أذكر تجربة مهمة شهدتها في ذلك الصيف في مدينة إستانبول؛ فقد بدأت فيها حركة دينية، وبدأ وعي إسلامي يؤتي ثمراته، على مستويات عدة. وكان من هذه الثمرات: الدعوة إلى صلاة الفجر في أحد المساجد الكبرى كل فترة معينة، وتولى الدعوة إليها الأخ شوكت الصحفي المعروف صاحب جريدة «بوجون» اليومية، و «بوجون» معناها: اليوم.
والمطلوب: أن يجتمع الناس في مسجد محدد لصلاة الفجر، وقد حضرت هذه الصلاة مرتين: مرة في جامع السلطان أحمد، ومرة في جامع «بايزيد». وقد تجمع في هذه الصلاة عشرات الألوف، كنت تجد الناس قبل الفجر، كخلايا النحل، متجهين إلى المسجد المقصود بالحافلات، وباللوريات، وبالتاكسيات، وبالدراجات، ومشيًا على الأقدام. منظر - والله - يشفي صدور المؤمنين، ويغيظ الكفار والذين في قلوبهم مرض.
لا يفعل المصلون شيئًا غير الصلاة، لا درس ولا خطبة ولا هتاف، ولا شيء من هذا. إنه تجمّع عابد صامت، ولكنه صمت أقوى وأبلغ من كل كلام. وبعد الصلاة يقوم الأخ الداعي إلى هذا التجمع الإيماني - اسمه: رفعت أو شوكت، ونسيت باقي اسمه - فينادي الناس بالانصراف.
هذا التجمع الصامت أزعج القوى العلمانية، يكفي أنه أثبت قدرة الإسلاميين على تجميع أعوانهم - إذا دعوهم - في أي وقت من ليل أو نهار. وأن استجابة الأعوان بهذه الكثافة، وبهذه السهولة، وبدون تقديم أي مساعدة؛ لهو أكبر دليل على أن في الزوايا خبايا، وأن المستقبل حافل بكثير من التوقعات.
وهكذا ظللنا كل يوم، أو كل عدة أيام نزور معلمًا من هذه المعالم الشامخة، التي تركها آل عثمان، أمارات ناطقة على علو كعبهم في الحضارة والعمران. ومنها: متحف «طوب قبي» أكبر متاحف إستانبول، والذي يضم آثار معظم سلاطين آل عثمان، وقد ظللنا ساعات نطوف فيه حتى كلت أقدامنا، وزرنا الحجرة التي تضم بعض الآثار النبوية، ومنها: الرسالة التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، وقد أجريت بعض الدراسات على هذه الرسالة، فثبتت صحتها، وألفاظها هي نفس الألفاظ التي روتها كتب الحديث؛ فكان هذا برهانًا إضافيًّا على صدق السنة النبوية الشريفة، وثبوت ما روي فيها بأسانيد صحاح.
ومِن المعالم التي زرناها: قصر السلطان عبد المجيد، ويسمى: «ضُلْمة بخشة»، وهو - وإن دل على ما وصل إليه السلاطين من غنى ورفاهية وفخامة وأبّهة تبهر الأبصار - يدل على مدى انغماس السلاطين في آخر عصورهم بمظاهر الترف، والإغراق في أسباب المتعة والسرف، وهي بداية التدحرج والنزول من القمة إلى السفح. كما يقرر ابن خلدون في مقدمته.
مسجد السلطان الفاتح:
ثم زرنا مسجد السلطان محمد الفاتح، وهو أول مساجد إستانبول، بناه الرجل الذي فتح الله علي يديه القسطنطينية، وقد حاول المسلمون منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم أن يفتحوها، ومات على أسوارها سيدنا أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد دُفن خارج أسوار المدينة، ثم توسعت المدينة فأصبح قبره هناك داخلها، وبني بجواره مسجد، وسمي باسمه حي كبير باسم: «أيوب».
وكان الخلفاء يأخذون البيعة في هذا المسجد، ويهتمون بأمره، ويعتقدون أن فيه بركة خاصة، على أن البركة الحقيقية إنما هي في العزائم الصادقة، والنيات الخالصة، والأعمال المتقنة.
كان الصحابة يريدون أن ينالوا الحظوة بفتح القسطنطينية، التي بشر بفتحها الرسول الكريم، وادخر الله هذا الفضل لهذا الفتى العثماني الذي فكر في فتحها، وهو ابن التاسعة عشرة، وافتتحها وهو ابن الثالثة والعشرين، فتحها في الحادي عشر من شهر جمادى الأولى سنة (857هـ)، الموافق (28/5/1453م). قرأ هذا الشاب في كتب الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش»(1)، فتاقت نفسه أن يكون هذا الأمير، وأن يكون جيشه هو ذلك الجيش. وفعلًا كتب له القدر أن يفتحها.
أجل، كتب الله هذا الفخر لمحمد بن مراد، الذي لُقِّب بـ «محمد الفاتح» الذي غيّر اسم المدينة، فسميت: «إسلامبول» أو «إستانبول» بدل اسمها القديم، الذي نُسبت فيه المدينة إلى الملك الروماني الشهير «قسطنطين» الذي كان وثنيًّا، ثم تحول إلى النصرانية، ولكنه لم يتحول إلى النصرانية الحقيقية، بقدر ما حول النصرانية إلى ديانة مطعّمة بالوثنية الرومانية؛ حتى قال بعض أئمة المسلمين: لم تتنصّر روميّة، ولكن تروّمت النصرانية! زرنا مسجد الفاتح وملحقاته، وقرأنا الحديث الذي علق فيه: «لتفتحن القسطنطينية ...» الحديث.
فتح جدير أن يُذكر فلا يُنسى:
هذا الفتح أو هذا المجد الذي ادخره الله للأتراك، والذي كان من حقهم أن يعتزوا ويغالوا به، ويفخروا على غيرهم: جاءت العلمانية الأتاتوركية، فأهملته، بل غشته بغشاء كثيف، حتى يُنسى فلا يُذكر، ويُجهل فلا يُعلم، إلى أن جاء الزعيم الإسلامي د. نجم الدين أربكان، رئيس حزب الوفاة الإسلامي؛ فأحيا هذه الذكرى، وجعل منها مناسبة سنوية يُدعى فيها رجالات الدعوة والفكر في العالم الإسلامي.
وقد دُعيت للمشاركة فيه مرتين، وشهدت هذا الحفل الرائع، الذي يمثل فيه الفتح، ويتكلم فيه أربكان وبعض رجاله، وبعض ضيوفه، ويحضره نحو مائتي ألف من الأتراك. وقد تكلمت في تينك المرتين كلمة بهذه المناسبة، كان لها أثرها في أنفس إخواننا الأتراك. ولا أدري: هل بقي الاحتفال بهذه المناسبة كما كان؟ أو توقف بعد أن حوكم أربكان، وحُظر عليه العمل السياسي فترة من الزمن؟
لقاء الشيخ أمين سراج:
كان مِن أهم ثمرات زيارة مسجد الفاتح: لقاء زميلنا وأخينا الكريم، وخريج كلية الشريعة بالأزهر الشريف: الشيخ أمين سراج، أحد مدرسي مسجد الفاتح، وقد سُر بلقائنا غاية السرور، ورحب به كل الترحيب، وجددنا الذكريات القديمة حين كان يدرس في الأزهر، ويتميز بطربوشه التركي الذي كان يلبسه في الكلية، ثم غادر القاهرة، أظنه بناءً على طلب السلطات المصرية؛ بتهمة أنه كان متعاطفًا مع دعوة الإخوان المسلمين.
كان الشيخ أمين يتوقد حيوية وحماسة ونشاطًا، في سبيل الدعوة إلى الإسلام، وإحياء الأمل في عودة الحياة الإسلامية إلى بلد الخلافة. وقد كان الشيخ أمين همزة وصل بيننا وبين عدد من الجهات الإسلامية، منها:
1 - الطلبة العرب الذين يدرسون في إستانبول دراسات شتى من الطب والهندسة والصيدلة والاقتصاد وغيرها.
2 - الإخوة «النوريون» أتباع الشيخ المجدد المربي الكبير: بديع الزمان النورسي، الذي قاوم الكماليين، وأقام جماعة صوفية تتميز بالإيجابية، والعمل الهادئ لتغيير المجتمع من داخله بتغيير ما بنفسه {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد:11).
3 - الإخوة الأتراك المستنيرون، الذين لهم اتصال بالدعوة الإسلامية العالمية، ولهم لقاءاتهم وموجهوهم.
الطلبة العرب:
قلت: كان من ثمرات لقائنا بالشيخ أمين سراج: أن أوصلنا بإخواننا الطلبة العرب - وخصوصًا الإسلاميين منهم - الذين يدرسون في جامعات إستانبول، وكان معظمهم من أبناء فلسطين والأردن والعراق، وسوريا، وأقلهم من مصر.
طه الجوادي:
وكان أبرز الطلاب الذين عرّفنا عليهم الشيخ أمين؛ الطالب - أو قل: الطبيب - العراقي الملتزم المخلص، الدكتور طه الجوادي، الذي كان يدرس الدكتوراه في الطب، وكان متزوجًا من تركية، وكان شعلة من النشاط، وقد وضع نفسه وإمكاناته في خدمتنا، وتوصيلنا بإخوانه الطلبة؛ لنلتقي بهم ونحضر جلساتهم، ونسهم في توجيههم.
كما جعل نفسه في خدمتنا، وبخاصة أنه يملك سيارة مرسيدس، خصصها لنقلنا كلما شئنا، فهو ينقلنا إلى الأماكن البعيدة، ويصر على أن يقدم هذه الخدمة، حتى أخجلنا بخدماته وعطائه غير المحدود، الذي لا يبتغي من ورائه جزاءً ولا شكورًا، ولكنه - جزاه الله خيرًا - كان يتصرف بمقتضى الأخوة الإسلامية، التي تجعل كل مسلم في خدمة أخيه وفي عونه، فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وبمقتضى التزامه بالدعوة الإسلامية؛ فهو يرى خدمة علمائها ودعاتها، وتسهيل أمورهم واجبًا عليه. أكرمه الله، وجزاه بعمله ونيته خير ما يجزي به العاملين الصادقين. وقد سعدت بلقائه بعد ذلك في جدة حفظه الله ونفع به.
النُّوريون:
كما وصلنا الشيخ أمين سراج بالإخوة النوريين، الذين كانوا يقومون بنشاطهم الديني الخالص، ويعقدون جلساتهم التربوية الروحية، التي يتدارسون فيها غالبًا: رسائل المربي الكبير إمامهم وشيخهم الروحي: بديع الزمان النورسي، التي تُسمى: «رسائل النور» والتي تُرجم كثير منها إلى العربية، وقرأت بعضها؛ فوجدت فيها: أن هذا الرجل ممن يدعو إلى الله على بصيرة، وأنه عميق الحاسة الروحية، وأنه دقيق الفهم للقرآن الكريم.
وكان الإخوة النوريون يقتصرون على هذا النشاط الروحي أو الديني، ولا يتدخلون في السياسة، وكأنهم يعلمون أن هذه الطريقة الهادئة الطويلة النفس، هي الجديرة بتغيير المجتمع على المدى البعيد؛ ولهذا كانوا يعقدون هذه الجلسات في سرية وتكتم، دون إعلان ولا ضجيج.
وكان رئيسهم في ذلك الوقت الأستاذ زبير، وأحد المسئولين عن الشباب الأستاذ ثروت، قد دعواني لزيارتهم، وحضور بعض جلساتهم في تخفٍّ وكتمان، وقد استجبت لهما، وزرتهم في عدد من الجلسات. وساعدني على التخفي، أني كنت في ذلك الوقت ألبس «البذلة الإفرنجية» في فترة الصيف، فلا ألبس الزي الأزهري ولا الزي الخليجي، الذي يلفت الأنظار إليه، ويثير الانتباه في ذلك البلد.
إن الشعب التركي، برغم سيطرة العلمانية عدة عقود على كل شئونه التشريعية والتعليمية والإعلامية والسياسية والاجتماعية؛ ما زال شعبًا مسلمًا في أعماقه، وما زالت كلمة الإسلام تجد الاستجابة إذا وجدت الداعية الذي يفقه دينه، ويفقه عصره، ويفقه واقعه.
وحدثني الإخوة: أن الشعب التركي رحب بـ «عدنان مندريس» حين أتاح للناس قدرًا معقولًا من الحرية الدينية، وأعاد للدين بعض الاعتبار، حتى إنه أعاد الأذان باللغة العربية بدل التركية.
ولقد حدثني بعض الإخوة: أن أبناء الشعب حينما سمعوا لأول مرة بعد انقطاع عشرات السنين: الأذان باللغة العربية، وسمع الناس كلمة «الله أكبر، الله أكبر»؛ سجد الناس في الشوارع شكرًا لله تعالى، وعانق الناس بعضهم بعضًا، وهنأ بعضهم بعضًا، وأعينهم تذرف أدمع الفرح بما أفاء الله عليهم من فضل.
وقد انقلب الجيش التركي - الذي يحرس العلمانية والمسنود من القوى الغربية - على عدنان مندريس، وقضى على حكومته، وأصدر حكمه بإعدامه، وقتل الرجل وأخفي قبره؛ حتى لا يقدسه الشعب التركي، ويَعُدّه وليًّا من أولياء الله، ولا يزال قبره مجهولًا إلى اليوم.
وفي نهاية الإجازة جاء الإخوة النوريون، وودعوني، وأهدوني سجادة صلاة قيمة من السجاد التركي اليدوي، لا تزال عندي إلى اليوم.
الأستاذ ماهر إزّ:
كما وصلني الشيخ أمين سراج بالبروفيسور الأستاذ ماهر إزّ، الذي كان إحدى المنارات في إستانبول، وكان له حلقة تدور حوله من خيار الشباب المثقفين والمستنيرين، والمتصلين بالدعوة الإسلامية العالمية، وكان منهم: أخونا مصطفى بلجه (الدكتور مصطفى بعد ذلك)، الذي تعبت في البحث عنه من قبل، فلم أتوصل إليه، فلقيته وتعرفت عليه، ووجدت فيه الفكر النير، والوعي البصير، والالتزام الصادق، مع نورانية وإشراق، وكانت بداية لصلة وثيقة، وأخوة عميقة، امتدت واستمرت إلى اليوم.
كما عرفت في حلقة ماهر إزّ: الأخ الفاضل عثمان أوز توك (د. عثمان بعد ذلك)، وهو على شاكلة مصطفى بلجه وكل تلاميذ الأستاذ «إزّ»؛ من الصفوة التي جمعت بين حسن الفهم، وصدق الإيمان، وقوة الغيرة على الإسلام، والعمل لنصرة قضاياه.
كان الأستاذ ماهر إز حفيًّا بلقائي، وسر به سرورًا بالغًا، وقد قال لي أمام الملأ: إنه وجد في شخصي ما كان يفتقده في علماء الدين في تركيا، الذين لم يكن ينقصهم الإخلاص والحماسة للدين والشريعة، ولكن كان ينقصهم - في رأيه- معايشة العصر، وتجديد الاجتهاد في قضاياه الحديثة في ضوء مقاصد الشريعة، ومعطيات العصر وحاجات الناس.
صالح أوزجان:
وممن لقيته هناك: الأستاذ صالح أوزجان، عضو رابطة العالم الإسلامي، وصاحب مؤسسة «الهلال» الصحفية، والذي كان قد لقيني قبل ذلك في لبنان، وأخذ مني حق ترجمة كتاب: «الحلال والحرام»، وغيره من كتبي إلى التركية ونشرها، وكتب معي عقدًا بذلك، وإن لم ينفذ منه حرفًا واحدًا فيما يتعلق بحقوق التأليف!
وقد أخبرني الإخوة الأتراك: أن الصحف تتحدث عن دارين للنشر، تختصمان في أيهما أحق بنشر كتابي: «الحلال والحرام»: دار الهلال، ودار أخرى لا أذكر اسمها. وأعتقد أن الأستاذ أوزجان كسب القضية في المحكمة؛ بما معه من عقد موقع مني.
كتاب «الناس والحق»:
ومِن الطرائف: أني كنت أطوف أنا والشيخ أمين سراج على بعض المكتبات التي تعتني ببيع الكتب الإسلامية؛ لنأخذ فكرة عن الكتب التي تحتويها دور النشر في هذه الأيام؛ فقدمني الشيخ أمين لصاحب المكتبة، وقال له: هذا فلان، فرحب الرجل بي، وقال: عندنا كتابه قد نشرناه: «الناس والحق» ترجمة الأستاذ فلان، وذكر اسم المترجم.
ولهذا الكتاب قصة، فقد أرسل إليَّ في قطر أحد الإخوة الباحثين الناشطين من الأتراك، يطلب الإذن مني بترجمة كتاب: «الناس والحق» إلى التركية، وكان الكتاب قد نشره المكتب الإسلامي الذي يملكه الأخ الشيخ زهير الشاويش، في بيروت. فأرسلت لهذا الأخ التركي بموافقتي على الترجمة، على أن تراجعه شخصية علمية تركية معروفة، واقترحت عليه أن يراجعه صديقنا الدكتور علي أرسلان أيْدن، زميلنا في الدراسات العليا في كلية أصول الدين، وقد كان هو في شعبة العقيدة والفلسفة، وأنا في شعبة التفسير والحديث، أو القرآن والسنة.
وذهب الأخ بعد أن ترجم الكتاب، فعرضه على الدكتور علي أرسلان؛ فرده وطلب منه أشياء يجب أن يراعيها، وظلا في أخذ ورد، وإذا بنا نفاجأ بهذا الأخ الذي ترجم الكتاب دون إذن من أحد! ولكني سألت الإخوة عن الترجمة، فأثنوا عليها، فقلت: هذا هو المهم، والحمد لله.
وقد تُرجمت عشرات الكتب من مؤلفاتي إلى اللغة التركية، حتى الكتب الكبيرة مثل: «فقه الزكاة»، و«فتاوى معاصرة»، وغيرها. وإن لم يدفع أي ناشر لها، أدنى حق للمؤلف، وقد حرضني بعض الإخوة أن أرفع دعوى بطلب حقوق التأليف، ولكني لم أفعل، فبحسبي أن يُنشر الكتاب بلغات المسلمين، وأن ينتفع به الناس. المهم أن تكون الترجمة مقبولة لفظًا ومعنى.
د. علي أرسلان أيدن:
وبهذه المناسبة، سألت الشيخ أمين سراج عن الدكتور علي أرسلان، وكيف يمكن أن نراه، ونجدد عهدنا به، فقد عرفته عالِمًا فاضلًا، وباحثًا متعمقًا، فوعدني أن يتصل به، ويأخذ منه موعدًا نلتقي فيه.
وما هي إلا أيام حتى زارني الدكتور علي، وسعدت بلقائه، وأصر على أن يدعوني أنا وأسرتي إلى بيته، ولم يسعني إلا أن أجيب، وزرناه أنا والعائلة، وقضينا يومًا طيبًا، تعرفنا فيه على أسرته، وكان معنا الشيخ أمين أيضًا، وأكلنا الشهي من الطعام، وجددنا الطيب من الذكريات، وتذاكرنا في أحوال المسلمين في العالَم، ومستقبل الإسلام في تركيا. وفي آخر النهار عدنا إلى حيث نقيم في شيشلي.
محاولة تعلم التركية:
في هذه المدة بدأنا نتعلم شيئًا من اللغة التركية، وقد أعطى لنا بعض الإخوة كتابًا في تعلم التركية، استفدت منه كثيرًا. والحقيقة أن اللغة التركية لغة سهلة جدًّا، ومما يزيد في سهولتها: وجود كلمات عربية كثيرة بها، فهي مزيج من العربية والفارسية والطورانية القديمة، وإن كان العلمانيون منذ أتاتورك يحاولون أن يفرغوها من الألفاظ العربية، كما حرموا كتابتها بالحروف العربية، فقطعوا أجيال الأمة عن تراثهم كله، وعزلوها عزلًا تامًّا، وكان هذا مقصودًا لهم.
عرفت الأرقام، وحفظها سهل، وبعضها مستعمل في بلادنا، مثل: كلمة «بير» أي واحد، «بيرنجي» أي الأول، وكنا نقول في المدرسة: فلان بيرنجي الفصل، أي الأول عليه.
وكلمة «أون» أي عشرة، و«يوز» أي مائة، و «بن» أي ألف، وفي الرتب العسكرية: نجد رتبة «أون باشي» أي رئيس عشرة، و«يوز باشي» أي رئيس مائة، و«بن باشي» أي رئيس ألف. وهو الذي كان يسمى أيضًا «بكباشي».
وهناك كلمات تركية منتشرة بيننا مثل: «أوده» أي حجرة، ومثل: «اختيار» أي كبير السن، ومثل: يا واش يا واش، بمعنى: على مهلك... إلخ.
ومِن المفارقات اللغوية الطريفة: أن الإخوة دلونا على مطعم في أقْصَرَاي يقدم أكلات طيبة، ولا يقدم خمرًا، فكنا نؤثر أن نذهب إليه بين الحين والحين، وكنا نطلب منه بعد الطعام: طبقًا من البطيخ، فإذا هو يقدم لنا طبقًا من الشمام.
وتكرر ذلك عدة مرات، ثم اكتشفنا سبب هذا الخطأ، وهو أن الكتاب الذي نتعلم منه التركية كتب أمام كلمة «بطيخ»: كلمة «قاوون» بالتركية، وكلمة «بطيخ» عند العراقيين، ومنهم مؤلف الكتاب معناها: «الشمام»، أما ما يسمى عندنا: «البطيخ» نحن المصريين، فاسمه عندهم: «الرّقّي».
والبلاد العربية تختلف في بعض الأشياء اختلافًا شاسعًا، تضلل من لم يحط بها علمًا، من ذلك ما يسمى به هذه الفاكهة، فالمصريون يسمونها: البطيخ، وفي معظم بلاد الشام يسمى: البطيخ الأخضر، والشمام: البطيخ الأصفر، وفي الحجاز يسمى: الحبحب، وفي قطر ونجد يسمى: الجح، وفي حلب وما حولها يسمى: الجبَس، وفي العراق يسمونها: الرقي «نسبة إلى مدينة الرقة»، وفي بلاد المغرب كلها، يسمى: الدلاع.
المهم أننا عرفنا أن البطيخ «المصري» يسمى بالتركية: «قربوز»، فبدأنا بطلب «قربوز» إذا أردنا البطيخ، و«قاوون» إذا أردنا الشمام.
التسوق:
والذي يزور تركيا لا بد له أن يزور أسواقها، وفيها أسواق كثيرة، من أشهرها «السوق المغطى»، ويسمى «قبالي تشارشي»، وتشارشي معناها: سوق، وقبالي: مغطى. وهو سوق كبير حافل، ومنه تشترى التحف من النحاس، ومن الرخام، ومن غيرهما، كما تشترى منه أشياء أخرى كثيرة. وهناك أسواق للمأكولات، وخصوصًا الأجبان والحلويات وأنواع الْمَلْبن، الذي يسميه إخواننا في الشام: «راحة» أو «راحة الحلقوم».
وهناك أسواق الملبوسات، وقد تميز الأتراك بصناعة أنواع من الملبوسات وخصوصًا للنساء، بعضها من الصوف، وبعضها من أنواع نسيت اسمها، تصلح في الربيع والخريف، بل في الصيف أيضًا.
وكانت الأسعار رخيصة بالنسبة لغيرها من الأقطار الأخرى، ومنها: قطر، ولبنان. وبالممارسة والخبرة والمعايشة، عرفنا هذه الأسواق، وعرفنا كيف نصل إليها بأقدامنا، وعرفنا الأماكن والمحلات الأكثر رخصًا من غيرها، برغم جودة السلعة، وقد اشترينا كل ما نحتاج إليه لأنفسنا ولمن نحب أن نهدي إليه.
زيارة الجزر:
واقترح علينا الأخ طه الجوادي: أن نزور «الجزر» المشهورة في بحر مرمرة، وهي معالم لا بد لمن يزور إستانبول أن يزورها. وهذه الجزر تزار بواسطة بواخر معينة، دلنا الإخوة عليها، وصحبَنَا بعضهُم، وكنا وأسرة الشيخ الجماز معًا، وتبدأ الزيارة عادة بالجزر الصغيرة، ثم تنتهي بالجزيرة الكبرى، ويسمونها: «بيوك أضا» وأضا، معناها: جزيرة، وبيوك، معناها: أكبر، أو كبرى، فالمعنى: الجزيرة الكبرى، ومن خصائص هذه الجزيرة: أنها لا تمشي فيها سيارة، بل يمنع دخول السيارات إليها، ولكن ينتقل الناس بعربات الخيل، التي نسميها في مصر: «الحنطور».
فمن أراد أن يطوف بالجزيرة، ويطلع على معالمها؛ استأجر حنطورًا، مر به في دورة معلومة، وعاد به إلى حيث بدأ، وهذا ما فعلناه. ثم تناولنا الغداء هناك، وعدنا آخر النهار بحفظ الله تعالى.
زيارة يالوَا وترمل:
ومِن المعالم المهمة التي يجب أن تزار: منطقة «يَالُوا» وحمامات ترمل، ومدينة «بورصة» التاريخية. وقد جاء أحد الإخوة معنا ليوصلنا إلى هناك ثم نعود. وركبنا الباخرة السريعة «إكسبريس» من مرساها في إستانبول؛ لتذهب بنا إلى شاطئ يالوا، وقطعنا المسافة في ساعتين على ما أذكر، وهي رحلة بحرية جميلة في ذاتها، تستمتع فيها بالبحر ونسيمه.
وحين ذهبنا إلى يالوا، لم نقم بها، فإن قصدنا هو منطقة «ترمل» بعدها بنحو بضعة عشر كيلو مترًا على ما أذكر أو أقل من ذلك. واستأجرنا سيارتين واحدة لأسرتي، وواحدة لأسرة الأخ الشيخ الجماز، لنصل إلى قرية بجوار حمامات ترمل، اسمها: «جوكشدرا»، وفيها ستكون إقامتنا لمدة عشرة أيام.
والواقع أننا وجدنا هذه القرية بسيطة وجميلة وممتعة، ووجدنا فيها بيتًا ريفيًّا مناسبًا، فيه شقق للإيجار، أخذنا شقة لنا، وشقة للأخ الشيخ علي. وكان أهل البيت من الفلاحين الطيبين المتدينين، كنا نشتري منهم في الصباح: اللبن الحليب الطازج بعد أن يحلبوه من البقرة، ونشتري الخضراوات والفواكه واللحوم من السوق، وهي في منتهى الجودة، ومنتهى الرخص. وأحيانًا يمر باعة الفواكه والخضر أمام البيت، ونشتري منهم ما نريد.
وكان الخوخ أو الدرّاق كما يسميه إخواننا في الشام - ويسمى بالتركية: الشَّفْتَلي - من أجود الفواكه وأرخصها. وكنا نذهب إلى الجزار، ومعنا الخضار والبصل، ليعد لنا «براما» من اللحم، نذهب به إلى الفرن، لينضجه لنا على نار هادئة، على أن نتسلّمه في ساعة محددة، وهي أكلة شهية جدًّا.
وكنا نذهب كل يوم في الصباح، وفي المساء غالبًا، إلى منطقة ترمل، مشيًا على أقدامنا، فهي قريبة جدًّا. ومن أراد دخول الحمامات - وهي معدنية - دخلها ودفع الأجر المعلوم. ومن لم يرد جلس في الحديقة الفيحاء، يستمتع بهوائها وأزهارها المنسقة، وما فيها من أراجيح وألعاب للأطفال، وهي فسحة يومية مجانية رائعة.
وفي القرية مسجد نذهب إليه، ونؤدي فيه صلاة الجماعة. وأذكر هنا: أن صلاة الجماعة في المساجد التركية جميعًا في المدن والقرى، لها مراسم تُلتزم، ومصبوبة في قوالب لا يجوز لأحد أن يغير فيها شيئًا. فبعد الأذان تصلي السنة القبْلية الراتبة: ركعتين أو أربعًا، ثم تقام الصلاة، ويصلي الإمام، والناس خلفه صامتون لا يقرءون، سواء كانت صلاة جهرية أم سرية، كما هو رأي المذهب الحنفي، وهو مذهب الأتراك الملتزم، ثم بعد السلام، يقول الإمام والمصلون: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام. ثم يقومون لأداء صلاة السنة البَعْدية، مؤخرين التسبيح والتحميد والتكبير، لما بعد النافلة، كما هو رأي الحنفية.
ثم يجلسون لختام الصلاة، وفي كل مسجد عدد من المسابح يوزعونها على المصلين، ليعدوا عليها التسبيحات الثلاث وثلاثين، وكذلك التحميدات والتكبيرات، ثم يختمون المائة بـ «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير»، يقولها الإمام بصوت مسموع، والناس يرددونها معه، ثم يقول الإمام: «سبحان ربي العلي الأعلى الوهاب»، ويدعو الله، ويدعو المصلون كل بما يحب، ثم يختم بقراءة عشر من القرآن الكريم. ويسلم بعضهم على بعض ثم ينصرفون. وهذا نظام صارم لا يجوز لأحد أن يخالفه، فيخرج بعد صلاة النافلة أو بعد ختم الصلاة، قبل قراءة القرآن، ناهيك بالخروج بعد صلاة الفريضة!
وأذكر أنه زارنا في هذه القرية الفقيه العلامة الشيخ مصطفى الزرقا، الذي نزل في فندق القرية لعدة أيام، وقد سعدنا به في جلسة علمية نافعة، وكان معه أهله رحمه الله.
زيارة بورصة:
ومِن قرية «جوكشدرا» عزمنا الرحيل إلى مدينة بورصة بواسطة الحافلة «الباص»، وبعد أكثر من ساعة وصلنا المدينة العريقة، التي كانت عاصمة العثمانيين قبل إستنابول، ويقال: إنها في موضع «عمورية» التي وقعت فيها الوقعة الشهيرة للخليفة «المعتصم» حين استغاثت به إحدى المسلمات، لطمت على خدها، فقالت: وامعتصماه، في القصة الشهيرة المعروفة.
ووصلنا إلى المدينة واستأجرنا فيها فندقًا لمدة يومين على ما أذكر، وكان أهم ما في المدينة هو جبالها العالية الشاهقة، التي يوصل إليها بطريق هذا الباص الهوائي المسمى: «التليفريك»، فذهبنا إلى محطته، وقطعنا التذاكر، وانتظرنا دورنا، فقد كان هناك زحام ملحوظ.
وركبنا التليفريك، الذي ينقلنا إلى محطة ثم يأخذنا تليفريك آخر إلى محطة أعلى، حتى نصل إلى الجبل المنشود، وفيه برودة ملحوظة، قد حسبنا حسابها، وتلفعنا ببعض الملابس المناسبة. وفوق الجبل المنشود، توجد محلات وأسواق، وباعة لكثير من الأشياء، وأهمها: اللحم المعد للشواء، وأدوات الشي، والفواكه المختلفة، ولا سيما البطيخ الذي يسمى عندهم: «الكربوز».
والأكل فوق الجبل له لذة خاصة، فأكلنا وشبعنا، وقلنا: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين. اللهم لك الحمد على ما أطعمت، ولك الحمد على ما سقيت. ثم أخذنا «تليفريك» آخر، نطوف به، أو يطوف بنا، في أنحاء الجبل، ولا سيما في المناطق العليا منه، وبعد أن قضينا يومًا كاملًا، نزلنا إلى الأرض بالتليفريك أيضًا، وذهبنا إلى الفندق لنقضي به ليلتنا.
وفي اليوم التالي، ذهبنا إلى «حمامات بورصة» المعدنية، التي يأتي إليها كثير من الناس للاستشفاء، وما دمنا موجودين في المدينة، فلنستفد منها. وبعدها تجولنا في المدينة وما حولها، وخصوصًا الجبال التي يشترى منها العسل الطبيعي، التي قال الله تعالى فيه: {فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ} (النحل:69)، وبتنا ليلتنا الثانية هناك، ثم عدنا إلى «يالوا» ومنها إلى إستانبول.
محاضرة في إستانبول:
وبعد العودة إلى إستانبول، أراد إخواننا الأتراك: الشيخ أمين سراج وإخوانه: أن ينظموا لي محاضرة عن «الزكاة» في مكان نسيت اسمه، حضرها عدد جيد من المشتغلين بالعلم والفكر الإسلامي، وأظن أن الذي كان يقوم بالترجمة، هو الصديق د. علي أرسلان أيدن، على ما أذكر، فطول المدة ينسي. وعقب المحاضرة وُجِّهت إلى بعض الأسئلة، أجبت عنها، وانصرف الجميع بعد ذلك بسلام.
سعد سلامة:
وكان ممن سعدت به في هذه الصيفية: الأخ الحبيب سعد زين العابدين سلامة، ابن طنطا، ورفيقنا في السجن الحربي، وأحد رواة «النونية»، وقد هاجر إلى ألمانيا وأقام فيها، وتزوج ألمانية، اعتنقت الإسلام، وحكى لنا: أنه ذهب بها إلى مصر لتزور أهله وتتعرف عليهم.
ومِن اللطائف: أن الأخ سعدًا - وهو شاب ظريف - أراد أن يضحك أهله، فحفظ امرأته جملة تقولها إذا سألوها عن شيء، فترد عليهم قائلة: أنا حمار كبير! فما إن سألوها عن شيء، حتى قالت لهم: أنا حمار كبير، فانفجروا بالضحك. وسألتهم: لماذا يضحكون، فعرفوها معنى الكلمة، وأن سعدًا ضحك عليها، حين أفهمها أن لهذه الكلمة معنى آخر، وهو لا يقصد إلا المزاح، وإشاعة جو من الفكاهة والمرح.
وقد حكى لنا الأخ سعد عن الأيام الشداد التي مرت به، وخصوصًا بعد أن انتهت صلاحية جوازه، وكان في حاجة إلى تجديده من السفارة، ولو ذهب إلى السفارة لأخذت منه الجواز، ولم ترده إليه، فكان سعد يكتب في صفحة التجديد في الجواز: جُدد بمعرفتي! ويوقع: سعد سلامة! وتنقل بهذا الجواز في أنحاء أوروبا وكل من رآه يعتقد أنه جُدد! وهو يقول: لم أكذب ولم أزور: أنا كتبت جُدد بمعرفتي، ووقعت صراحة باسمي، وهذا صحيح، فلم أقل: جُدد بمعرفة السفارة أو القنصلية!!
إلى منتجع يَكَجِكْ:
وفي يوم من الأيام جاءنا الأخ الصديق د. طه الجوادي بسيارته المرسيدس، قائلًا: أريد أن أنقلكم إلى منتجع جميل، في البر الآسيوي، اسمه: «يَكَجِكْ»، وفيه بيت للأخ مصطفى بلجه، ليس فيه أحد، يمكن أن تقضوا فيه يومين، أو ثلاثة. وركبنا الباخرة التي تنقل السيارات، إلى الشاطئ الآخر، ثم ذهبنا إلى يكجك، وتركنا الأخ طه، وبقينا فيها يومين، أو ثلاثة، ثم عدنا إلى مقرنا في إستانبول.
رحلة في البحر الأسود:
ومما اقترحه علينا الإخوة: أن نذهب في رحلة في «البحر الأسود» تستغرق يومًا كاملًا، حيث تذهب السفينة إلى قرب الحدود، وننزل في المحطة الأخيرة، لنتغدى ونصلي ثم نعود إلى الباخرة، لنبدأ رحلة العودة. وكانت رحلة بحرية مميزة، قضينا فيها يومًا من أجمل الأيام وأمتعها.
إجازة ممتعة:
الحق أن هذه الإجازة كانت إجازة ممتعة حقًّا، ومفيدة حقًّا، استمتعنا بزينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق، فقد تعانق عنصر المنفعة وعنصر الجمال في كل مكان نذهب إليه، من حيث توافر الحاجات المادية التي تتطلبها المعيشة بأثمان زهيدة، وتوافر الجمال الطبيعي في كل مكان.
وأنا امرؤ أعشق الجمال في كل شيء، وخصوصًا جمال الطبيعة، التي رسمت لوحتها يد الرب الأعلى، {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (الأعلى:2-3)، هذا الجمال الذي أراه بعينيْ رأسي: مجسدًا في الجبال الخضراء، والمياه الزرقاء، والحدائق الغناء، والجوامع الشامخة، والقلاع الشاهقة، والمتاحف الناطقة، فتطربني هذه المشاهد، كما يطرب المرء لسماع البلابل، وألحان العنادل، ولا غرو أن يطرب المؤمن للجمال يشاهده، أو يسمعه أو يحسه، فإن الله جميل يحب الجمال.
لقد أراد عبد الناصر أن يقهرنا وينكد علينا حياتنا، حين أغلق وطننا في وجهنا؛ فعوضنا الله جل جلاله بالسياحة في الأرض، والتعرف على أوطان المسلمين: مرة في لبنان، ومرة في الأردن، ومرة في إستانبول، وهذا ضرب من العدل الإلهي لا يدركه إلا الأقلون: إذا تركت شيئًا لله عوضك الله ما هو خير منه، من حيث لا تقصد، وربما من حيث لا تدري.
عودة إلى أضنه بالقطار:
وكل ما له بداية له نهاية، وكان لا بد لهذه الإجازة، أن تبلغ نهايتها، ونودع إخواننا وأحباءنا في إستانبول، وقد أكدوا علينا أن نعود مرة أخرى، وأكدنا لهم: أننا حريصون على هذه العودة، فلم نشبع بعد من هذه البلاد الجميلة.
بل إن بعض الإخوة أغرانا أن نشتري لنا في إستانبول منزلًا أو شقة في مكان مناسب، نقضي فيه إجازتنا كل صيف، وإذا لم يقدر لنا المجيء في سنة ما، يمكن إجارة هذا البيت، وقالوا لنا: إن عددًا من الدعاة والعلماء تملكوا هنا بيوتًا، منهم: الداعية الكبير الشيخ محمد محمود الصواف، وغيره، ووعدناهم بأن ننظر في هذا العرض، في ضوء ظروفنا وقدراتنا.
واقترح بعض الإخوة: أن نعود إلى أضنه بواسطة القطار الذي ينقلنا إلى أضنه مرة واحدة، دون أن ننزل منه، ونأخذ غرفة في الدرجة الأولى ننام فيها بالليل، والقطار يأخذ حوالي عشرين ساعة. وراق لنا هذا الاقتراح، لنكشف هذه الوسيلة، إلى جوار ما اكتشفنا من وسائل النقل الأخرى: الحافلات والبواخر وسيارات الأجرة الصغيرة «التاكسي».
وفي الوقت المحدد حملنا حقائبنا، أو قل: حملها إخواننا جزاهم الله خيرًا، وذهبنا إلى محطة القطار، أسرتنا وأسرة الأخ الجماز، وقد وقف عدد من الإخوة يودعوننا، كما ودعناهم، وأعيننا تذرف، فقد توثقت روابط الأخوة في الله بيننا وبين هؤلاء الأحبة، الذين بذلوا من أنفسهم ومن أوقاتهم، ومن راحتهم، وربما من أموالهم، من أجل معاونتنا على حسن الإقامة، وأن نحيا في جوارهم حياة طيبة، جزاهم الله عنا خير ما يجزي المؤمنين الصادقين المخلصين.
وقد وصلنا إلى أضنه بعد رحلة شعرنا بمشقتها، وقد أثر دخان القطار على ملابسنا وعلى أجسامنا؛ ولذا أسرعنا بالذهاب إلى الفندق لنبيت فيه، ونزيل عنا وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وآثار هذه الرحلة، فاغتسلنا وبدلنا ثيابنا، وبتنا ليلة في أضنه، لنستقل بعدها الطائرة إلى بيروت.
العودة إلى بيروت وبعدها إلى قطر:
عدنا بالطائرة من أضنه إلى بيروت، وانطلقنا من المطار إلى سوق الغرب لننزل في «فندق فاروق» الذي نزلنا فيه قبل أن نذهب إلى تركيا، فأقمنا فيه حوالي أسبوع، حتى يأتي موعد سفرنا إلى قطر.
وفي الأسبوع فرصة للقاء إخواننا من الدعاة في لبنان، وأن ألقى الناشرين الإسلاميين الذين أتعامل معهم، ابتداءً من المكتب الإسلامي، ودار الإرشاد، التي نشرت لي: «الإيمان والحياة»، والطبعة الثانية من كتابي: «العبادة في الإسلام»، وهي طبعة موسعة، بحيث أصبح الكتاب ضعف ما كان في الطبعة الأولى.
وقد اتفقت مع «مؤسسة الرسالة» على نشر سلسلة: «حتمية الحل الإسلامي»، وهي سلسلة خطرت لي منذ صدر «الميثاق» في مصر، وفيه تركيز على ما سمّاه: «حتمية الحل الاشتراكي». فأردت إصدار هذه السلسلة، مستخدمًا نفس ألفاظها، مبينًا أن الحل الحتمي، والحل المنطقي، والحل الطبيعي، والحل الشرعي، الذي يتحتم الرجوع إليه شرعًا ووضعًا، هو «الحل الإسلامي».
ودعاني الإخوة في بيروت لإلقاء بعض المحاضرات التي دعت إليها «الجماعة الإسلامية» في لبنان. وأهم أركانها الإخوة: فتحي يكن، وفيصل مولوي، وإبراهيم المصري.
وما هي إلا أيام، حتى حان موعد العودة إلى الدوحة، وفي الموعد استقللنا طائرة الشرق الأوسط، وكانت هي الطائرة الوحيدة، التي تنقلنا إلى قطر. وعدنا بحمد الله تعالى إلى الدوحة، لنبدأ شوطًا جديدًا، لسنة دراسية جديدة، نسأل الله سبحانه أن تكون خيرًا من سابقتها.
.....
(1) رواه أحمد في «مسنده» (18957)، والحاكم في «مستدركه» في «الفتن والملاحم» (4 / 442) عن بشر الغنوي، وقيل: الخثعمي. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.