د. يوسف القرضاوي

بعض المستشرقين أمسكوا بعض الآيات وقالوا: إنَّ محمدًا لم يكن يفكر في عالميَّة الدعوة إلَّا في المدينة، بعد أن اسْتتبَّ له الأمر بعد صلح الحديبية، وبدأ يرسل إلى الملوك والأباطرة، وكسرى وقيصر، والنجاشي والمقوقس، وقبل ذلك في مكة لم يكن يفكر في عالميَّة الدعوة؛ بل كان يفكر في عشيرته الأقربين وفيمَنْ حول مكة، واستدلوا على ذلك بقول الله عزَّ وجلَّ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء:214). وبقوله تعالى: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (الشورى:7).

وهذا في الحقيقة لون من الاعتساف والتزييف؛ لأن الَّذي يريد أن يعرف الحقيقة لا بدَّ له من أن يقرأ القرآن ويعرف ما فيه، فالقرآن المكيُّ واضح وصريح في عالمية الدعوة، قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (ص:87، والتكوير:27)، وقال: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (القلم:52).

وهذا ورد في سور شتَّى من القرآن الكريم كسورة «ص»، وسورة «التكوير»، وسورة «القلم»، ومثل هذا قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107)، وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (الفرقان:1)، وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف:158)، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ:28).

وكل هذه الآيات مكيَّة، والعجيب أنَّ الآيات الَّتي صرَّحت بعالميَّة الدعوة آيات مكيَّة بالإجماع، وهذا يدلُّ على أن عالميَّة الدعوة لم تكن أمرًا قد خطر لمحمد صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد أن اسْتَتَبَّ له الأمر، ولكن الصحيح أنه بعد أن صالح محمد صلى الله عليه وسلم قريشًا واسْتَتَبَّ له الأمرُ، بدأ يفكر في نشر الدعوة الإسلاميَّة خارج الجزيرة العربيَّة، وقبل ذلك لم تكن الفرصة مواتية لمثل هذا؛ بل لم يُترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستريح يومًا ما.   

وأما قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء:214)، فهذا من مراحل الدعوة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «ابدأْ بنفْسِكَ ثُمَّ بمن تعول»، فالإنسان يبدأ أوَّل ما يبدأ بدعوة أهله، ودعوة جيرانه ودعوة من حوله، ثم يوسع النطاق شيئًا فشيئًا، فقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ}، يعني: بني عبد مناف ثم قريشًا، ثم بعد ذلك أهل مكة ومن حولها أو {أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (الشورى:7)، وهذه الحكمة في التدرُّج لا تنافي عالَمية الدعوة. فعلى من يتعرض لقضايا القرآن أن يتتبَّع اللفظ، وأن يتتبع المعنى حتَّى ينتهي إلى الرأي الصائب السديد.