عدنا إلى قطر بعد قضاء الإجازة في «الخليل» وباشرت عملي المعتاد في إدارة المعهد الديني، والمشاركة في النشاط الديني والثقافي العام في قطر.

ومضت الأيام في أعِنَّتها، يصبح الصباح، ويمسي المساء، وتشرق الشمس وتغرب، ويعمل الليل والنهار في عمر الإنسان لا يتوقفان، يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد.

وكان إخواننا في مصر، لا يزالون يرزحون تحت نِير المحنة، وينتظرون من الله الفرج، وقد قال تعالى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (الطلاق:7).  

حملة إعلامية في موسم الحج:

ومما اتجه إليه الإخوان في الخارج: أن يواجهوا النظام الناصري المتجبر والمفتري، بحملة إعلامية مضادة، حيث يستحيل عليهم في داخل مصر أن يردوا على إعلام عبد الناصر المسخر لتأييد كل ما تقوله السلطة من حق أو باطل.

اختار الإخوان أن تكون هذه الحملة في «موسم الحج» حيث يجتمع الحجيج من مصر، ومن الوطن العربي، ومن العالم الإسلامي، ومن خارج العالم الإسلامي، حيث تعيش الأقليات الإسلامية في آسيا وإفريقيا وأوروبا والأمريكتين وأستراليا. فهذا الموسم هو الزمان المناسب والمكان المناسب لتنظيم هذه الحملة ضد عبد الناصر، ونظام حكمه، القائم على البطش والقهر، وقمع المواطنين، وإرهاب كل شخصية أو جماعة تحاول أن ترفع رأسها لتقول في أي مناسبة للثورة: لِمَ؟ ناهيك بأن تقول: لا.

ووسيلته في ذلك: السجون والمعتقلات والمشانق، وأدوات التعذيب الجهنمية، التي لم يعرفها المصريون قط في عهد الملكية التي اتُهمت بالفساد والانحراف والمظالم، ولما سقطت ظن الناس أنهم تخلصوا من الظلم إلى غير رجعة، فوقعوا في ظلم أكبر وأضخم، لم يعرفوا له مثيلًا من قبل.

وكان لا بد لتنظيم هذه الحملة الدعائية الواسعة في موسم الحج من أمرين لا بد من الاطمئنان إليهما قبل الشروع في الإعداد لها.

شرعية هذه الحملة:

أولهما: مدى شرعية هذا العمل في موسم العبادة العالمية «الحج». وكان الرأي السائد: أن القرآن ربط عبادة الحج بـ «شهود المنافع» للمسلمين. فقال تعالى لإبراهيم: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ.. } (الحج: 27، 28).

ومِن هذه المنافع: أن يناصروا إخوانهم المستضعفين في الأرض، الذين يجرّعون من كئوس الإيذاء، ويذوقون من ألوان الإهانة والإذلال ما لا يكاد يحتمله بشر. وأن ينددوا بظالميهم المستكبرين في الأرض بغير الحق، الذين ساموهم سوء العذاب، {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (البروج:8).

ولقد استفاد الرسول الكريم من موسم الحج في السنة التاسعة، حيث بعث أبا بكر أميرًا على الحجيج المسلمين، وبعث وراءه عليًّا بسورة التوبة يقرؤها على الناس؛ ليحددوا موقفهم بعد أن أمهلتهم السورة أربعة أشهر. ويعلن عليّ باسم رسول الله: ألّا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وأن يوفى لكل ذي عهد بعهده.

وفي حجة الوداع: أعلن الرسول على الناس بيانه العام، الذي أكد فيه كرامة الإنسان، واحترام حقوق الإنسان، وصيانة الدماء والأموال والأعراض، وأبطل ما كان في الجاهلية من أوضاع كالربا وغيره، وقال للناس: "إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب".

فلا حرج إذن أن يُستخدم الحج فيما فيه مصلحة المسلمين؛ على أن يتم ذلك بالحكمة والرفق والأناة، دون إثارة أو مواجهة بين الناس بعضهم وبعض، حتى لا تحدث فتنة بين المسلمين.

موقف السلطات السعودية:

والأمر الثاني: أن توافق السلطات السعودية على ذلك. وكانت العلاقات بين الإخوان والمملكة العربية السعودية في ذلك الوقت، علاقة تواصل ومودة وتفاهم وتعاون، وذلك في عهد الملك الراحل - رجل المواقف العربية والإسلامية التي لا تُنسى - فيصل بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله. ولا ريب في أن كل الذين تعاملوا مع هذا الرجل أثنوا عليه ثناءً عاطرًا، من حيث فهمه ووعيه ودينه وأمانته وشجاعته في تبني الحق والدفاع عنه.

سعي الإخوان لإنشاء رابطة العالم الإسلامي في مكة:

وكان الإخوان قد بدأت صلتهم تتوثق بالمملكة من قبل في عهد الملك سعود، الذي استجاب للإخوان بإنشاء «رابطة العالم الإسلامي». فقد كان الإخوان - وفي مقدمتهم سعيد رمضان، ومعه كامل الشريف، وعبد الحكيم عابدين وغيرهم - هم الذين أقنعوا المسئولين بضرورة تأسيس هذه المنظمة العالمية، وبينوا أهدافها، ورسموا طرائقها، وقدموا مسوّدتها للمسئولين، ورشحوا لهم أعضاءها من الشخصيات الإسلامية العالمية، التي تشترك مع الإخوان في الهمِّ الإسلامي العام، وفي الوعي بقضايا الأمة الكبرى، ووسائل النهوض بها، مثل: مولانا أبي الأعلى المودودي من باكستان، ومولانا أبي الحسن الندوي من الهند، والدكتور محمد ناصر من إندونيسيا، والشيخ محمد محمود الصواف من العراق، والشيخ حسنين مخلوف من مصر، وغيرهم من رجال العلم والفكر والدعوة والجهاد.

الشيخ مناع القطان:

وكان من الإخوان الذين وصلوا إلى المملكة مبكرين: عدد ممن يعملون في سلك التدريس، على رأسهم: الأخ العالِم الأزهري المتمكن الشيخ مناع خليل القطان، خريج كلية أصول الدين، وزميلي في الدراسة وفي السكن، وقد تخرج قبلي بسنتين، وأعير إلى المملكة سنة (1953م - 1954م) الدراسية، أي قبل محنة الإخوان مع عبد الناصر بقليل؛ فنجاه الله منها، واختير للتدريس بالمعاهد والكليات الشرعية بالرياض، قبل أن تنشأ جامعة الإمام محمد بن سعود، وتضم هذه الكليات إليها.

وقد حاز الشيخ مناع ثقة المشايخ وطلبة العلم بالرياض؛ لأصالة جانبه العلمي، الذي تكون في رحاب الأزهر، ومرونة شخصيته، وتمتعه بالأناة والحكمة في مواجهة الأمور، وثقة الإخوان به، ممن يعملون في المملكة من أمثال الشيخ فتحي الخولي، والشيخ مصطفى العالم، وغيرهما ممن يعملون في مدن المملكة المختلفة في نجد والحجاز والمنطقة الشرقية.

وكان مما ساعد فضيلة الشيخ مناع على احتلال مكانته: وجود عالم كبير من قريته نفسها «شنشور، منوفية» سبق إلى المملكة، ونال الاحترام والتقدير من كبار مشايخها، وأمسى مقدمًا فيهم، وبخاصة أنه سلفي العقيدة، ومن رجال أنصار السنة في مصر، فضلًا عن أنه كان رجلًا ضليعًا في العلم، حكيمًا في الرأي، قويًّا في الدين، متينًا في الخُلُق، يتميز بالاعتدال والتوسط في النظر إلى القضايا، ومعالجة المواقف.

هذا العالم الجليل هو الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله، الذي تتلمذتْ عليه أجيال من أبناء المملكة، وكان عضوًا في هيئة كبار علمائها، ولجنة الإفتاء، وكانت مرتبته تلي مرتبة الشيخ ابن باز، وكان مهيبًا محترمًا محبوبًا مسموع الكلمة من الجميع؛ لذا كانت معرفة الشيخ عبد الرزاق بالشيخ مناع، وقربه منه، وحسن رأيه في الإخوان؛ مما مهد السبيل له لينال وضعه.

ولا غرو أن أصبح الشيخ مناع هو وجه الإخوان، والممثل لهم أمام الجهات الرسمية السعودية، وأضحت له ثقة عندهم، فإذا أراد الإخوان شيئًا من الحكومة السعودية نقلها إليهم الشيخ مناع، عن طريق لقائه الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية، أو الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير الرياض، أو الأمير أحمد بن عبد العزيز نائب وزير الداخلية. وكذلك إذا أرادت المملكة أمرًا من الإخوان استدعت الشيخ مناعًا، وأبلغته بما يريدون، أو فاوضوه فيما يطلب منهم، وقد يرجئ الإجابة حتى يشاور إخوانه، ثم يرجع إليهم.

وفي عهد الملك فيصل رحمه الله ازدادت صلة الإخوان به توثقًا وقوةً، وأضحى كثير من الإخوان مجندين لأنفسهم وجهودهم في تأييد السياسة الإسلامية التي ينهجها الملك فيصل، وهي سياسة تتفق مع أهداف الإخوان، وربما كان لهم دور في إغرائه بها، ودفعه إليها، وتثبيته عليها.

ولا غرو أن رأينا مثل الدكتور توفيق الشاوي - القيادي الإخواني المصري - يعمل في سبيل البنك الإسلامي للتنمية، ويضع له أسسه وقواعده القانونية.

ورأينا الشيخ محمد محمود الصواف - مؤسس حركة الإخوان في العراق - يحمل رسائل من الملك فيصل إلى رؤساء إفريقيا في حركة ذكية واعية، قادها فيصل بحكمة ومهارة؛ لتأليب إفريقيا على إسرائيل، وضمها إلى الجانب العربي. والحق أن سياسة الملك فيصل هذه آتت ثمراتها بسرعة، وقاطعت معظم الدول الإفريقية - وبخاصة الإسلامية منها - الكيان الصهيوني.

ورأينا إخوة من الأساتذة التربويين في وزارة المعارف التي يقودها الرجل الفاضل الشيخ حسن عبد الله آل الشيخ، وقد شكلت منهم لجان لتغيير المناهج التقليدية، إلى مناهج معاصرة، تراعي الأسس التربوية، وتجمع بين الأصالة والتجديد، كما ألفت كتبًا حديثة في ضوء هذه المناهج لا تغفل العقيدة الإسلامية، ولا القيم الإسلامية، كما لا تغفل روح العصر وتياراته في المضمون والأسلوب.

الذي أقصد إليه هنا: أن المملكة في ذلك الحين كانت مهيأة لتسمح للإخوان بحملتها في موسم الحج (1386هـ - 1966م)، وكان هجوم عبد الناصر على المملكة ورجالها وعلى الملك فيصل خاصة؛ قد أحدث قطعية بين البلدين، وتوترًا في العلاقة بينهما. وكان هذا من فضل الله على الإخوان ورحمته بهم، فهو سبحانه إذا أراد أمرًا هيأ له الأسباب، وأزال من طريقه الموانع.

قرر الإخوان في الخارج إصدار عدة كتب تندد بسياسة عبد الناصر، ومظالم عهده، وخصوصًا ما صنعه مع الإخوان، ممن علق على حبال المشانق جهرة، ومَن قُتل تحت سياط التعذيب خفية، ومَن قُتل في السجون علانية، برصاص الحراس، وهم أمانة تحت أيديهم، كما في مذبحة ليمان طرة الشهيرة، ومَن عوِّق أو شوه أو أصيب بآفة في جسده، ومن ضاع مستقبله، من خسرت تجارته، ومن بارت زراعته، ومن جاعت ذريته، وتعرضت لمحن شداد، ومن تركت الكرابيج الساخنة آثارًا باقية في بدنه، وأنا واحد منهم.

وطفق الإخوان يهيئون هذه الكتب، أو الكتيبات، ويحضرون مادتها، ويستكتبون أهل الذكر والخبرة فيها. وظهر منها خمسة، بعدد صلوات اليوم والليلة، كان أحدها بعنوان: «هذا المتهم اعترف». وقد وضعت صورة المتهم على الغلاف، وآثار التعذيب بادية على وجهه وهيئته، تشهد بأن اعترافه قد انتزع منه بما سلط عليه من الأدوات الجهنمية، التي تنهش لحمه، وتسحق عظمه، وتهدر آدميته.

وآخر بعنوان: «لماذا أعدم سيد قطب؟»، وفيه تحليل للأسباب الحقيقية التي دفعت أجهزة المباحث والمخابرات لـ «طبخ» هذه القضية كلها، وتلفيق هذه الدعاوى، وتضخيم الصحيح منها، حتى جعلوا من القط جملًا، ومن النملة فيلًا!!

وكان ثالث هذه الكتيبات: «الوثيقة الخطيرة» التي وقع عليها خمسة هم:

1- رئيس مجلس الوزراء.

2- قائد المخابرات العامة.

3-قائد المباحث الجنائية العسكرية.

4- مدير المباحث العامة (أمن الدولة الآن).

5- مدير مكتب المشير (شمس بدران) .

وهؤلاء يكوِّنون اللجنة التي شكلها السيد رئيس الجمهورية لدراسة واستعراض الوسائل التي استُخدمت، والنتائج التي تم الوصول إليها، بخصوص مكافحة جماعة الإخوان المنحلّة، ولوضع برنامج لأفضل الطرق التي يجب استعمالها، في قسمَيْ مكافحة الإخوان في المخابرات والمباحث العامة، لتحقيق هدفين:

1- غسل مخ الإخوان من أفكارهم.

2- منع عدوى أفكارهم من الانتقال إلى غيرهم.

وقد وضعت اللجنة بعد عشرة اجتماعات متتاليات: الخطة التي تهدف لمحاربة «تيار التديّن» في مصر، فهو الذي يفرخ هؤلاء الإسلاميين، الذين يعارضون الثورة، ويقدمون الفكر البديل عنها، ولا يبالون بالتضحية في سبيلها. وكلما ضربت الثورة جيلًا من هؤلاء، وحطمت قوته، برز جيل جديد، يحمل اللواء، ويعلي البناء، ويجيب النداء، ويقدم الفداء، ويتحمل البلاء.

ومن أين يأتي هذا الجيل؟ إنه يتولد من رحم التيار الديني العام؛ لهذا لا بد من محاصرة هذا التيار من منبعه، ومحاولة إضعافه، إن لم يمكن احتواؤه.

ولم يكتف الإخوان في هذا الذي أعدوه ووزعوه بهذه الوثيقة؛ بل ذكروا نماذج عملية من آثار تطبيقها.

وقد قدم أخونا المستشار علي جريشة هذه الوثيقة للمحكمة التي حاكمته وبرأته، ولكنها لم تعتمدها؛ لأنها غير مختومة بخاتم الدولة!!

قصيدتي النونية:

وكان عليّ دور محدد، طلب مني في هذه الحملة، وهو قصيدتي التي اشتهرت لدى الإخوان باسم: «النونية» لأني قلت في مطلعها:

نونيْةً، والنون تحلو في فمي       أبدًا، فكدت يقال لي: ذو النون!

صوّرت فيها ما استطعت بريشتي       وتركت للأيام ما يعييني

ما همت فيها بالخيال، فإن لي     بغرائب الأحداث ما يغنيني

أحداث عهد عصابة حكموا بني       مصرٍ، بلا خلق ولا قانون

أنست مظالمهم مظالم من خلَوْا       حتى ترحمنا على نيرون!

وقد مر على قارئي الكريم فقرات من هذه الملحمة في مناسباتها في الجزء الثاني من هذه المذكرات.

وكان عليَّ أن أكتب مقدمة لهذه القصيدة، وأن أعلق على بعض أبياتها، وأعرِّف ببعض الأسماء التي ذكرت فيها، مثل: حمزة البسيوني قائد السجن الحربي، وأمين السيد «صول» السجن، ومن حولهما من الجنود وزبانية التعذيب.

ولكن كانت هناك مشكلة قبل ذلك كله، فقد أنشأت هذه القصيدة في أواخر سنة 1955م، أي منذ عشر سنوات أو تزيد، وللأسف لم أكتبها، وكنت معتمدًا على الذاكرة في حفظها، لأني كنت أخشى أن أكتبها، فتهاجم المباحث منزلي لسبب أو لآخر، وتفتشه، فتجد القصيدة، وقد ذكرت فيما مضى أني استدعيت إلى المباحث ليسألوني عن هذه القصيدة خاصة؛ وأجبت معرِّضًا بالكلام ما يفهم منه الإنكار.

وكان عليَّ بعد أن ذهبت إلى قطر أن أكتبها، ولكن شغلتني شواغل العمل الجديد، والبلد الجديد، والشعور بالأمن، فلم أفكر في هذه القصيدة، ولم يطلب مني أحد أن أكتبها، أو أنشدها. فنسيت الكثير منها. ولم يعد ما أحفظه منها مترابطًا، بل هناك فجوات بين بعض القصيدة وبعض، وقديمًا قالوا: حياة العلم مذاكرته. أما ترك العلم دون مذاكرته فهو على وشك النسيان، ولا سيما مع طول الزمان. وقد قال شوقي: اختلاف النهار والليل ينسي.

وهنا كان عليَّ أن أبحث عن الإخوة الذين كانوا يحفظون القصيدة ممن كانوا معي في السجن الحربي، ومنهم أخوان كريمان من إخوان طنطا، وهما: سعد زين العابدين سلامة، أصغر طالب كان في السجن الحربي، وكان في الشهادة الثانوية، وزميله فؤاد قنديل، وكان في السنة الأولى في كلية الصيدلة، وكان مشهورًا بقوة الذاكرة، وسرعة الحفظ، حتى إنه حفظ القرآن كله - وهو في السجن الحربي - في أقل من سنة.

وقد علمت أن كلًّا منهما - سعدًا وفؤادًا - قد غادرا مصر منذ سنوات إلى ألمانيا، واستقرا فيها، وأكملا دراستهما بها، وتزوجا من ألمانيتين، بعد أن صمما ألّا يعودا إلى مصر، بعد تجربة السجن الحربي؛ إلا أن تتغير الأوضاع فيها، وتهب على الناس رياح الحرية، التي ينعمون بها في بلاد الإفرنج، وقد طعموا فيها من جوع، وأمنوا من خوف.

وبالسؤال والبحث عرفت عنوان الأخ سعد وطلبت إليه أن يرسل إليَّ كل ما يحفظه من النونية، ويستعين بالأخ فؤاد، وكل من يعرف من نزلاء السجن الحربي.

وكان سعد حفظه الله عند العهد به، فراسل إخوانه وهاتفهم هنا وهناك، وبعث إليَّ بنحو مائة وتسعين بيتًا من القصيدة. وهي أكثر من ثلاثمائة في الأصل، وبإضافتها إلى ما أحفظه مما لم يرسلوه إليَّ أمكن إعادة بناء القصيدة أو الملحمة، ولكن بقيت فيها فجوات اجتهدت أن أملأها بما يفيض به الخاطر، وإن لم يكن - غالبًا - في قوة الأصل الذي ظهر في السجن متدفقًا كالسيل، سلسًا عذبًا كالماء الزلال.

واكتملت القصيدة في نحو ثلاثمائة بيت، وقدمت لها، وعلقت عليها بما يفي بالمقصود من نشرها. وإن تبين لي بعد ذلك أن بعض الإخوة من زملائنا في السجن الحربي، يحفظ منها أبياتًا، لم تودع في القصيدة، وأذكر أني كنت ليلة في الإسكندرية، وقام أحد الإخوة الدعاة الأستاذ محمد عبد المنعم وألقى كلمة ضمنها أبياتًا كثيرة من النونية، مما لم يوجد فيما نشرته منها.

وفي هذا الصيف (صيف 2003م) كنت مدعوًّا على غداء مع عدد من الإخوة، بدعوة من المرشد العام المستشار مأمون الهضيبي رحمه الله؛ ففوجئت بالأستاذ أحمد أبو شادي، وقد كان زميلًا لنا في السجن الحربي، ومن رواة القصيدة: ينشد أبياتًا مهمة من النونية، معظمهما مما لم يُنشر.

وقد أرسلت ما جمعته إلى الإخوة في المملكة، وراجعها عدد من الإخوان الشعراء، مثل: الأستاذ محمد المجذوب الأديب السوري الشاعر الداعية، وقد حوروا أشياء قليلة منها، فقد كان آخر القصيدة يشتمل على دعوات أناجي فيها الله جل ثناؤه، وأسأله كشف الغمة، وتفريج الكربة التي نحن فيها. وكان منها:

يا رب خلصنا من ابنَيْ سالم     ومن ابن عبد الناصر المفتون!

يا رب إن السيل قد بلغ الزبى    والأمر في كاف لديك ونون

باسم الفراخ الزغب هيض جناحها      فقدوا الأب الحاني بغير منون

بدموع زوج غاب عنها زوجها     وبكل دمع في العيون سخين

فرأى الإخوة تغيير البيت الأول من هذه المناجاة؛ لما يشتمل عليه من أسماء أشخاص، وعدلوه إلى هذه الصيغة العامة:

يا رب خلص مصر من أعدائها      وأعن على طاغوتها الملعون

وأحسب أن هذا من صنع الأستاذ المجذوب رحمه الله

نشرت القصيدة ضمن كتاب اختار له الإخوة عنوانًا، وهو: "نافذة على الجحيم"، يقصدون: جحيم السجن الحربي، وما احتوى من عذاب وأهوال جسام، ونشروا القصيدة تحت عنوان: "مشاهد من الجحيم".

أزعجت هذه الحملة الإعلامية المكثقة السلطات المصرية؛ لما قدمته من حقائق ووثائق، وشهادات عدول، بأسلوب قوي مؤثر، وقد وزع منها عشرات الآلاف، على مختلف الحجيج من أنحاء العالم. وقد كان عبد الناصر حريصًا على تحسين صورته في العالم، ويبذل إعلامه جهودًا جبارة في ذلك، وتنفق عليه الملايين بسخاء. ولكن هذه الحملة أبطلت سحر إعلامه، وألغت أثره.

إذا جاء موسى وألقى العصا      فقد بطل السحر والساحر!

ولقد قال أحد الحكماء: تستطيع أن تخدع بعض الناس كل الوقت، وتستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت، ولكنك لن تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت!

لا أذكر في أشهر السنة الدراسية الأولى حدثًا مهمًّا يستحق التسجيل، إنما وقعت الأحداث المهمة - بل الشديدة الأهمية - في أواخر العام الدراسي.

حادث التسمم في الدوحة:

أول حدث وقع في الدوحة في أواخر شهر مايو 1967م: إصابة عدد كبير من الناس بتسمم، أدخل منه كثيرون إلى المستشفى الوحيد في الدوحة، وهو مستشفى الرميلة، حتى ضاق بالناس، وتوفي أحد المدرسين المصريين - وهو مدرس علوم - في هذا التسمم. وفزع الناس من هذا الأمر غاية الفزع.

وقيل: إن سببه أن الدقيق - أو الطحين - في أحد مخابز الدوحة، كان غير سليم، وقد أصابه تلوث أو تعفن، لا أدري من أين جاء؟ وقيل غير ذلك.

د. عز الدين يودع معارف قطر:

وكان أخونا وصديقنا الدكتور عز الدين إبراهيم مساعد مدير المعارف، قد قدم استقالته من منصبه، وأراد أن يستقل بالعمل العلمي الجامعي الأكاديمي، ويستريح من العمل الإداري. وحق له ذلك، فعز الدين من العقليات النادرة التي لا يجوز أن تدفن في الأعمال الإدارية، ويُحرم الناس من نتاجها العلمي والفكري. وأعتقد - بحكم مخالطتي له ومعرفتي به - أن لديه مواهب وقدرات يستطيع بها أن ينتج إنتاجًا يكون له وزنه وقيمته في عالم الفكر.

لهذا فرحت بقراره التعاقد مع جامعة «الرياض» على العمل أستاذًا للغة العربية والأدب العربي، وشجعته على ذلك. وكنت ناويًا أن أقيم له «حفل تكريم» يليق بمقامه بهذه المناسبة، ولكن جاء حادث التسمم، وانشغال الناس، وانزعاجهم في أول الأمر انزعاجًا شديدًا بخطره عليهم، دون أن يعرفوا له سببًا؛ مانعًا من إقامة هذا الحفل في هذا الوقت الذي كان مناسبًا له، قبل انتهاء العام الدراسي.