تلقى فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي استفساراً من أحد القراء يقول فيه:  لدي ثلاثة أسئلة وهي:

1- ما حكم أسهم شركات التأمين الغير إسلامية؟ (قطر للتأمين - القطرية العامة للتأمين وإعادة التأمين... الخ).

2- ما حكم شراء أسهم البنوك التجارية، والتي أسَّست فروعًا إسلامية للبنك (قطر الوطني - الدوحة - التجاري)؟

3- ما حكم المشاركة في مناقصة بناء إحدى دور العبادة الغير إسلامية (كنيسة) مثل عمل شبابيك... وفي حالة المشاركة فما حكم الربح الذي عاد على الشركة؟

جواب فضيلة الشيخ:

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اتبعه إلى يوم الدين، وبعد :

1- حكم المساهمة في شركات التأمين غير الإسلامية:

شركات التأمين غير الإسلامية، شأنها شأن البنوك غير الإسلامية: لا يجوز المساهمة فيه ابتداء، ولا شراء أسهمها بعد ذلك، ولا التأمين فيها.

ومَن كان ساهم فيها قبل ذلك، ولم يكن يعرف الحكم، أو كان يعرفه ولكن لم يكن يتحرَّى الحلال ويتجنَّب الحرام قبل ذلك، وهو الآن يريد أن يتطهَّر من كلِّ ما فيه شائبة حرام، فعليه أن يتخلَّص من أسهمه، وإن كان هذا نفسه لا يخلو من مشكلة من الناحية الشرعية، لأنه إذا باعه، فسيبيعه غالبا لمسلم .

على كلِّ حال إذا باع مثل هذه الأسهم فسيكون الربح هائلا، نتيجة للفرق الضخم بين ثمن السهم القديم وثمن السهم اليوم .

ومعرفة ما يحلُّ له منه وما لا يحلُّ، ليست بالأمر السهل، ولهذا نقول من باب الاستحسان: يقسم المال نصفين، يأخذ نصفه لنفسه، ويَدَع الباقي للفقراء وجهات الخير.

2- شراء أسهم البنوك الربوية:

أما شراء أسهم البنوك التجارية، والتي أسَّست لها فروعا إسلامية. مثل : (قطر الوطني، الدوحة، التجاري) فلا يجوز؛ لأن هذه البنوك في أساسها بنوك ربوية تقليدية، وفتح نوافذ أو فروع لها، لا يخرجها عن طبيعتها، لأن هذه الفروع تُعتبَر شيئا ضئيلا، بالنسبة لرأس مالها الكلِّي، وموجوداتها العامَّة.

وإنما أجزنا التعامل معها - بقيود وشروط معيَّنة - للحاجة وتيسيرا على الناس، ولكن ذلك لا يخرج البنك الأصلي عن حقيقته الربوية.

3- الاشتراك في بناء دار عبادة لغير المسلمين:

أما المشاركة في مناقصة لبناء إحدى دور العبادة لغير المسلمين، مثل: معبد للهندوس أو كنيسة للنصارى، فقد اختلفت أقوال الفقهاء في ذلك على قولين:

القول الأول : التحريم:

ذهب إلى تحريم بناء الكنائس والعمل على تشييدها وإقامتها : المالكية، والحنابلة، وجمهور الشافعية ، وأبي يوسف ومحمد خلافا لأبي حنيفة .

رأي صاحبي أبي حنيفة:

أما عن صاحبي أبي حنيفة رحمهما الله تعالى ، فقد نقلت كتب الحنفية عنهما تحريم بناء الكنائس والوصية ببنائها أو عمارتها أو الإنفاق عليها، وأن الإجارة على ذلك باطلة[1].

رأي المالكية:

جاء في المدونة الكبرى: "قلتُ: أرأيتَ الرجل أيجوز له أن يؤاجر نفسه في عمل كنيسة في قول مالك؟ قال: لا يحلُّ له؛ لأن مالكا قال: لا يؤاجر الرجل نفسه في شيء مما حرَّم الله. قال مالك: ولا يكري داره ولا يبيعها ممَّن يتَّخذها كنيسة.

قلتُ: أرأيتَ هل كان مالك يقول: ليس للنصارى أن يحدثوا الكنائس في بلاد الإسلام؟ قال: نعم، كان مالك يكره ذلك.

قلتُ: هل كان مالك يكره أن يتَّخذوا الكنائس أو يحدثونها في قراهم التي صالحوا عليها؟ قال: سألتُ مالكا هل لأهل الذمَّة أن يتَّخذوا الكنائس في بلاد الإسلام؟ فقال: لا إلا أن يكون لهم شيء أعطوه".

وقال في موضع آخر من المدونة: "ولا يكري دابته ممَّن يركبها إلى الكنيسة".

وفي مواهب الجليل: "... أن يؤاجر المسلم نفسه لكنس كنيسة أو نحو ذلك، أو ليرعى الخنازير، أو ليعصر له خمرا؛ فإنه لا يجوز، ويؤدَّب المسلم؛ إلا أن يعتذر بجهالة، واختلف هل يأخذ الأجرة من الكافر ويتصدَّق بها أم لا؟ ابن القاسم: التصدُّق بها أحبّ إلينا. قاله في التوضيح".

وفي مِنَح الجليل: "ولا تجوز الإجارة على دخول حائض لمسجد لتكنسه؛ لحرمة دخولها فيه، ومثلها إجارة مسلم لكنس كنيسة، أو رعي خنزير، أو لعمل خمر؛ فيفسخ ويؤدَّب إن لم يعذر بجهل، وإن نزل وفات، فاستحب ابن القاسم التصدُّق بالأجرة".

قلتُ: ومن باب أولى الإجارة على تشييد كنيسة وبنائها.

رأي الشافعية:

وأما عن الشافعية: "ولا يجوز بذل مال فيه لغير ضرورة، ومثله أيضا استئجار كافر مسلما لبناء نحو كنيسة، وإن أُقَرِّوا عليها لحرمته وما نُقِل عن الزرْكشي من جوازه محمول على كنيسة للمارة، ومثله استئجار أجنبي أجنبية لخدمته، ولو أمة؛ لأنه لا يخلو عن النظر غالبا".

يقول الشافعي رحمه الله: "وأكره للمسلم أن يعمل بناء أو نجارة أو غيره في كنائسهم التي لصلواتهم".

رأي الحنابلة:

وأما مذهب الإمام أحمد فينقله ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم قائلاً: "وأما مذهب أحمد في الإجارة لعمل ناووس ونحوه، فقال الآمدي: لا يجوز رواية واحدة؛ لأن المنفعة المعقود عليها محرَّمة ، وكذلك الإجارة لبناء كنيسة أو بيعة أو صومعة كالإجارة لكَتْب كتبهم المحرفة".

أدلة رأي الجمهور:

واستدلَّ الجمهور بجملة أدلَّة منها:

1- قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة2]، وفي تصميم الكنائس وبنائها وتشييدها إعانةٌ لهم على كفرهم، وتعظيمٌ لشعائرهم الباطلة.

2- أنّه عقد إجارة على منفعة محرَّمة، والمنفعة المحرَّمة مطلوب إزالتها، والإجارة عليها تنافيها، سواء شرط ذلك في العقد أم لا، فلا تجوز الإجارة على المنافع المحرَّمة.

3- أنّ الإجماع منعقد على حرمة بناء الكنائس وتشييدها وكذلك ترميمها، نقل الإجماع السبكي في فتاويه فقال: "بناء الكنيسة حرام بالإجماع، وكذا ترميمها".

4- أنّ الشرائع كلُّها متَّفقة على تحريم الكفر، ويلزم من تحريم الكفر تحريم إنشاء المكان المتخذ له، فكان محرما معدودا من المحرَّمات في كلِّ ملَّة، والكنيسة اليوم لا تتَّخذ إلا للكفر بالله، فإنشاء الكنيسة الجديدة محرَّم، وإعادة الكنيسة القديمة كذلك؛ لأنها إنشاء بناء لها، وترميمها أيضا كذلك، لأنه جزء من الحرام.

5- قوله تعالى {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، فمَن أحلَّ بناءه فقد أحلَّ حراما، ومَن أذن في بنائه، فقد أذن في حرام، وشرع ما لم يأذن به الله ، إذ لم يأذن الله في حرام أبدا.

القول الثاني: الجـواز:

وقد ذهب إلى جواز تعاقد المسلم على بناء الكنيسة أو إجارة الدار لتتخذ كنيسة الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، خلافا لصاحبيه أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى.

يقول صاحب البحر الرائق: "ولو استأجر - الذمي - المسلم ليبني له بيعة، أو كنيسة جاز، ويطيب له الأجر، ولو استأجرته امرأة ليكتب لها قرآنا أو غيره جاز، ويطيب له الأجر، إذا بيَّن الشرط، وهو إعداد الخط وقدره، ولو استأجر مسلما ليحمل له خمرا، ولم يقُل: لأشربه، جازت الإجارة على قول الإمام، خلافا لهما، وفي المحيط: السارق أو الغاصب لو استأجر رجلا يحمل المغصوب أو المسروق لم يجُز؛ لأن نقل مال الغير معصية".

وفي حاشية ابن عابدين: "قال في الخانية: ولو آجر نفسه ليعمل في الكنيسة ويعمرها، لا بأس به، لأنه لا معصية في عين العمل".

ودليل أبي حنيفة في الجواز:

1- أنه لو بناها للسكنى لجاز، ولا بد فيها من عبادته.

2- أن المعصية لا تقوم بعين العمل (البناء)، وإنما تحصل بفعل، فاعل مختار.

3- القياس على مَن آجر نفسه على حمل خمر لذميٍّ، وعنده: أن الإجارة على الحمل ليس بمعصية ولا سبب لها، والشرب ليس من ضرورات الحمل؛ لأن حملها قد يكون للإراقة أو للتخليل.

الرأي المختار:

والذي أراه: أن إقامة الكنيسة لغير المسلمين من أهل الذمَّة، أو بعبارة أخرى: للمواطنين من المسيحيين وغيرهم، ممَّن يعتبرهم الفقهاء من "أهل دار الإسلام": لا حرج فيه إذا كان لهم حاجة حقيقية إليها، بأن تكاثر عددهم، وافتقروا إلى مكان للتعبُّد، وأذن لهم ولي الأمر الشرعي بذلك. وهو من لوازم إقرارهم على دينهم.

ومثل ذلك غير المسلمين من غير المواطنين الذين دخلوا دار الإسلام بأمان، أي بتأشيرات دخول وإقامة، للعمل في بلاد المسلمين، وتكاثرت أعدادهم، واستمرَّ وجودهم، بحيث أصبحوا في حاجة إلى كنائس يعبدون ربهم فيها، فأجاز لهم ولي الأمر ذلك في حدود الحاجة، معاملة بالمثل، أي كما يسمحون هم للمسلمين في ديارهم بإنشاء المساجد لإقامة الصلوات.

وأعتقد أن السماح للنصارى بإقامة كنيسة في قطر يدخل في هذا الباب، وهو من حقِّ ولي أمر، بناء على فقه السياسية الشرعية التي تقوم على رعاية مقاصد الشرع، ومصالح الخلق، وتوازن بين المصالح بعضها وبعض، والمفاسد بعضها وبعض، والمصالح والمفاسد إذا تعارضتا، ويجب على وليِّ الأمر الرجوع إلى فتوى العلماء الراسخين، حتى لا يقع فيما لا يحبُّه الله ولا يرضاه.

وإذا أجزنا لهم إقامة هذه الكنائس في دار الإسلام، فما سُمِح لهم به، وأجازه علماء الشرع، يجوز المشاركة في بناءه وإقامته، وإن كان كثير من العلماء يكرهون ذلك للمسلم؛ لأنه يعين على أمر يعتقده في دينه باطلا وضلالا، فالمعاونة فيه داخله بوجه في قوله تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].  

وبالله التوفيق