د. يوسف القرضاوي

السُّنَّة بما تضمنته من أقوال وأفعال وتقريرات وصفات للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ترسم "المنهاج التفصيلي" للحياة الإسلامية: حياة الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والجماعة المسلمة، في الدولة المسلمة.

وإذا كان القرآن الكريم يضع القواعد العامة، والمبادئ الكلية، ويرسم الإطار العام، ويحدد بعض النماذج لأحكام جزئية لا بد منها؛ فإن السُّنَّة تفصِّل ما أجمله القرآن الكريم، وتبيِّن ما أبهمه، وتضع الصور التطبيقية لتوجيهاته، فالقرآن بمنزلة الدستور، والسُّنَّة بمنزلة القوانين والمذكرات التفسيرية المبيِّنة؛ ومن هنا نجد في السُّنَّة تفصيلات الإيمان بالله تعالى، وملائكته وكتبه، ورسله واليوم الآخر، والقَدَر خيره وشره..

والحياة البرزخية مما يتعرض له المكلَّفون بعد الموت في قبورهم، من سؤال وامتحان، ونعيم أو عذاب، وأهوال البعث والنشور، والموقف في الشفاعة العظمى، والحساب الإلهي، وما يتبعه من أخذ الصحف ونشر الدواوين، ونصب الموازين، وإقامة الصراط، وما أعَدَّ الله في الجنة لمن أطاعه، مما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بَشر، وما أعَدَّ في النار لمن عصاه، من ألوان العذاب الحسي والمعنوي، كل هذا ما فصَّلته السُّنَّة حتى كأنه راي عين.

ولا يختلف المسلمون في الاستدلال بالسُّنَّة الثابتة عن رسول الله في مثل هذه الغيبيات أو "السمعيات" ونحوها من شئون العقيدة، فكل مسلم صَحَّ عنده حديث عن المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى اعتقد بمضمونه ولا بد، سواء أكان موضوعه العقيدة أو العمل. إنما الخلاف في أُصول العقائد التي يُطالَب كل مَن يدخل في الإسلام أن يؤمن بها والتي يُحكم على منكرها بالكفر، فهذه لابد أن تثبت بنص قطعي الثبوت، كالقرآن والسُّنَّة المتواترة، قطعي الدلالة، لا يحتمل التأويل؛ ولهذا لم يُكفِّر جمهور أهل السُّنَّة المعتزلة والخوارج، وغيرهما من الفرق، رغم إنكارها لبعض المعتقدات الثابتة بأحاديث صحيحة عن أهل السُّنَّة، وإن حكموا عليهم بالابتداع والانحراف عن منهج الصحابة ومَن تبعهم بإحسان.

ونجد في السُّنَّة تفصيلات العبادات الشعائرية، التي تمثل جوهر التدين العملي، كالعبادات الأربع: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، سواء ما كان منها فرضًا لازمًا كالصلوات الخمس اليومية، وصلاة الجمعة من كل أسبوع، والزكاة المفروضة، كل حول أو كل حصاد، وصوم رمضان من كل عام، وحج البيت مرة في العمر لمن استطاع إليه سبيلًا.. وما كان منها من باب التطوع.

فإذا نظرنا إلى فريضة كالصلاة؛ نجد السُّنَّة حافلة بكتبها وأبوابها الجَمَّة، من مقدماتها: الطهارة والوضوء، والغُسل والتيمم ومسح الخفين... إلخ ولواحقها: الأذان والإقامة والجماعة والإمامة. وبيان مواقيتها وأعدادها وكيفيتها، وأركانها وسَنَنها ومبطلاتها.. 

وبيان أنواعها مما هو فرض، وما هو نفل مؤكد كالسُّنَن الرواتب، والوتر، وما ليس كذلك كقيام الليل وصلاة الضحى، وما يُصلَّى في جماعة وما ليس كذلك، وما يُؤدَّى مرة أو مرتين في السنة كصلاة العيدين، وما يُؤدَّى بأسباب عادية كالكسوف والاستسقاء، أو خاصة كالاستخارة.

وإذا جئنا إلى الزكاة نجد بيان الأموال التي تجب فيها، ونُصبها ومقادير الواجب في كل منها، ومتى تجب، ولمن تجب؟ ومثل ذلك يقال في الصيام والحج والعُمرة، فالسُّنَّة هي التي فصَّلت أحكامها تفصيلًا. وهذه العبادات قد احتلت من كتب السُّنَّة حيزًا كبيرًا، حتى إنها في كتاب مثل "الجامع الصحيح للبخاري" تقدَّر بنحو الربع، فإذا أضفنا إليها ما يتعلق بالأذكار والدعوات وتلاوة القرآن ـ وهي لا شك جزء من العبادات ـ تبيَّن لنا مقدار احتفال السُّنَّة بها، وقد ختم البخاري جامعه بحديث منها.(1)

ونجد في السُّنَّة توجيهات مفصَّلة للأخلاق الإسلامية، التي بعث الله رسوله ليتممها، وهي تشمل الأخلاق الإنسانية التي لا تقوم الحياة الفاضلة إلا بها، وقد اعتبرتها السُّنَّة من شُعَب الإيمان، ومن فضائل المؤمنين، كما اعتبرت أضدادها من آيات النفاق، ورذائل المنافقين. وذلك كالصدق والأمانة، والسخاء والشجاعة، والوفاء والحياء، والرفق والرحمة، والعدل والإحسان، والتواضع والصبر، والحلم عند الغضب، والعفو عند المقدرة، وبر الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام الجار، ورعاية اليتيم والمسكين وابن السبيل.

كما تشمل ما نسميه "الأخلاق الربانية" التي هي قوام الحياة الروحية كمحبة الله تعالى، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والإخلاص له، والرجاء في رحمته، والخشية من عذابه، والرضا بقضائه، والصبر على بلائه، والشكر لنعمائه، والحب فيه، والبغض فيه، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، والورع عن المحارم، والزهد فيما عند الناس، والرغبة فيما عند الله.. إلى غير ذلك من الأخلاق والمقامات التي عني بها الصادقون من رجال التصوف، حتى قالوا: التصوف هو الخُلُق، فمن زاد عليك في الخُلُق؛ فقد زاد عليك في التصوف.

ونجد في السُّنَّة كذلك تفصيلات الآداب الإسلامية، التي تتصل بالحياة اليومية للإنسان المسلم، ويتكوَّن منها الذوق المشترك، والأدب المشترك للأمة الإسلامية، وذلك مثل: أدب الأكل والشرب، والجلوس والمشي، والتحية والسلام، والزيارة والاستئذان، والنوم واليقظة، واللباس والزينة، والكلام والصمت، والاجتماع والافتراق، فالمسلم عندما يأكل أو يشرب يُسمِّي الله تعالى، ويأكل بيمينه، ويشرب بيمينه، ويأكل مما يليه، ويقتصد في أكله، ويحمد الله إذا فرغ من طعامه.

وهكذا نجد السُّنَّة النبوية تضع للمسلم مجموعة مفصَّلة من الآداب المحدَّدة في سلوكه اليومي؛ تنشأ منها تقاليد مشتركة، تميِّز المجتمع المسلم عن غيره من المجتمعات، كما تجعل للفرد المسلم شخصية مستقلة متميزة في مظهرها ومخبرها تستعصي على الذوبان في غيرها.(2)  

ونجد في السُّنَّة كذلك تفصيلات لتكوين الحياة الأسرية على أساس مكين، وتنظيم علاقاتها، وضبط سيرها، وحمايتها من عوامل التفكك والانهيار، والتوجيه إلى الوسائل اللازمة للمحافظة عليها، وما يلزم كلا الطرفين عند تعذر الوفاق، ووقوع الطلاق، فنجد في السُّنَّة عناية بالغة بحسن اختيار الزوج أو الزوجة، والخطبة وأحكامها، والزواج وآدابه، وحقوق الزوجة على زوجها، والزوج على زوجته، وأحكام الطلاق والرجعة، والعدة والإيلاء، والظهار والنفقات، وحق الأولاد على والديهم، وحق الوالدين على أولادهم، وحق ذوي القُربى من المحارم والعصبات... إلى غير ذلك مما يقوم عليه "فقه الأسرة" أو ما يسمى "الأحوال الشخصية" و"الشريعة الإسلامية".

ونجد في السُّنَّة كذلك أحكامًا وفيرة تتعلق بالمعاملات والعلاقات الاجتماعية بين المسلمين بعضهم وبعض، مثل: أحكام البيع والشراء، والهبة والقرض، والمشاركة والمضاربة، والإجارة والإعارة، والكفالة والحوالة، والرهن والشفعة، والوقف والوصية، والحدود والقصاص والشهادات، وغيرها مما استند إليه فقه "المعاملات".

ومنها ما ينظِّم العلاقة بين الحكام والمحكومين، في الشئون الإدارية والمالية والقضائية وغيرها، مما استمدت منه كتب "السياسة الشرعية" وكتب "الأموال" و"الخراج" ونحوها. ومنها ما ينظِّم العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها، ويرسم الإطار لعلاقة المسلمين بغير المسلمين في السلم وفي الحرب. وهذا ما يقوم عليه فقه "السير" أو "الجهاد".

وقد عُني ببيان أسرار السُّنَّة في هذه الجوانب كلها حكيم الإسلام في الهند أحمد ابن عبد الرحيم، المعروف باسم شاه ولي الله الدهلوي (ت 1176هـ) في كتابه الفريد "حُجَّة الله البالغة"(3).

.....

- المصدر: "مدخل لدراسة السنة" لفضيلة الشيخ.

(1) للمسلم النمساوي المهتدى للإسلام محمد أسد في كتابه "الإسلام على مفترق الطريق" فصل قيم، بيَّن فيه قيمة السُّنَّة في الحياة الإسلامية وأثرها في نفسية المسلم وتميز الأمة، من خلال منطق علمي رصين. وهو بذلك يرد على أدعياء التحرر، الذين يقولون اليوم: ما قيمة أن يأكل الإنسان باليمين أم بالشمال، وأن يقدِّم الرجل اليمنى أم اليسرى... إلخ؟!! هداهم الله.

(2) هو حديث: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" عن أبي هريرة.

(3) من أهم الكتب التي ينبغي أن تُخدم وتُحقق، وتخُرَّج أحاديثه، وتُجلى غوامضه.