درس النكبة الثانية.. لماذا انهزمنا.. وكيف ننتصر؟

تحميل الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه. وبعد...  

فإن الهزيمة التي حاقت بالعرب في عام 1967، وفقدوا فيها ما بين القنطرة والقنيطرة، وأصبح المسجد الأقصى في قبضة إسرائيل. كانت إحدى الكوارث الكبرى في تاريخ هذه الأمة... ولا يشبهها إلا نكبة التتار حين دخلوا بغداد، ودمروا الحضارة الإسلامية، وأسقطوا الخلافة العباسية، وخربوا من الدور، وأتلفوا من الكتب، وذبحوا من البشر، ما لم يكد يحدث مثله في التاريخ.

ومن حق هذه القارعة الهائلة في تاريخ العرب والمسلمين أن تتناولها الأقلام بالتحليل والدراسة لتأخذ منها العبرة، وتقتبس منها الفطنة.

ولقد كنت راغبًا عن الكتابة في هذا المجال، ليقوم به من هم أقدر مني عليه، وأخص به من رجال الفكر الإسلامي، ولكني وجدت شتى الأقلام تتناول هذه القضية من زواياها المختلفة، وجلها غريب عن هذه الأمة وتراثها وعقائدها وقيمها الأصيلة.

لقد ساءني أن أجد بين قومي من يعللون الأحداث الكبار ببساطة وضحالة عجيبة. فكارثة 1967 الكبرى سببها غلطة عفوية، أو خيانة من بعض الأشخاص. ولولا غلطة فلان، أو خيانة علان لتبدل الموقف من هزيمة ساحقة إلى نصر مؤزر.

وغاظني أن أجد من الناس من يتجاهل الحقائق الناصعة، وينكر الشمس في رابعة النهار ليثبت ما يستحق النفي وينفي ما يستحق الإثبات؛ ومن هنا قويت عزيمتي على الكتابة.

ثم كان أن طلبت إلى مجلة «حضارة الإسلام» الغراء كتابة مقال لها عن «دور الفكر في قضية فلسطين» في عدد خاص تصدره بشأن القضية، فكان ذلك هو السبب المباشر لكتابة هذه الصحائف التي أقدمها للقاريء اليوم.

وأنا لست من محترفي السياسة الحزبية، ولكن ديني علمني أن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.

والذي يهمني في القضية - بصفة أساسية - هو الجانب الفكري فيها؛ ولهذا فإني أتحدث هنا من زاوية الفكر أكثر من زاوية السياسة والتاريخ. والذي يعنيني أولًا هو مناقشة الأفكار وتصحيحها قبل أن يعنيني سرد الوقائع وتصنيفها.

إن مهمة الفكر في القضية أن يعمق الوعي بها، ويزيح الضباب والقتام من حولها، ويجليها للعقول والبصائر كما هي بلا مغالطة ولا تزييف ولا غلو ولا تحيز.

مهمة الفكر أن يرد الأشياء إلى أصولها، ويربط الحوادث بأسبابها البعيدة العميقة ولا يكتفي بما يطفو على السطح، ولا يخدع بما يبدو للناظر المتعجل كأنه ماء وهو في حقيقته سراب.

مهمة الفكر أن يعرفنا: من نحن؟ وما رسالتنا؟ وما دورنا؟ ومن عدونا وما حقيقته؟ وماذا نملك وماذا يملك؟ حتى نكون على بينة من أمرنا.

مهمة الفكر أن ينظر إلى الغد البعيد، ولا يخطف بصره الحاضر القريب، إنما يستفيد من درس الأمس، وآلام اليوم، لآمال الغد.

مهمة الفكر أن يوضح لنا الهدف ويرسم لنا الطريق، ويضع أيدينا على العقبات والمعوقات.هذه هي مهمة الفكر وهذا دوره؛ وهذا ما يجب أن يقوم به وخاصة في ديار الإسلام. فهل أدى الفكر دوره في ذلك؟

كان المفروض أو المظنون بعد نكبة 1967 أن يصحو الفكر السكران، ويستقيم الفكر الأعوج، ويظهر الفكر الأصيل، ويختبيء الفكر الدخيل السطحي والفكر الجبان. ولكن خاب الظن وطاش السهم. وأصبحنا نقرأ ونسمع ألوانًا من الفكر في تفسير الأحداث وتعليل الوقائع، لا تستحق إلا الرثاء.

إن مأساة فلسطين هي نذير إلهي للمسلمين ليعودوا إلى دينهم بعد طول غياب فيستيقظوا من سبات، ويحيوا من موات، والذي نؤكده من هذه الصحائف هو ضرورة العودة إلى الإسلام... الإسلام الصحيح... الإسلام الشامل الذي يعيدنا -كما كنا- خير أمة أخرجت للناس.

وبدون هذه العودة أجد المصير مخيفًا، والمستقبل يحفه الرهبة والظلام. ومطامع إسرائيل لم تنته بعد، ولم يكفها كل ما اغتصبته لتشبع نهمتها،  فلا زال في أحلامها أراض في العراق ومصر وفي الحجاز: في المدينة عند قبر الرسول ومسجده صلى الله عليه وسلم، حيث كان يقيم يهود بني قينقاع وقريظة والنضير، وغيرهم من يهود خيبر والحجاز.

فلنصدقن الله ليصدقنا الله، ولنغضب لله ليغضب لنا، ولننصره حتى ينصرنا، فقد قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ * وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعۡسٗا لَّهُمۡ وَأَضَلَّ أَعۡمَٰلَهُمۡ * ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأَحۡبَطَ أَعۡمَٰلَهُمۡ} (محمد:7-9)، فكيف ننتظر نصر الله وأزمتنا في أيدي الذين يكرهون ما أنزل الله؟

هذا هو رأيي الشخصي في المخرج من هذه النكبة الكبرى، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

شعبان 1388هـ - نوفمبر 1968م

د. يوسف القرضاوي