السفر إلى لبنان منتصف يونيو:

كنا قد حجزنا من قبل للسفر إلى لبنان في منتصف حزيران - يونيو - كالعادة بمجرد انتهاء العام الدراسي، وتواعدنا مع بعض الإخوة الذين يعملون في قطر: أن نلتقي في مصيف «سوق الغرب» في «فندق فاروق»، وهو فندق نزل فيه بعض زملائنا، وأثنوا على صاحبه «أبو فاروق»، وهو مسيحي دمث الأخلاق، وقد سمى الفندق باسم ابنه.

وكان المعتاد والمفترض: أن نبقى في الفندق عدة أيام؛ نبحث فيها عن مسكن مناسب لنا نقيم فيه طوال فترة الإجازة، ولكنا وجدنا الحياة في لبنان كلها شبه معطلة بعد الحرب، ولم تعد الحياة إلى البلد من جديد.

التفكير في السفر إلى تركيا:

لذا أشار علينا بعض إخواننا: أن نذهب إلى تركيا؛ لنقضي فيها إجازة الصيف، في مدينة إستانبول خاصة، تلك المدينة الجميلة الرائعة، التي تجمع بين آسيا وأوروبا، والتي كانت عاصمة الخلافة الإسلامية لآل عثمان عدة قرون، بل كانت في وقت من الأوقات: سيدة العالم!

وقيل لنا: إن عددًا من الإخوة الذين يعملون في قطر، قد سبقونا بالسفر إلى إستانبول عن طريق الباصات السياحية الفارهة، التي تقلهم من بيروت إلى إستانبول في يومين، على ما أذكر.

وراقت لنا الفكرة: أن نزور تركيا، ونتعرف على آثارها وجوامعها ومكتباتها وأسواقها وشواطئها وجبالها ومضيق البوسفور فيها. إنها فكرة محببة ومطلوبة، ولا يرغب عنها أحد.

ولكن بقيت أمامنا مشكلة، وهي: أن الذين يذهبون عن طريق الحافلات «الباصات» السياحية، يمرون بسوريا، ولا بد، في طريقهم إلى تركيا. وسوريا يحكمها البعثيون العلويون، ومن المؤكد: أن اسمي من الأسماء الممنوعة من دخول سوريا، فكيف نخاطر، ونقطع التذاكر، ونذهب إلى الحدود، ثم قد نفاجأ بردنا، وربما قيادتنا إلى الشرطة للتحقيق معنا، وربما حجزونا أيامًا، قد تقل أو تكثر، فهذه الأنظمة الشمولية القمعية، التي ابتليت بها بلادنا العربية والإسلامية لا يوجد في قوانينها شيء محظور! كل شيء مباح لهم، وإن حرَّمته قوانين الأرض وشرائع السماء.

وفكرنا في أن نأخذ الطائرة من بيروت إلى إستانبول، ولكن وجدنا ثمنها غاليًا، يرهقنا عسرًا. ثم أشار علينا بعض العارفين بوسيلة أخرى، نتخطى بها المرور على سوريا، وما فيها من أخطار، ولا تكلفنا كثيرًا؛ وهو: أن نأخذ الطائرة التركية من بيروت إلى مدينة «أضَنَة» في جنوب تركيا، بالقرب من الحدود السورية، ومن «أضنة» نأخذ الحافلة إلى «إستانبول» إن شئنا، أو إلى «أنقرة» ثم إستانبول.

ورحبنا بهذا الاقتراح، وقطعنا التذاكر لي وللأسرة إلى «أضنة» ذهابًا وعودة، وكان معي في هذه الرحلة من أولها إلى آخرها أخونا وصديقنا الأخ العالم الداعية الحبيب الشيخ علي جماز رحمه الله وأسرته، وكانت أسرته تتكون من زوجته وابنه طارق، وهو في السابعة أو الثامنة من عمره.

وقررنا معًا: أن نأخذ هذه الرحلة على مراحل: نبقى في «أضنة» ثلاثة أيام، ثم نذهب إلى أنقرة، ونبقى فيها ثلاثة أيام. ثم نغادر إلى إستانبول لنقضي فيها بقية مدة الإجازة.

امتطينا الطائرة إلى أضنة:

وفي اليوم المحدد امتطينا الطائرة، لتهبط بنا بعد نحو ساعة أو أكثر إلى مطار أضنة، ولقد سرنا أن كثيرين في هذه المدينة يتكلمون العربية، فلم نجد صعوبة في التعامل معهم، ولا ريب في أن وحدة اللغة من أقوى وسائل التفاهم بين البشر.

واستأجرنا سكنًا في أحد الفنادق، وكان سعره رخيصًا إلى حد بعيد، وتعرفنا على بعض المطاعم لنأكل فيها «شيش كباب»، هكذا يسمونه، وأحسب أننا أخذنا منهم هذه التسمية. وكثير من أسماء المأكولات نجدها مشتركة، مثل البامية. أما المحشي فيسمونه: «ضُلْمه»، والبطيخ يسمونه: «قَرْبوز»، والشمام يسمونه: «فاوون»، وهذه كلمة مستعملة في بعض أقاليم مصر.

وسألنا الإخوة الذين ينطقون العربية: أن يدلونا على أماكن النزهة؛ فدلونا عليها. وكانت نزهًا جميلة، لولا ما يعكرها من قرص «الناموس» الذي لدى زوجتي حساسية منه، فهو يترك في جسمها أثرًا ظاهرًا.

كما كان يعكر علينا صفونا في كل مكان ذهبنا إليه؛ سؤال صعب يوجهه إلينا الأتراك، بعد هزيمة حزيران «يونيو»، هذا السؤال الذي واجهونا به، هو: كيف يُهزَم العرب، وعددهم مائتا مليون، أمام إسرائيل، وعدد (2) مليون؟! كيف يُهزم الواحد من اليهود مائة من العرب؟

بعضهم يقول هذا تشفيًا من العرب وشماتة بهم، وهؤلاء هم العلمانيون. وبعضهم يقول هذا حزنًا على العرب، أو قل غضبًا على العرب، ولم نجد جوابًا شافيًا، يمكننا أن نجيب به القوم، يقنعهم ويسكتهم؛ إلا أن قلنا لهم: لقد دخل اليهود المعركة ومعهم التوراة، ونحن دخلنا المعركة وليس معنا القرآن، لقد دخلوها يهودًا، ولم ندخلها نحن مسلمين!

ركبنا الحافلة إلى أنقرة:

وبعد أيامنا في أضنة؛ قطعنا التذاكر لنمتطي حافلة «باص» من الحافلات السياحية التركية المريحة المهيأة لمثل هذه الأسفار الطويلة، والتي تقوم عليها شركات متخصصة معروفة، ولها مكاتبها في لبنان وسوريا وغيرها من بلاد العرب.

وكانت أجرة الحافلة رخيصة جدًّا، من أضنة إلى أنقرة، وتأخذ في الطريق حوالي (8) ساعات أو (10) ساعات، لا أذكر. وهي تمر بنا على مناظر رائعة الجمال، ما بين جبال يكسوها بساط سندسيّ أخضر، وسهول مزروعة بالمحصولات، وغيرها من المشاهد التي تمتع العين، وتبهج النفس، وتنعش الفؤاد.

وبعد كل ساعتين، تتوقف الحافلة في أماكن معينة معدة للاستراحة، نشرب فيها الماء، أو العصير، أو «الأيْران» وهو اللبن الرائب، الذي تمتاز به تركيا، ويقدم في كل المطاعم مع المآكل والمشارب. وقد نشتري بعض «المكسّرات» من البندق أو الفستق أو اللوز أو الجوز «الذي نسميه في مصر: عين الجمل».

وفي بعض المرات يكون موعد الصلاة، فنتوضأ ونصلي الظهر والعصر في الطريق قصرًا وجمعًا، فإن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه. وفي بعض الطرق نجد أكلات خفيفة، تسد رمق المسافر، وأحيانًا نجد «المشويات» التركية. ولا بد أن نتزود في الطريق إلى أن نصل إلى مقصدنا.

قضينا يومًا كاملًا ممتعًا حقًّا، في طريقنا إلى «أنقرة» العاصمة السياسية لتركيا في العهد الجمهوري منذ انقلاب أتاتورك.


قلب مدينة أنقرة

فندق جيهان بالاس في أنقرة:

وعندما وصلنا إلى هناك سألنا عن فندق ملائم في وسط البلد؛ فدلنا بعضهم على فندق «جيهان بالاس» فاستأجرنا سيارتين صغيرتين - لنا وللشيخ جماز - لتنقلنا إلى الفندق المذكور.

ونزلنا الفندق الذي كان موقعه مهمًّا في صرة المدينة. ونزلنا للعشاء في أقرب مطعم، وفي الصباح تناولنا فطورنا، وأذكر أنه من ألذ الأطعمة في تركيا «اللبن» الذي يسميه المصريون: «اللبن الزبادي»؛ لأنه كان يوضع في «زبدية» وهي وعاء فخّاري صغير، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وسمي: «الزبادي». وإخواننا في بلاد الشام «سوريا ولبنان والأردن وفلسطين» يسمونه: «اللبن». ونحن - المصريين - نطلق كلمة «اللبن» على ما يسمونه هم: «الحليب».

وأعتقد أن تسمية المصريين للحليب «لبنًا» تسمية صحيحة، وهي تسمية قرآنية، فقد قال تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} (النحل:66).

حديقة كبرى قرب الفندق:

خرجنا في الصباح نتجول في الشوارع التي حولنا، وإذا بنا نكتشف قرب الفندق: حديقة كبيرة، من أكبر الحدائق السياحية، التي تشتمل على ملاهٍ وألعاب متنوعة، فوجد الأولاد فيها ضالتهم، وغرقوا في الألعاب المختلفة، وأخذت هذه الحديقة جل أوقاتنا وشغلتنا عن كثير من الفسح، التي لم تأخذ منا إلا أقل الوقت.

وكان البعض قد نصحنا أن نأخذ القطار - قطار الشرق - من أنقرة إلى إستانبول، وقلنا: فكرة معقولة، وأردنا أن نجد أحدًا نسأله عن محطة قطار الشرق: أين تكون؟ وكيف نحجز أماكننا، أو نقطع تذاكرنا؟ فلم نجد أحدًا يعرف العربية، يفيدنا في هذا الأمر.

وحزنت على نفسي أني لم أتقن اللغة الإنجليزية، برغم ما كان لدي من قدرة لغوية غير عادية، واستعداد نفسي للتعلم، فأصبحت لا أملك اليوم من اللغة ما يمكنني من التفاهم في الأمور البسيطة؛ ولذا حرصت على أن يتقن أولادي جميعًا: الإنجليزية، ومن استطاع أن يتعلم لغة أخرى فهو أفضل.

على أن تعلم الإنجليزية في تركيا لا يفيد كثيرًا، فقليل جدًّا من الأتراك في ذلك الوقت كانوا هم الذين يعرفون الإنجليزية؛ ولذا من الصعب أن تجد من يتفاهم معك بغير التركية، حتى الألفاظ المتداولة من الإنجليزية، التي يعرفها كثير من الناس لا يعرفونها.

وأخيرًا، وبعد لأي؛ وجدنا تركيًا أصله عراقي، يعرف عربية مكسّرة، ففرحنا به، وقلنا: مكسرة مكسرة، المكسر خير من العدم. وصحبَنا الرجل إلى محطة القطار، فوجدنا القطار يحتاج إلى حجز، ووقت، وليس أمامنا وقت، فنحصنا الرجل أن نأخذ «الباص» ودلنا على شركة للباص، تنقل الركاب إلى «إستانبول» اسمها: «جول هانه». ومن فضل الرجل أنه وصلنا إليها - أنا والشيخ الجماز - وقطعنا التذاكر من المحطة لنأخذ أول دفعة في السابعة صباحًا، وكان ثمن التذكرة رخيصًا جدًّا (15 ليرة تركية) أي نحو دولار وربع دولار للفرد.

إلى إستانبول:

وفي الصباح الباكر، ركبنا الحافلة، وقرأنا كالعادة أدعية الركوب والسفر، وقد اجتهدت أن أحفظها لبناتي الصغيرات حتى يتعودن عليها. فكنت كلما أركب طائرة أو سيارة أجهر بصوتي: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. وإنا إلى ربنا لمنقلبون. اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى. اللهم هون علينا سفرنا واطو عنا بعده. اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل. اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل.

نتلو هذه الدعوات، في الذهاب، وفي الإياب، ونزيد في الإياب: آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون(1).

وكان معظم الطريق ممطرًا، ونحن لم نتعود على هذه الطرق الجبلية الصاعدة والمتعرجة، فكنا نخاف من الزلق مع شدة المطر، فنقرأ الدعاء المأثور: «بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم»(2).

وكان الطريق إلى إستانبول، كالطريق إلى أنقرة؛ تمتعك خضرته، وتسحرك نضرته، وتروعك جباله التي ألبسها باريها حلة خضراء، تسر الناظرين. وزاد هذا الطريق أننا نمر فيه على «بحر مرمرة» فنستمتع بالنظر إلى المياه مع الخضرة والوجوه الحسنة، وهي الثلاثة التي يقول فيها الشاعر:
ثلاثة يذهبن عنكم الحزن  **  الماء والخضرة والوجه الحسن

واستمتعنا بالاستراحات في الطريق، وشربنا الأيران، وأكلنا المكسرات، وإن كان نزول المطر قد حرمنا النزول أحيانًا. وحوالي الخامسة مساء - بعد العصر - وصلنا إلى المحطة النهائية في إستانبول، ونزلنا في المحطة الأخيرة، لنبحث أين نذهب؟

رحلة بلا تخطيط:

كانت رحلتنا بدون تخطيط، ولا معرفة سابقة، ولا خريطة دالة، ولا دليل يهدي، ولا عناوين أو تليفونات لأشخاص يدلوننا على ما نقصده، أو يساعدوننا في تذليل الصعاب التي تواجهنا.

كل ما كان معنا هو تليفون لشخص واحد وعنوانه، أملاه عليَّ الأخ عادل عاقل، مدير دار الإرشاد للنشر، حين علم أني ذاهب إلى إستانبول. إنه عنوان وتليفون الأخ مصطفى بلجه، الذي لم أكن سعدت بمعرفته من قبل، وهو في منطقة «الفاتح» أي التي فيها جامع السلطان محمد الفاتح، وهو يعرف العربية جيدًا، ومن أبناء الدعوة الإسلامية.

وحين نزلنا - أنا والأخ عليّ جماز - سألنا عن منطقة الفاتح كيف نذهب إليها؟ ولكن كلما سألنا أحدًا لم يرد علينا؛ لأنه لم يفهم ما قلنا له. إنها مشكلة اللغة مرة أخرى!

ووقفنا في طريق يمر منه الناس، نتوسم أحدًا يعرف العربية ولو مكسرة، وكلما مر شخص قال له الأخ الشيخ جماز: سْبيك أرَبِك؟ قلت له: وماذا تفيد كلمة «سبيك أربك هذه؟» إنها لا تفيد إلا من يعرف الإنجليزية. الأولى أن نقول له: هل تعرف العربية؟ فإن كان يعرف أجاب بـ «نعم». وإلا لم يرد عليك.

وذكرنا النكتة التي قالها أحد الظرفاء: أن أحدهم كان في لندن، وهو لا يعرف غير العربية، ويريد أحدًا يعرف العربية يسأله عن شيء، فوقف أمام إحدى السينمات، والناس خارجون، يقول لكل من يواجهه: أنت رجل حمار! أنت رجل حمار! والناس يمرون عليه، ويسمعون هذه الكلمة ولا يعيرونه التفاتًا، إلى أن مر عليه أحدهم، فقال له: أنت رجل حمار! فقال: أنت ستين حمار!

فهناك أمسك به وقال له: إياك أريد. فأنا ما قصدت شتمك، إنما أردت اكتشافك.

ولم تُجْد معنا طريقة: هل تعرف العربية؟ كما لم تُجْد: سْبيك أرَبِك؟

فخطر لنا خاطر - وقد اقترب موعد أذان المغرب - أن نذهب إلى المسجد، نصلي فيه المغرب، لعلنا نجد إمام المسجد يعرف شيئًا من العربية، فنسأله عما نريد.

وذهبنا وصلينا وراء الإمام الذي أمّنا، وقرأ القرآن فأحسن تلاوته، ثم فرغ من صلاته وصلى ركعتي السنة، ثم ختم الصلاة على طريقة الأتراك، وأعطوا كل واحد منا سبحة، ليعد الثلاث والثلاثين تسبيحة وتحميدة وتكبيرة، ثم ختم المائة بـ «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير»، ثم قال: «سبحان ربي الأعلى الوهاب»، ودعا الناس، كل بما في نفسه، ثم ختم الإمام هذا كله بعشر من القرآن تلاها بصوت رخيم، وبدأ الناس ينصرفون، فاتجهنا إلى الإمام نكلمه، فوجدناه لا يعرف معنى كلمة في العربية. إنه يحفظ القرآن، وإن كان لا يفهمه، وهذه معجزة هذا الكتاب، وجدناها من قبل في الهنود والباكستانيين والأفغان، ونجدها اليوم في الأتراك.

عربية مكسرة تكفي:

وظللنا نكلم بعض الناس، عسى أن نجد فيهم من يعرف شيئًا من العربية، حتى عثرنا أخيرًا بين المصلين على واحد يعرف بعض كلمات من العربية، فكأنما عثرنا على كنز ثمين.

سألنا الرجل: أين منطقة الفاتح؟ فقال لنا كلامًا كثيرًا بعضه بالتركية، وبعضه بالعربية، عرفنا من خلاصته: أننا في البر الآسيوي من مدينة إستانبول، ومنطقة «الفاتح» في البر الأوروبي منها، ولا بد أن نركب «الوابور» أي الباخرة لتنقلنا إلى الشاطئ الآخر، ثم نستأجر سيارة «تاكسي» لتأخذنا إلى منطقة الفاتح، وهناك تسكنون في فندق إلى الصباح، ثم تبدءون البحث عن صديقكم.

وتنفسنا الصعداء، وقلنا: الحمد لله، قد عرفنا طريقنا، وعرفنا كيف نصل إلى مقصودنا.

وهذا مثَل حي للإنسان إذا أراد هدفًا لا يعرف طريقه، ولا يعرف دليلًا يوصله إلى هذا الطريق.

وهذا هو السر في بعث الله رسله إلى الناس حتى يهدوهم إليه، ويعرفوهم الطريق إلى مرضاته؛ وإلا ضاع الناس، وبقوا حائرين، لا يدرون: أيشرقون أم يغربون؟ وربما ذهبوا شمالًا وهم يبغون اليمين أو العكس.

الباخرة إلى الشاطئ الآخر:

لقد استأجرنا سيارة تاكسي لتنقلنا إلى محطة الباخرة أو «الوابور»، كما قال الأخ التركي. وقطعنا التذاكر، وركبنا لأول مرة هذا النوع من البواخر التي تنقل الركاب من شاطئ إلى شاطئ، وكانت رحلة ممتعة بعد المغرب، ونحن نشق عُباب «البوسفور» في هذا الجو المنعش، ونسمات البحر تهب علينا، وقد قلنا عندما ركبناها ما قاله سيدنا نوح عليه السلام حينما ركب سفينته، وقال لمن معه: {ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (هود:41).

ووصلنا إلى الشاطئ الأوروبي في محطة أو مرسى يسمى: «قاضي كوى»، والمرسى في الشاطئ الآخر يمسى: «كرا كُوي».

ومِن «قاضي كوى» أخذنا سيارتين لأسرتينا، وقلنا له: نريد فندقًا في منطقة «الفاتح» فذهب بنا إلى فندق، وآخر، فلم نجد فيه مكانًا فارغًا، فاقترح الرجل أن نذهب إلى «أقصراي» قلنا: لا بأس. ونحن لا نعرف شيئًا لا عن أقصراي ولا عن غيرها.

وفي أقصراي وجدنا فندقًا مناسبًا، يملكه رجل أصله حلبي، ويعرف العربية، وكان هذا كسبًا كبيرًا لنا، أن نجد من يعرف العربية، ويستطيع أن يفهمنا ونفهمه، ولكن صاحب الفندق لم يكن موجودًا في ذلك الوقت.

ونحن نريد أن نقيم في الفندق لعدة أيام فقط؛ لأن تكاليف الفنادق فوق طاقتنا، وإنما هي مرحلة ضرورية حتى نستأجر منزلًا أو شقة مناسبة، فننتقل من الفندق إليها، وكلما طالت إقامتنا في الفندق زاد العبء علينا، وكلما قصرت مدة الإقامة كان في ذلك سعة وبحبحة لنا.


مضيق البوسفور

البحث عن مصطفى بلجه:

وفي الصباح بعد أن تناولنا فطورنا؛ شرعنا في البحث عن الشخص الوحيد الذي نعرفه باسم: «مصطفى بلجه»، واتصلنا بالتليفون الذي أعطاه لي عادل عاقل، وردت علينا امرأة، لم نفهم منها شيئًا، ولم تفهم منا شيئًا، إلا أن مصطفى غير موجود.

فقلنا: نذهب نبحث عن البيت حسب العنوان، ونترك رسالة مكتوبة، وظللنا نمشي في منطقة الفاتح يمينًا وشمالًا، لنبحث عن الشارع الذي فيه العنوان، فلم نهتد إليه، فنفضنا أيدينا يأسًا من الوصول إليه، وعدنا إلى الفندق.

محمد فرحان:

وبعد عودتنا إلى الفندق؛ كان من حظنا أن وجدنا صاحب الفندق، وهو يتكلم العربية بطلاقة، ورحب بنا، وقلنا له: إننا نريد من يساعدنا على استئجار منزلين، أو شقتين في مكان مناسب، وبسعر مناسب. فقال: يسكن بجوار الفندق طالب عربي شهم كريم، من الأردن، وهو يدرس بالجامعة هنا منذ سنوات، ويعرف البلد هنا تمامًا، وأعتقد أنه إذا عرف بوجودكم فسيسره أن يخدمكم.

وأرسل إليه بالفعل أحد موظفي الفندق، يستدعيه إلينا؛ فلبى النداء مشكورًا، وحضر مسرعًا، فتعرف علينا، وفرح بلقائنا، وقال: أنا متفرغ لخدمتكم في كل ما تريدون، وليس عندي شيء محدد يشغلني الآن، فنحن في فترة الإجازة.

وكان الأخ محمد فرحان هجاينه «الأستاذ الدكتور الآن» عند حسن الظن به، فوضع جهده ووقته للبحث معنا عن المسكن الملائم، وظللنا يومين نبحث في إستانبول، وهي مدينة كبيرة رحبة، فيها الجانب الآسيوي والجانب الأوروبي، ولكننا اخترنا أن نسكن في الجانب الأوروبي، فهو الحافل بالآثار الإسلامية، والجوامع الضخمة، والمكتبات والأسواق المغطّاة والمكشوفة، وغيرها.

وبعد معرفتنا بجغرافية المدينة؛ رأينا أن أكثر الأماكن مناسبة هو ما كان حول منطقة «تقسيم» الشهيرة، التي تُعَدّ مركز القسم الأوروبي من المدينة.

السكنى في حي شيشلي ومزاياه:

وفعلًا في اليوم الثالث؛ وفقنا إلى شقتين مناسبتين جدًّا، لي وللأخ الجماز، وكلتاهما في منطقة تسمى: «شيشلي»، وهي منطقة راقية وهادئة وآمنة. أشبه بحي العجوزة أو الدقي بالقاهرة الكبرى. وكانت أجرة الشقة معقولة بل رخيصة جدًّا، فهي في الشهر (500) ليرة تركية، وكان الدولار يصرف بـ (12) ليرة، يعني أن أجرة الشقة الشهرية - وهي مفروشة ومجهزة بكل اللوازم - نحو (40) دولارًا.

وكان للسكنى في حي شيشلي مزايا كثيرة، منها: القرب من حدائق كثيرة، كنا نذهب إليها معظم الأيام، مصطحبين الأطفال، ليسرحوا في هذه الحدائق ويمرحوا، ويلعبوا بالأراجيح والأدوات الكثيرة والمتنوعة، المهيئة للأولاد.

ومعظم هذه الحدائق مجانية معدة لخدمة أبناء الشعب، وقليل جدًّا منها هو الذي يحتاج إلى دفع رسوم؛ لأنها تحتوي آثارًا مهمة، وهي رسوم غير باهظة. ومن المزايا التي اكتشفناها لمنطقة «شيشلي»: أنها تتمتع بـ «سوق متنقلة» تقام بها في كل أسبوع مرتين.

يأتي الباعة من كل الأصناف: الخضراوات والفواكه واللحوم، وأنواع المأكولات والملبوسات. ويفرش التجار، ويعرضون بضائعهم، فيبيعونها بأثمان معقولة جدًّا، وفي آخر النهار حينما يريد كل بائع أن يصفي ما عنده: تباع البضاعة بأقل من نصف ثمنها. ومن هذا السوق اشترينا كل حاجاتنا، وخصوصًا مع رخص الليرة، وقدرتها الشرائية العالية في ذلك الوقت.

وأذكر أننا لقينا الأخ الصديق الأستاذ عبد الحميد طه، زميلنا في قطر، والذي سبقنا مع أسرته إلى إستانبول، والذي أخبرنا أن الأسعار هنا رخيصة بالنسبة إلى لبنان. وكان يقول: اقسم على أربعة تعرف الفرق. أي أن الليرة اللبنانية تساوي (4) ليرات تركية.

وكان من مزايا منطقة شيشلي: أنها قريبة من المحلات الكبيرة المتخصصة في بيع اللحوم، وقد اكتشفنا هذه المحلات التي تبيع اللحوم مصنفة ومقطعة ومجهزة. فمنها: ما يباع قطعًا كبيرة، فخذًا أو كتفًا. ومنها: ما يباع قطعًا صغيرة تصلح للسلق أو للشيّ، أو لغير ذلك. ومنها: ما هو مقطع بالفعل وموضوع على السيخ ومعد للشي مباشرة.

وكانت هذه اللحوم في غاية الجودة، وغاية الرخص، وقد دعونا بعض الإخوة الأتراك على غداء أو عشاء، وأطعمناهم من هذه اللحوم، فسألونا: من أين لكم بهذه اللحوم الجيدة؟! لقد عرفنا من خبايا إستانبول ما لم يعرفه أهلها الذين يعيشون فيها؛ لأنهم يعيشون غالبًا في مناطق شعبية ليس فيها هذه الإمكانات.

زيارة الجوامع والمتاحف والآثار:

اكتشفنا هذه المزايا للمنطقة التي وفقنا الله للسكنى فيها، فكانت قريبة من كل ما ذكرناه. كما كانت قريبة من مناطق الجوامع والآثار العثمانية الفريدة، التي بدأنا نخطط لزيارتها، فزرنا «جامع السليمانية» الشهير، وهو تحفة معمارية إسلامية، قلما يوجد لها نظير، في أعمدته وقبته وزخارفه.

وكان المسجد أو الجامع عند الدولة العثمانية: مؤسسة كاملة، تقام بجواره مكتبة علمية، ومساكن للطلاب، وحدائق تجمل المكان، وتملؤه بهجة، وتجعل منه روحًا وريحانًا.

وزرنا كنيسة «آيا صوفيا» الشهيرة التي حولها السلطان محمد الفاتح إلى مسجد، وغطى الصور والتماثيل الموجودة فيها، وظل المسلمون عدة قرون يصلون فيها، فلما حدث الانقلاب العلماني في عهد أتاتورك، وألغيت الخلافة، وعطلت الشريعة، وحذف كل ما يمت إلى الإسلام بصلة، حتى الحروف العربية التي كانت تكتب بها اللغة التركية: ألغيت واستبدل بها الحروف اللاتينية، حتى الأذان مُنع باللغة العربية؛ في هذه الحالة أُلغيت مسجدية آيا صوفيا، وحولت إلى متحف!

وقد كان بعض العلماء والدعاة الكبار إذا دخلوا هذا الجامع؛ صلوا فيه ركعتين. أول من علمته فعل ذلك: الداعية الفقيه الشيخ مصطفى السباعي، وحينما زارها العلامة الشيخ أبو الحسن الندوي، قال: سن لنا الشيخ السباعي سنة حسنة، فصلى فيها ركعتين. وقد حاولت أن أفعل ذلك، فلم يمكني الحراس، وقالوا: هذا ممنوع.

وبعد زيارة «آيا صوفيا» اتجهنا إلى زيارة «جامع السلطان أحمد» بجوارها المعروف بـ «الجامع الأزرق». وقد بناه السلطان ليضاهي آيا صوفيا. فكان آية من آيات الفن وروعة العمارة الإسلامية، وفاق آيا صوفيا بجماله وجلاله؛ ولذا ترى آلاف السياح، بل عشرات الآلاف كل يوم يفدون إليه من كل حدب وصوب، ويستمتعون برؤية آيات الفن والجمال والإبداع في جدرانه وأركانه وأعمدته وسقوفه ومآذنه، وأبوابه ونوافذه ومداخله، ومآذنه السّتّ، يصورونه من كل مكان وناحية. وقد سمعت الأستاذ جارودي يتحدث عنه كما يتحدث العاشق عن معشوقته.

وهذا الجامع - كجامع السليمانية - مؤسسة شاملة، تضم مكتبة ومساكن وحدائق وملحقات، وإن كان جامع السليمانية يعدّ الأول من حيث سعته.

.....

(1) رواه مسلم (2392) عن ابن عمر.

(2) رواه أحمد (418)، والترمذي (3310)، وقال: حسن صحيح، وأبو داود (4425)، وابن ماجه (3859) عن عثمان بن عفان.