفنا، وهذا من فضل الله.

رأي فيما يسمى «الشبكة»:

وفي الصباح تقرر أن نذهب إلى المنصورة لنشتري ما يسميه المصريون: «الشبكة»، ولا أدري بالضبط: من أي عهد أصبحت هذه الشبكة من الفرائض المقررة في الزواج؟ ولم يكن يعرفها المسلمون الأولون، بل هي لا تعرف في كثير من البلاد العربية والإسلامية. ولكن العرف أقرها وأمضاها، وللعرف اعتباره.

وقال الفقهاء في قواعدهم: «العادة محكمة»، وقالوا: «المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا»، على أن كثيرًا من الأعراف دخلت على المسلمين في كثير من البلدان في دنيا الزواج، فعسرت على الناس ما يسّر الله، وعقدت ما سهله الشرع. وخصوصًا أنهم التزموها كأنها أساسيات أو أركان، مثل: الشبكة، وكثرة الأحفال، وغلاء المهور، وشهر العسل، وغيرها.

على أني لا أجد مانعًا من قبول فكرة «الشبكة» على اعتبار أنها نوع من الهدية يهديها الخاطب إلى مخطوبته، وقد جاء في الحديث: «تهادوا تحابوا» على ألا يبالغ الناس فيها بحيث نرهقهم من أمرهم عسرًا، ونكلفهم شططًا، فالخير في الاعتدال والوسط، لا في الغلو والشطط.

ذهبنا إلى المنصورة أنا والعروس بصحبة الحاجة رابعة أم الأخ محمد بدر عبد الباسط، وشقيقته مجيدة صديقة العروس، والتي رتبت فرصة رؤيتي الأولى لها، وهي صديقة أم العروس، وقد أنابتها عنها في شراء الشبكة؛ لأنها مشغولة بإعداد الطعام للضيوف، وعلى رأسهم «عريس»  البنت الوحيدة، وكانت الحاجة رابعة سيدة من فضليات النساء، ولها خبرة بمحلات الذهب، وبائعيه، والثقات منهم، وتعرف ما المطلوب في هذه المناسبة.

ومشينا في شوارع المنصورة، وكانت خطواتي سريعة، فكنت أسبقهم بمسافة، فقالت لي الحاجة: يا أستاذ يوسف، لا بد أن تعوّد نفسك من الآن على المشي المناسب للنساء، فلا تسرع الخطوات كثيرًا، وإلا تركت زوجتك تمشي وحدها! وكانت نصيحة مهمة، فالمشي مع النساء لا تناسبه السرعة التي تعودتها في عهد العزوبة. واشترينا شبكة محترمة على ذوق العروس، وكان الذهب رخيصًا في ذلك الزمان، فكان ثمنها أقل من ستين جنيهًا فيما أذكر.

فكرة «الدبَل» فكرة دخيلة:

وكان من ضمن الشبكة: «دبلة» للعروس من الذهب يكتب عليها الحرف الأول من اسم «العريس»، وتاريخ الزواج «عقد القران»، ودبلة من الفضة للعريس يكتب عليها الحرف الأول من اسم العروس والتاريخ. وكان التاريخ هو: يوم (31/7/1958م)، وهو اليوم الذي اتفقنا فيه على عقد القران. وعندما تلبس الفتاة هذه «الدبلة» تُعرف أنها مخطوبة، فإذا زفت إلى زوجها نقلت الدبلة من يد إلى الأخرى، من اليمنى إلى اليسرى.

وفي اعتقادي أن هذه العادة «تلبيس الدبل» دخيلة على المسلمين، ولعلها مأخوذة عن النصارى، فعندهم خاتم الزواج، وله قدسية خاصة. على أية حال جاريت القوم في قضية الدبل هذه، ولكني اشترطت أن تكون من فضة لا من ذهب، كما يفعل أكثر الناس للأسف.

وبعد مدة خلعت دبلتي الفضية وقلت لزوجتي: إني لا أجد لها أصلًا، ولا ينبغي لمثلي أن يقلد الناس في ذلك. فقبلت ذلك مني، وتفهمت الأمر، جزاها الله خيرًا. فإن بعض النساء قد تتطير من ذلك، وتتوجس شرًّا من وراء خلع الدبلة. وعدنا إلى سمنود لنأكل «الديك الرومي» الذي أعدته حماتي ترحيبًا بالعريس، واحتفالًا بشراء الشبكة.

عقد القران:

وبعد يومين قضيتهما في سمنود - بالقرب من العروس - كانا من أسعد الأيام في حياتي، ذهبت إلى قريتي صفط تراب؛ لأدعو الأقارب والأحباب والمهمين من أهل القرية لحضور عقد القران في سمنود في عصر يوم (31/7/1958م).

وفي اليوم المحدد ذهبت مع الأهل والأقارب إلى سمنود لعقد العقد أو «الميثاق الغليظ» كما سمَّاه القرآن الكريم، وقد أعد سرادق أمام منزل العروس، وعقد العقد على بركة الله تعالى، بحضور هذا الجمع الكريم من أهل سمنود، وأهل صفط وطنطا والمحلة ومحلة أبو علي، وفي الليل عاد المدعوون من أهل صفط وطنطا وغيرها إلى بلدانهم، وبقيت أنا في منزل الأصهار، وقد أصبحت واحدًا منهم، فالمصاهرة أحد الرابطين اللذين يربط الله بهما بين الناس برباط طبيعي، وهما: النسب والصهر، كما قال تعالى: {وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ مِنَ ٱلۡمَآءِ بَشَرٗا فَجَعَلَهُۥ نَسَبٗا وَصِهۡرٗا} (الفرقان:54).

يا سبحان الله! إن هذه الكلمات القليلة: زوجتُكَ ابنتي فلانة على كتاب الله وعلى سُنّة رسول الله... وقبلتُ الزواج منها... بحضور الشهود، تحل للإنسان ما كان محرمًا، وتدخله في أسرة كان غريبًا عنها، وتنشئ بيتًا إسلاميًّا، يُضم إلى بيوت المسلمين.

بقيت مع عروسي، بعد أن أمست زوجة شرعية لي، ولم يعد أهلها حريصين على أن يكون بيننا رقيب من إخوانها الصغار، كما كان ذلك قبل العقد. وتحدثت إليها، وتحدثت إليَّ، وطال الحديث الذي لم ينقطع إلى اليوم، والحمد لله.

كان أصهاري كرماء معي، فلم يطلبوا مني من الصداق ما يؤود ظهري، وقالوا: ادفع ما تقدر عليه، فدفعت مائة جنيه مقدمًا، وسجلت عليَ  خمسين مهرًا مؤخرًا. ووفقًا للتقاليد المصرية، كان على والد العروس أن يعد لها جهازًا لائقًا: ثلاث حجرات: للضيوف «الصالون»، والطعام «السفرة»، والنوم. وعليَّ السجاجيد والنجف والمطبخ. وبعد يومين أو ثلاثة غادرت سمنود، بعد أن تعلق قلبي بعروسي، وتعلق قبلها بي، في انتظار أن يكمل تصنيع الجهاز، الذي يقوم به محل أثاث متخصص مشهور بالإتقان، يملكه أحد أقارب حماتي «ابن عمتها» .

وسافرت من سمنود إلى مدينة «بورسعيد» لأقضي نحو عشرة أيام على شاطئها، مع ثلة من المشايخ والإخوان، على رأسهم: شيخنا الشيخ محمد الغزالي، وقد تنازل بعض الإخوة عن شققهم على الشاطئ لننزل فيها، فكان مصيفنا بالمجان.

وقد أعطيت عنواني لزوجتي، فسرعان ما جاءتني رسالة منها، كان لها وقع الماء البارد الزلال على الجوف الظامئ المحترق. وقد حاول بعض الأصدقاء أن يخطفوا الرسالة مني حين عرفوا أنها من سمنود، ليعرفوا ماذا قالت لي زوجتي، ولم يحدث بيننا لقاء إلا أيامًا معدودة، ولم أمكنهم من ذلك.

ورددت عليها برسالة بثثتها ما في قلبي من شوق وحنين إلى لقاء قريب. وفي هذه الفترة حتى الدخول في (14/12/1958م)، تبادلنا جملة من الرسائل التي تحمل أصفى ألوان الود والحب والشوق، وهو نوع راق من الحب العميق النقي، الذي يبدأ بعد الزواج، بعد أن يعرف كل من الزوجين صاحبه، ويأنس به، ويسكن إليه، وتقترب روحه من روحه.

ولما انتهت رحلتنا إلى بورسعيد، عدت إلى سمنود؛ لأبقى بها يومًا أو يومين، ثم أسافر إلى القاهرة، وأحيانًا إلى قريتنا. وهكذا ما بين كل حين وآخر أخف إلى سمنود، لأطفئ بعض شوقي، وأروي بعض ظمئي، ولو كان لي أن أقيم هناك لأقمت، ولكن الظمآن يجزيه من الماء أيسره. ولا أريد أن أكون ثقيلًا على أصهاري، كما لا أحب أن أخرج على الأعراف السائدة في زيارة الزوج لزوجه قبل الدخول. وحسبي أن أمر بين حين وآخر، لمناسبة وأخرى، كمناسبة ذكرى المولد النبوي وغيرها. والشاعر يقول :

كم جئت ليلى بأسباب ملفقة  **  ما كان أكثر أسبابي وعلاتي!

والحق أن هذه الأشهر - منذ عقد القران إلى الدخول - مرت بطيئة بطء السلحفاة، وخيل إليَّ أن الزمن لا يتحرك، وأن الفلك لا يدور، وبت أستعجل الأيام حتى تزف إليَّ عروسي، ويجتمع شملي، ولا سيما أني أعيش وحدي في شقة لا يكاد يوجد بها شيء من أسباب الحياة، وأنا رجل لا أحسن خدمة نفسي، فأنا خائب في أعمال المنزل، لا أحسن الطبخ، ولا الغسل، ولا التنظيف، وكان إخواني طوال فترة دراستي هم الذين يقومون بهذه الأعباء عني تكرمًا منهم، وكان هذا من فضل الله تعالى عليَّ، ورحمته بي.

والآن لم يعد معي أحد، كان الأخ العسال يسكن معي، ثم ترك لي الشقة - فضلًا منه - لأتزوج فيها، فأصبحت وأمسيت وحيدًا مستوحشًا، أفتقر إلى من يؤنسني. وليس هناك عائق يمنعني من البناء بزوجتي غير الأثاث الذي يصنعه أصهاري عند قريبهم، وهو رجل مشهور بمطله، ويمكن أن يصنع الأثاث لشخص، فإذا جاءه عميل يشتريه في الحال ويدفع له ثمنه، فلا مانع أن يبيعه له، ومن هنا طلبت منهم أن يضغطوا عليه، وألححت في الطلب لمسيس حاجتي إلى من يقوم بشأني وشأن بيتي.

وقد استجابوا لرغبتي جزاهم الله خيرًا، وشرعوا يهيئون الأثاث، ويجهزون العروس بما يلزم لها، وتقرر الزفاف - بحمد الله - في (14/12/1958م)، ونقلنا الأثاث من سمنود إلى شقتي بالقاهرة، في حدائق شبرا شارع الشيخ عبد الرحمن قراعة رقم (15 أ).

وفي الليلة السابقة على الزفاف، أقيم حفل عائلي محدود، جمع الأقارب وأخص الأصدقاء في منزل العروس. وفي اليوم التالي (14/12) أعارنا عمدة قريتنا سيّد بك خضر سيارته لأمتطيها أنا وعروسي ووالدتها إلى شقتنا المذكورة، وقد حملت معها من ألوان الطعام الفاخر ما يكفينا لعدة أيام، وخصوصًا أننا في فصل الشتاء، فنعمنا بالرومي والبط والحمام.

وبعد أيام تركتني حماتي، وأوصتني بابنتها خيرًا، وقالت: إنها أمانة عندك. فقلت لها: إنها في عيني، وأنا أولى من يصون الأمانة إن شاء الله. لقد باتت جزءًا مني، كما أني جزء منها. وهذه حقيقة، فالزواج يقرب بين الزوجين حتى يجعل منهما كيانًا واحدًا، عبر عنه القرآن الكريم بقوله: {هُنَّ لِبَاسٞ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٞ لَّهُنَّ} (البقرة:187)، بكل ما توحي به كلمة {لِبَاسٞ} من القرب واللصوق والستر والدفء والزينة.

والعرب تعبر عن الرجل في هذه الحالة بكلمة «زوج»، وكذلك عن المرأة، فهي أيضًا «زوج»، كما قال تعالى لآدم: {ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ} (البقرة:35)، وكلمة «زوج» معناها: اثنان، ومعنى هذا: أن كلًّا منهما - وإن كان فردًا في الظاهر - هو زوج في الباطن أو في الحقيقة؛ لأنه يحتوي الطرف الآخر بمشاعره وعواطفه.

ابنتي البكر إلهام، ثم شقيقتها سهام:

وما هي إلا أسابيع حتى حملت زوجي بابنتي البكر «إلهام» والتي وضعتها عند أهلها في سمنود؛ لتكون تحت رعاية والدتها. وذلك في (19/9/1959م) وملأت علينا الطفلة الصغيرة بيتنا بهجة وفرحة وحركة. والمصريون يقولون: الأطفال قناديل البيوت، أي أنهم ينيرونها ويملأونها حياة وحيوية بصراخهم وضحكهم وبكائهم، ولا سيما الطفل الأول، الذي يحذر علماء النفس والتربويون أن يرخي أهله له العنان ويدللوه أكثر مما ينبغي فيفسدوه.

والمصريون يقولون أيضًا: خير النساء من بكرت بأنثى. وأحسب أنهم استنبطوا ذلك من قوله تعالى: {لِّلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَٰثٗا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ * أَوۡ يُزَوِّجُهُمۡ ذُكۡرَانٗا وَإِنَٰثٗاۖ وَيَجۡعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيمًاۚ إِنَّهُۥ عَلِيمٞ قَدِيرٞ} (الشورى: 49،50)، فبدأ سبحانه في هذه الآية بهبة الإناث.

ولم يكد يمر شهران حتى حملت زوجتي بابنتي الثانية سهام التي ولدت بالقاهرة في (5/9/1960م)، أي قبل أن تكمل إلهام سنتها الأولى، وقد كان لدي امتحان الدراسات العليا في ذلك اليوم، فخرجت من الصباح، ولا تشكو زوجتي من شيء، ثم جاءها المخاض، واشتد بها الطلق، وكان الأخ سامي صهري مع شقيقته ووالدته في شقتنا، فاضطر هو أن يقوم هو بإحضار المولدة، وما يلزم للولادة، وقال عني: أمه داعية له، خرج هو وحملني العبء!

وقد أصبحت إلهام وسهام كأنهما توءمان، لتقاربهما في السن، وتعلق سهام أن تكون مع أختها حينما جاء سن المدرسة، ثم قدر الله تعالى أن تدخل الأختان المدرسة في عام واحد، وأن تحصلا على الثانوية معًا، وأن تحصل كلتاهما على البكالوريوس بامتياز في سنة واحدة من كلية العلوم: إلهام في الفيزياء، وسهام في الكيمياء، وأن تعينا معيدتين كل واحدة في قسمها، وأن تتزوجا في أسبوعين متتاليين، وأن تحصل كل منهما على بعثة لدراسة الماجستير والدكتوراه، وأن تحصلا عليها من إنجلترا: إلهام في الفيزياء النووية، وسهام في الكيمياء الضوئية.

أما أولادي الخمسة الآخرون: «علا، وأسماء، ومحمد، وعبد الرحمن، وأسامة»، فقد ولدوا في دولة قطر بعد إعارتي إليها بعد، وسيأتي الحديث عن ذلك في حينه.

أعتبر أن زواجي كان موفقًا، وذلك من فضل الله عليَّ، فقد رزقت بزوجة كانت لي قرة عين، سعدت بها وسعدت بي، فهمتني وفهمتها، كان فيها جملة من الأخلاق الزكية، والفضائل المرضية؛ فهي مقتصدة في حياتها، مدبرة لأمر بيتها بالحكمة، لا تنظر إلى غيرها، وتقول: أريد أن أكون مثل فلانة، بل هي قانعة بعيشنا راضية به تمامًا.

وشاركتني الحلوة والمرة بلا تذمر، وعاشت تصبر على تنوع أعبائي بلا ضجر، وتجتهد في إسعادي بلا مَنٍّ ولا أذى، وبعد أن وسّع الله علينا في الرزق لم أرها يومًا تطالبني بما تطالب به النساء من زينة وحلي، بل أنا الذي أبادرها.

كانت لي نعم الزوج، ولأولادها نعم الأم، ولا غرو فهي هاشمية حسينية، نشأت في بيت دين وأخلاق، والشيء من معدنه لا يستغرب. ومن حسنات زوجتي: أنها مكملة لي، فأنا رجل نظري، وهي امرأة عملية، أنا لا أفهم في الميكانيكا ولا الكهرباء ولا الآلات شيئًا، وهي ماهرة في هذه الأشياء تصلح مهندسة.

وأذكر أني حينما سلمتها أول مرتب لي لتتصرف فيه: قسمته ثلاثة أقسام: قسم يدفع أجرة للسكن. وقسم للنفقات الشهرية المعتادة؛ للمأكل والمشرب والملبس وحاجات البيت. وقسم يدخر للمستقبل. وكان مرتبي لا يزال صغيرًا، فأنا في الدرجة السادسة، ولم أحصل إلا على علاوة واحدة، ومن حسن حظي: أن الأزهر صرف لنا ثلاثة جنيهات بدل تنقل تصرف عادة للوعّاظ، وأنا معين على وظيفة واعظ، وإن كنت لا أمارس الوعظ؛ فهو محظور عليَّ.

كما كنت أكتب في مجلة «منبر الإسلام» - وهي مجلة وزارة الأوقاف - في كثير من الأحيان بعض المقالات، فأحصل على مكافأة عن كل مقالة خمسة حنيهات، وكانت هذه علاوة مهمة.