في موسم حج سنة (1395هـ - ديسمبر 1975م) دعتني رابطة العالم الإسلامي إلى الحج والمشاركة في موسمها الثقافي الذي تعقده كل عام، وتقيم فيه محاضرات وندوات في موضوعات إسلامية مختلفة، ويكون فرصة لالتقاء عدد من رجال العلم والدعوة والفكر من أنحاء العالم الإسلامي.
ولا ريب في أنها سنة حسنة استنتها الرابطة لتحقيق الحكمة من هذه السفرة العظيمة، وشهود المنافع التي ناط الله بها هذه العبادة المتميزة، {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (الحج:28)، وليست المنافع هنا مقصورة على ما يتوهمه كثيرون من المنافع التجارية والمادية، بل المقصود منافع الأمة بكل ما تتضمنه الكلمة من معان، وكما تتسع المنافع للجانب المادي والاقتصادي: تسع الجوانب الروحية والفكرية والسياسية والاجتماعية لأمة الإسلام كلها، التي تشترك في هذا الموسم العالمي من جميع الأجناس والألسنة والألوان والأقطار والطبقات.
ولقد استجبت للدعوة، وصحبت زوجتي معي، ونزلنا ضيوفًا على الرابطة في مبناها الكبير بمنى، الذي أعطونا حجرة منه لي ولزوجتي. وكانت هناك سيارات تنقل من أراد الصلاة في الحرم، على أن منى من الحرم، وفيها أجر الصلاة في الحرم، على القول المختار. وفي يوم التروية «الثامن من ذي الحجة» أحرمنا من حيث نقيم في منى، وقد كنا تمتعنا بالعمرة إلى الحج، وفرغنا من العمرة منذ أول يوم.
وفي صباح يوم عرفة نقلتنا سيارات الرابطة إلى عرفة، وقد وصلنا إليها بسرعة مذهلة، وقد أفردوا لي خيمة مع زوجتي، وكذلك لكل من صحب معه أهله. وهناك خيمة مشتركة لصلاة الجماعة، واللقاء العام.
وقضينا يومنا في ذكر وتسبيح، وتهليل وتكبير، ودعاء واستغفار، وتلاوة للقرآن، لنرضي الرحمن، ونرغم أنف الشيطان، الذي ما رُئي في يوم أصغر ولا أدحر ولا أحقر منه في يوم عرفة، إلا ما رُئي يوم بدر، يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان.
في هذا اليوم العظيم، وفي هذا الصعيد المبارك، نرى الناس يجأرون إلى الله بالدعاء، منهم من يعلن، ومنهم من يسر، منهم من هو مشغول بنفسه، وأكثرهم يدعو لمن يحب من أهل وأصحاب، ومنهم من هو مشغول بأمر المسلمين، يدعو أن ينصرهم الله على عدوهم، وأن يوقظهم من سباتهم، وأن يجمع كلمتهم على الهدى، وقلوبهم على التقى، وأنفسهم على المحبة والتعاون على البر والتقوى. وصدق الله إذ يقول: فمنهم من يقول: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة: 200-201).
وكنت أُكثر من هذا الدعاء، الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر منه، وأدعو لنفسي ولأهلي، ولكل من أحب، وكل من له حق عليَّ، وكل من سألني الدعاء، وكل المسلمين حيثما كانوا: أن يحقق الله آمالهم من كل خير، وأن يفرج عنهم كل كرب، ويجعل لهم من عسرهم يسرًا، ويبدلهم بعد خوفهم أمنًا. ويُمَكِّن لدينهم في الأرض، ويجعل كلمته هي العليا، وكلمة أعدائه هي السفلى.
وعندما أوشكت الشمس أن تضيّف للغروب، استعددنا للرحيل، ولم يكن يُسمح لأحد أن يرحل من عرفات قبل غروب الشمس على ما هو مذهب الجمهور، وإن كان مذهب الشافعي يجيز ذلك وفيه تيسير على الناس.
قد استعددنا بركوب السيارات حتى إذا غربت الشمس، وأذن مؤذن الرحيل أن ننفر من صعيد عرفات؛ انطلقت بنا السيارات إلى «المشعر الحرام» إلى مزدلفة، لنحط رحالنا، ونذكر الله كما أمرنا، ونصلي المغرب والعشاء جمع تأخير.
وقد جمعنا بين الصلاتين، وتناولنا بعض الطعام، والتقطنا حصى جمرة العقبة يوم العيد، وحصى اليومين بعدها، فنحن عادة نتعجل كمعظم الناس، فالتقطنا لكل منا (49) حصاة.
وبقينا إلى أن ظهر القمر بعد الحادية عشرة، فانطلق من كان معه نساء أو ضَعَفة، إلى منى، لنرمي جمرة العقبة الكبرى، وهي الجمرة الوحيدة المطلوبة في يوم العيد، وعندها تنتهي التلبية، وبعدها ذهبنا إلى مسكننا في منى، لأقصّر، وتقصر زوجتي، وأتحلل التحلل الأول، وأخلع ملابس الإحرام، وألبس ملابسي العادية، ثم نستعد للنزول إلى مكة والطواف والسعي، قبل أن يهجم الزحام، ويتدفق السيل العرم، من حجاج بيت الله الحرام.
خطر لي أن آخذ برأي شيخ الإسلام ابن تيمية: أن المتمتع يكفيه سعي واحد كالقارن، عملًا بظاهر بعض الأحاديث، فأكتفي بسعي العمرة، ولكني آثرت الأخذ برأي الجمهور عملًا بالأحوط، ولا سيما أن المسعى لم يكن قد ازدحم بعد.
وفعلًا طفنا وسعينا، وأتممنا منسكنا، داعين الله بما دعا به الخليل الرحمن، وابنه الذبيح إسماعيل: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة:127)، اللهم اجعله حجًّا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا، وعملًا مبرورًا، وذنبنا بعده مغفورًا، وتجارة لا تبور..
وأذكر أننا في عودتنا من مكة إلى منى: لقينا نَصَبًا، وفاجأنا زحام الطريق الذي لم نكن نتوقعه، حتى إننا لم نصل إلى مكاننا في منى إلا بعد ساعات! فلم تكن حركة المرور قد نظمت كما هي الآن.
وفي اليومين التاليين ليوم العيد، كنت أذهب من الصباح أنا وزوجتي لنرمي الجمرات الثلاث؛ عملًا بقول الأئمة الذين رأوا مشروعية الرمي في أيام منى قبل الزوال، وهم: عطاء، وطاووس، وأبو جعفر الباقر، ورجح ذلك بعض علماء الشافعية وغيرهم، وتبنينا الأخذ بالأيسر في أمور الحج، وخصوصًا في هذه السنين التي يشكو فيها الحجاج من شدة الزحام، ويموت منهم من يموت تحت الأقدام!
وبعد ذلك نزلنا إلى مكة، ثم طفنا طواف الوداع، وودعنا المسجد الحرام، ومكة البلد الحرام. ثم انتقلنا إلى المدينة المنورة، لنصلي في المسجد النبوي، والروضة الشريفة، وننعم بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره، والسلام على صاحبيه، وخليفتيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ونزور معالم المدينة، ونصلي في مسجد قباء، ومسجد القبلتين.
ثم عدنا من المدينة إلى جدة بالسيارة، ومن جدة إلى الرياض، ومنها إلى الظهران، فالدوحة. وشكرنا رابطة العالم الإسلامي: أن أتاحت لنا هذا الحج الميسر المرفه، الذي جعل زوجتي تقول: هل نثاب على هذا الحج الذي لم ننم فيه على الحصى؟ ولم نَشْكُ فيه زحمة الرفقاء معنا على المرافق المحدودة، وقد وفّر لنا المطعم والمشرب والمركب وكل ما نحتاج إليه؟
وقلت لها: أما إجزاء ذلك الحج، فلا شك فيه، وإن كان حجًّا مريحًا ومرفهًا، ولكن ثوابه ليس كثواب من يعاني المشقات في حجه: في طريقه وتنقله، وفي مأكله، ومشربه، ومسكنه؛ فكل ينال أجره على وفق أمرين:
الأول: على قدر حجم النصب والمشقة، كما قال صلى الله عليه وسلم لعائشة: «أجرك على قدر نصبك».
الثاني: على قدر خلوص النية، كما في الحديث الصحيح: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى».
المؤتمر العالمي الأول في الاقتصاد الإسلامي:
كان من أهم المؤتمرات العالمية التي شاركت فيها بالبحث والمناقشة والمحاضرة: المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي، الذي عقد بالمملكة العربية السعودية، والذي جسد الصحوة الإسلامية في تلك المرحلة، في ميدان من أخطر الميادين التي غزتها الثقافة الغربية، وهو ميدان الاقتصاد.
أقيم المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي في مكة المكرمة، في الفترة ما بين (21 - 26 صفر 1396هـ)، الموافق (21 - 26 فبراير 1976م)، تحت رعاية جامعة الملك عبد العزيز، وكانت الجامعة تضم كليات في جدة، وأخرى في مكة، وهي التي استقلت بعد ذلك، وضمت إليها كليات جديدة، وبها ظهرت جامعة «أم القرى».
أعدت الجامعة لهذا المؤتمر الكبير إعدادًا جيدًا، واستعانت بعدد من المعنيين والمختصين في الاقتصاد الإسلامي، وكان المدعوون من قارات العالم كله، من الغرب والشرق، من العرب والعجم، من علماء الاقتصاد، وعلماء الشرع، من رجال النظر، ورجال التطبيق. وقد اختيرت الموضوعات بعناية، وكلف بها أخص الناس ببحثها، وأوصلهم رحمًا بمعرفتها.
وكانت دعوة الباحثين قبل المؤتمر بمدة كافية، وقد حدد موعد المؤتمر، ثم اضطروا إلى تأخيره بسبب حادث جلل، وهو اغتيال رجل الأمة، وبطل المرحلة، الملك الصالح، فيصل بن عبد العزيز آل سعود رحمة الله عليه. الذي اجتمعت الأمة على حبه وتقديره؛ لما لمسته فيه من إخلاص وتفان في خدمة الإسلام، ومقاومة أعدائه؛ لهذا حزنت الأمة كلها من المحيط إلى المحيط، على وفاته. وكان في هذا التأجيل فرصة لمزيد من الإنضاج وحسن الإعداد، أكثر وأكثر.
كان مدير جامعة الملك عبد العزيز في ذلك الوقت، صديقنا الحبيب الرجل الشعلة، الذي يعمل ولا يكل ولا يمل ولا يهدأ، من أجل خدمة الإسلام، ونصرة قضايا الإسلام؛ إنه الدكتور محمد عمر زبير، الذي وفقه الله للإعداد الجيد لهذا المؤتمر، بمن معه من الأعوان الصادقين من عمداء الكليات، وأساتذة وإداريين.
وقد عقد المؤتمر في فندق «إنتر كونتيننتال مكة»، وكان فندقًا جديدًا وواسعًا، وفيه قاعات تسع المؤتمرين والضيوف، وقاعات فرعية للحلقات المتخصصة، ومسجد جامع كبير للصلاة، وهناك فرصة لمن يريد الصلاة بالحرم الشريف، تنقله إليه «باصات» وسيارات خاصة، مهيأة للضيوف.
كان المؤتمر جامعًا لكل من تحب أن تراه من كبار رجال الفقه والشريعة والدعوة، ورجال الاقتصاد والمحاسبة والإدارة: الشيخ ابن باز، والشيخ الزرقا، والشيخ الندوي، والأساتذة: عيسى عبده، ومحمد المبارك، ومعروف الدواليبي، والبهي الخولي، ومحمود أبو السعود، وأحمد النجار، ومناع القطان، وعبد العزيز حجازي، وخورشيد أحمد، وحسين حامد حسان..
ومحمد نجاة الله الصديقي، ومحمد صقر، وأنس الزرقا، ومنذر قحف، وشوقي الفنجري، وعبد الرحمن يسري، ورفيق يونس المصري. وآخرين من أهل العلم والفضل، لا أستطيع أن أتذكرهم، فقد كانوا نحو ثلاثمائة عالِم وخبير.
وهناك عدد من الإعلاميين المرموقين، قد دعوا ليغطوا هذا المؤتمر، بعد أن يشاركوا فيه، ويروه رأي العين، أذكر منهم: الكاتب الإسلامي المرموق: الأستاذ فهمي هويدي.
كان في المؤتمر محاضرتان عامتان، يُدعى إليها أعضاء المؤتمر وغيرهم: محاضرة في أول المؤتمر، ألقاها الداعية الإسلامي الكبير الأستاذ محمد قطب، ومحاضرة في خواتيم المؤتمر يلقيها الفقير إليه تعالى يوسف القرضاوي.
كانت جلسات المؤتمر غنية بالبحوث الأصيلة في بابها، والمناقشات الحرة المستفيضة حولها، وكان بحثي الذي كلفت بكتابته حول «دور الزكاة في علاج المشكلات الاقتصادية».
وكان من البحوث التي احتدّ فيها النقاش: بحث «التأمين بين الحل والحرمة»، وقد كتب فيه عدة أشخاص، وكان جل النقاش بين العلامة الشيخ مصطفى الزرقا، والأستاذ الدكتور حسين حامد حسان، حيث يميل الزرقا إلى الإباحة بقيود، ويميل حسان إلى التحريم.
ومما ذكره الأستاذ فهمي هويدي: أنه حضر منذ سنوات مؤتمرًا في «كوالا لامبور» في ماليزيا، فرأى الحضور هناك انقسموا إلى قسمين: قسم يحرم فوائد البنوك، وقسم يحاول تسويغ الفوائد، بإيجاد سند شرعي لها، ولكن هذا المؤتمر لم تثر فيه هذه القضية قط، بل هو مجمع على تحريم الفوائد تحريمًا باتًّا. قلت له: وأضيف إليك ملاحظة أخرى، وهو أن رجال الاقتصاد هنا كانوا أشد حماسة للتحريم من رجال الشريعة!
كان من حضور المؤتمر أستاذنا البهي الخولي، الذي شارك في المؤتمر بالمناقشة، وبكلمة شفوية ألقاها في إحدى الجلسات، وقد حضر هو وزوجته، واقتضت ظروفه الصحية أن يسافر قبل انتهاء المؤتمر، وعند موعد سفره زرته في حجرته لأودعه، وأبيت إلا أن أحمل حقيبته التي فيها حاجياتهما، وهو يأبى عليَّ، وأنا مصرّ، وهنا تطلع إلى زوجته وقال لها: يا أم مجيد، أتعرفين من يحمل حقيبتك؟ إن من يحملها هو فقيه العصر! قلت: يا مولانا، إنما نحن تلاميذك، ومن غرس يدك. وقد كان الأستاذ البهي حسن الظن بتلميذه القديم، فألبسه ثوبًا أوسع منه!
وختم المؤتمر جلساته بالجلسة الختامية، وفيها توصيات وقرارات مهمة، مما اتفق عليه المؤتمرون، تتعلق بالموضوعات التي بُحثت، ومنها: التوصية بإنشاء مركز عالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي، توفر له الإمكانات المادية والبشرية، ليقوم بمهمته وسط الصراع العالمي، الذي اتخذ طابعًا أيديولوجيًّا محوره الاقتصاد، ليظهر الاقتصاد الإسلامي: الاقتصاد الوسط الذي يقيم الموازين القسط بين الاقتصادين الفردي «الرأسمالي»، والاقتصاد الجماعي «الشيوعي».
والحمد لله قام هذا المركز في جامعة الملك عبد العزيز، ودُعيت للمحاضرة فيه، والاجتماع برجاله أكثر من مرة، وقام عليه إخوة كرام، على رأسهم: أ. د. الزبير، الذي تفرغ له حينًا من الدهر، ود. أنس الزرقا، ود. محمد نجاة الله الصديقي، ود. منذر قحف، ود. رفيق المصري، وآخرون من أفاضل العلماء في الاقتصاد الإسلامي.
اجتماع تاريخي للإخوان معي:
وكان من أهم الأحداث التي وقعت لي خلال هذا المؤتمر: أن التقى بي ثلاثة من كبار الإخوان، هم الأستاذ هارون المجددي، الذي كان مسئولًا عن الإخوان المصريين في الخارج أيام محنة 1965م وأعقابها، والأستاذ صالح أبو رُقَيِّق عضو مكتب الإرشاد، وأحد القيادات التاريخية في الإخوان، والذي كان قريبًا من الأستاذ الهضيبي، والأستاذ محمود أبو السعود عضو الهيئة التأسيسية، وأحد الإخوان القدامى، والاقتصادي الإسلامي البارز، وقد عرضوا عليَّ أمرًا في غاية الأهمية..
قالوا: إن الأستاذ الهضيبي المرشد الثاني للإخوان قد انتقل إلى رحمة الله تعالى، وأصبحت الجماعة في فراغ من القيادة، والإخوان في هذه المرحلة في حاجة إلى قيادة شابة واعية مؤمنة، تجمع بين فقه الشرع، وفقه العصر، والإخلاص للدعوة، وتجتمع عليها كلمة الإخوان، ولم نجد أحدًا تجتمع فيه هذه الصفات غيرك، ونحن نتحدث بلسان من وراءنا من الإخوان، وهم كثيرون..
فإن كنت حريصًا على مصلحة الدعوة التي نشأت فيها، وأفنيت زهرة شبابك في إعزازها ونشرها والذود عنها، حريصًا على جمع كلمة أبنائها، حريصًا على أن تستمر الدعوة وتتقدم إلى الأمام بوعي وبصيرة وثبات وقوة؛ فتوكل على الله، واقبل هذا الأمر، محتسبًا عند الله، مبتغيًا الأجر منه، لتكمل الطريق الذي بدأه حسن البنا، وخلفه حسن الهضيبي!
واستمر الإخوة يتحدثون بعضهم وراء بعض، ليقنعوني بقبول ما عرضوه عليَّ، وأن في ذلك الخير للإسلام ودعوته وأمته إن شاء الله، وإنما لكل امرئ ما نوى.
قلت للإخوة: إن ما عرضتموه عليَّ ليس بالأمر الهين، بل هو أمر جلل، وهو قيادة دعوة عالمية في ظروف غير مواتية، وقد فاجأتموني بهذا الطلب، الذي ما فكرت فيه قط، فما كنت في الجماعة إلا جنديًّا من جنودها، لم أتطلع يومًا إلى زمام القيادة، لتكون في يدي، وهذه منّة من الله عليَّ، أني لست من الذين يجرون خلف سراب الزعامة، وكأنها طبيعة فيَّ لا متكلفة ولا مفتعلة.
قال الإخوة: وهذا مما يزيدنا تمسكًا بك، وإصرارًا عليك، وأنت تعرف الحديث الذي يقول ما معناه: «إن أعطيتها بغير سؤال أُعنت عليها، وإن أخذتها بسؤال وُكِّلت إليها».
قلت لهم: أعطوني مهلة أفكر فيها على مهل، أشاور نفسي، وأراجع حساباتي، وأستخير ربي، وأستشير بعض إخواني، ثم أرد عليكم. وإن كنت مبدئيًّا لا أراني أهلًا لهذا الأمر.
قالوا: نعطيك شهرين للتفكير والمراجعة.
قلت: لا بأس بذلك.
قالوا: ليكن ردك على الأستاذ أبو السعود؛ لأنه يعيش في أمريكا، فالرد عليه أضمن وأحوط من الرد على من يعيشون داخل مصر.
اعتذار عن عدم قبولي منصب المرشد العام:
وبعد طول تفكير، واستخارة، واستشارة، على ما جاء في الأثر: «ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار»، وإن كنت لم أستشر إلا قليلين جدًّا؛ لأن جل من أستشيرهم يحثونني على القبول، ولكني لم ينشرح صدري لهذا الأمر، وكتبت إلى الدكتور أبو السعود الرسالة التالية:
أخي الدكتور محمود أبو السعود حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد
فلقد كانت فرصة طيبة تلك التي جمعتنا في ظل المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي في رحاب مكة المكرمة، وبجوار بيت الله الحرام، وكانت أيامًا مباركة تلك التي سعدتُ فيها بلقائكم بعد غيبة أكثر من عشرين عامًا، افترقتْ فيها الأبدان، ولم تفترق القلوب.
وأسأل الله تعالى أن يديم هذه الأخوة التي انعقدت أواصرها على دينه وفي سبيله، حتى يظلنا بها في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
هذا وقد فكرتُ طويلًا فيما عرضتم عليَّ عند لقاءنا ذاك، وقلّبتُ الأمر على وجوهه، كما استخرت الله تعالى في الأمر، وتبين لي بعد ذلك ما سبق أن أبديته لكم لأول وهلة؛ وهو أني لست الرجل المنتظر للمسئولية التي تحدثتم عنها، ولا أرى نفسي أهلًا للقيام بها. ورحم الله امرءًا عرف قدر نفسه.
أخي، إن الله تعالى قد وزع المواهب والقدرات على عباده، فمنهم من فتح له في مجال العلم، ومنهم من فتح له في مجال السياسة، ومنهم من فتح له في مجال الإدارة، ومنهم من جمع له أكثر من موهبة، وهو سبحانه يختص برحمته من يشاء، وأحسب أني، إن كان لي موهبة، فهي في المجال الأول، والحمد لله على ذلك أولًا وآخرًا، وقد قيل: من بورك له في شيء فليلزمه؛ وذلك ليكون أقدر على إتقانه والتفوق فيه.
وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم خصائص أصحابه، فوضع كلًّا في المكان اللائق به، فلم يضع حسّانًا ولا أبا هريرة في مكان خالد، أو زيد بن حارثة، ولم يضع أبا ذر في مكان عمرو بن العاص، وإن كان أبو ذر أحب إليه، وأعز عليه، وآثر لديه.
ولما سأله أبو ذر أن يوليه على بعض أعماله، قال له بصراحة: «إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها خزي وندامة يوم القيامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها»([1]).
فهذا توجيهه صلى الله عليه وسلم لأبي ذر، وهو الذي قال فيه: «ما أقلّت الغبراء، ولا أظلت الخضراء، أصدق لهجة من أبي ذر»([2]).
إن دعوتنا -وإن كانت دينية المصدر والغاية- فهي سياسة من حيث الوسيلة والمواجهة؛ ولذا تحتاج إلى رجل يعرف السياسة وألاعيبها وأغوارها، بجوار معرفته للدين ومصادره، وأنا لا أحسن هذا الفن، إلا في خطوطه العامة، ولم أتمرس به، ولا أظن طبيعتي تصلح له. ولا أرضى لنفسي -ولا ترضى لي أنت أيضًا- أن أكون جهازًا في أيدي آخرين، يحركونه فيتحرك، ويوقفونه فيتوقف!
وفضلًا عن هذا كله، فإن هذه الدعوة الربانية التي جعلت شعارها من أول يوم: «الله غايتنا» تحتاج إلى أن يكون على قمتها رجل غامر الروحانية، عامر القلب بالخشية والتقوى، متألق الجوانح بمعاني اليقين والإنابة؛ ليستطيع أن يفيض من قلبه على قلوب من حوله، وأراني دون هذا الأفق بمراحل، وفاقد الشيء لا يعطيه.
لا تظن يا أخي أن ما أقوله لك من باب التواضع أو هضم النفس؛ فإنما هو من باب تقرير الحقائق، ووصف الأشياء بما هي عليه، وقديمًا قالوا: «مِن سعادة جدك، وقوفك عند حدك».
وقد تقول: إن تقدير كفايتك وأهليتك لعمل ما؛ ليس من شأنك أنت، وإنما هو شأن أهل الحل والعقد الذين وكّل إليهم الاختيار، وهم الذين يقولون: هذا يصلح، وهذا لا يصلح، فإذا رشحوك فهم أعرف بك، وأقدر على تقويمك، وأقول: إن كل إنسان أدرى بعيوب نفسه، ونقاط ضعفه، والناس تحكم بما يطفو على السطح لا بما يرسب في الأعماق.
ومِن النعم التي أحمد الله عليها: أنه رزقني السلامة من الانتفاخ الكاذب، والغرور بالباطل، ولعل هذا هو فضلي الوحيد: أن مرآتي لم تصدأ ولم تتغير، حتى أرى فيها وجهًا غير وجهي، أو شخصًا غير شخصي؛ ولهذا أرى نفسي على حقيقتها بضعفها وغفلاتها وبمواهبها المحدودة، دون تضخيم أو تزييف.
وقد قال ابن عطاء الله في حكمه: الناس يمدحونك لما يظنونه فيك، فكن أنت ذامًّا لنفسك لما تستيقنه منها. أجهل الناس من ترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس!
إني أعتقد أن من مصلحة الدعوة التي أنتمي إليها، ومصلحة الإسلام عامة، الذي نذرت نفسي لخدمته: أن أظل مشتغلًا بالعلم وبالبحث؛ لإتمام ما عندي من مشروعات علمية أراها مهمة ونافعة إن شاء الله.
وقد أُتيح لي الآن -من خلال موقعي ومعرفة الناس بي- أن أتصل بالمجتمعات العلمية في مؤتمرات عربية وإسلامية وعالمية شتى. ومن الخير أن يستمر هذا الاتصال بعد أن فُرضت عليّ العزلة مدة طويلة في مكان قصي منعزل.
إن جماعتنا لم تخل -ولن تخلو إن شاء الله- من الكفايات القادرة على قيادة السفينة بقوة وأمانة، ولن تعدموا «القوي الأمين» أو «الحفيظ العليم» في صفوف الحركة، بعون الله.
والله يتولى الجماعة ويرعاها بعينه التي لا تنام، وهو ولي الصالحين.
أخوكم
يوسف القرضاوي
وقد علق الأستاذ محمود أبو السعود برسالة، جاء فيها:
الأخ الكريم فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي
وعليكم من الله السلام والرحمة والبركات - أعزك الله، ونفعك ونفع بك، وأعانك على ما فرغت له نفسك من خير وعلم، وجعلك أبدًا مهوى القلوب، ومقصد الحق، وواسطة عقد الأخلاء.
يا أخي: «لقد أسكتت جهيزة قول كل خطيب» ولم يعد لي ما أقول، وما حدثتك فيه أمر تمناه غيري كما تمنيته، أما وقد قطعت فيه برأي، فالخيرة ما اختاره الله. وإني لأعلم -كما تعلم أنت- أن ليس لما دعوناك إليه من يرتضيه الخاص والعام غيرك، ولا من أوتي ما أوتيته من تجرد وفضل، وعلم وخلق، لا أمتدحك سعيًا وراء مغنم، وإنما هكذا عهدناك وخبرناك. والأغلب أن يظل الوضع الراهن كما هو، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا. على كل حال يا أخي شكر الله لك، وجزاك بنيتك أضعاف ما يجزيك بحسن عملك.
الفقير إلى ربه
محمود أبو السعود
20 ربيع أول سنة 1396هـ
20/4/1976م
.....
(1) رواه مسلم في الإمارة (1825) عن أبي ذر.
(2) رواه أحمد (6483)، والترمذي (3801) وقال: حديث حسن، وابن ماجه (156) عن عبد الله بن عمرو.