السؤال:لا أخفي على فضيلتكم ما أصابني من الدهشة والعجب حين سمعت من بعض المتحمسين من المتدينين، ومنهم من ينتمي لبعض الجماعات الإسلامية: أن الديمقراطية تنافي الإسلام، بل نقل أحدهم عن بعض العلماء، أن الديمقراطية كفر!! وحجته في ذلك أن الديمقراطية تعني حكم الشعب بالشعب، والشعب في الإسلام ليس هو الحاكم، بل الحاكم هو الله تعالى {إن الحكم إلا لله} (الأنعام:57)، وهذا يشبه ما قاله الخوارج قديمًا ورد عليه سيدنا علي كرم الله وجهه بقوله: "كلمة حق يراد بها باطل"، وقد أصبح شائعًا في أوساط الليبراليين ودعاة الحرية أن الإسلاميين أعداء الديمقراطية، وأنصار الديكتاتورية والاستبداد.

فهل صحيح أن الإسلام عدو الديمقراطية، وأن الديمقراطية ضرب من الكفر أو المنكر، كما زعم من زعم ؟.. أم أن هذا تقول على الإسلام، وهو منه بريء؟

إن الأمر في حاجة إلى بيان حاسم من " فقهاء الوسطية " الذين لا يجنحون إلى الغلو ولا إلى التفريط، حتى توضع الأمور في نصابها، ولا يحمل الإسلام أوزار تفسيرات غير صحيحة، وإن صدرت عن بعض العلماء، الذين هم على كل حال بشر يخطئون ويصيبون.

ندعو الله أن يعينكم على تجلية الحق، وبيان الصواب، ورد الشبهة وإقامة الحجة، ودمتم مشكورين مأجورين.

جواب فضيلة الشيخ:  

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد

يؤسفني كل الأسف أن تختلط الأمور، ويلتبس الحق بالباطل لدى بعض المتدينين عامة، ولدى بعض المتكلمين باسم الدين خاصة، إلى الحد الذي يكشف عنه سؤال الأخ السائل، شكر الله له ..حتى أصبح اتهام الناس بالكفر أو الفسق ـ على الأقل ـ أمرًا سهلاً على صاحبه، كأنما لا يعتبر في نظر الشرع جريمة كبيرة موبقة،، يخشى أن ترتد على من ألصقها بغيره، كما جاء في الحديث الصحيح.

وهذا السؤال الذي طرحه الأخ السائل الكريم، ليس غريبًا على، فطالما سُئلته من أخوة له في الجزائر مرات متعددة، وبهذه الصيغة الصارخة : هل الديمقراطية كفر؟

الحكم على الشيء فرع عن تصوره

الغريب أن بعض الناس يحكم على الديمقراطية بأنها منكر صراح، أو كفر بواح، وهو لم يعرفها معرفة جيدة، تنفذ إلى جوهرها، وتخلص إلى لبابها، بغض النظر عن الصورة والعنوان.

ومن القاعد المقررة لدى علمائنا السابقين : أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فمن حكم على شيء يجهله فحكمه خاطئ، وإن صادف الصواب اعتباطًا، لأنها رمية من غير رام، لهذا ثبت في الحديث أن القاضي الذي يقضي على جهل في النار، كالذي عرف الحق وقضى بغيره.

فهل الديمقراطية التي تتنادى بها شعوب العالم، والتي تكافح من أجلها جماهير غفيرة في الشرق والغرب، والتي وصلت إليها بعض الشعوب بعد صراع مرير مع الطغاة، أريقت فيه دماء وسقط فيه ضحايا بالألوف، بل بالملايين، كما في أوروبا الشرقية وغيرها، والتي يرى فيها كثير من الإسلاميين الوسيلة المقبولة لكبح جماح الحكم الفردي، وتقليم أظفار التسلط السياسي، الذي ابتليت به شعوبنا المسلمة، هل هذه الديمقراطية منكر أو كفر كما يردد بعض السطحيين المتعجلين ؟؟

جوهر الديمقراطية ما هو؟

إن جوهر الديمقراطية ـ بعيدًا عن التعريفات والمصطلحات الأكاديمية ـ أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم، وألا يفرض عليهم حاكم يكرهونه، أو نظام يكرهونه، وأن يكون لهم حق محاسبة الحاكم إذا أخطأ، وحق عزله إذا انحرف، وألا يساق الناس إلى اتجاهات أو مناهج اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لا يعرفونها ولا يرضون عنها.. فإذا عارضها بعضهم كان جزاؤه التشريد والتنكيل، بل التعذيب والتقتيل.

هذا هو جوهر الديمقراطية الحقيقية التي وجدت البشرية لها صيغًا وأساليب عملية، مثل الانتخاب والاستفتاء العام، وترجيح حكم الأكثرية، وتعدد الأحزاب السياسية، وحق الأقلية في المعارضة وحرية الصحافة، واستقلال القضاء .. إلخ.

فهل الديمقراطية ـ في جوهرها الذي ذكرناه ـ تنافي الإسلام ؟ ومن أين تأتي هذه المنافاة ؟ وأي دليل من محكمات الكتاب والسنة يدل على هذا الدعوى ؟

جوهر الديمقراطية يتفق مع الإسلام

الواقع أن الذي يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام، فهو ينكر أن يؤم الناس في الصلاة من يكرهونه، ولا يرضون عنه، وفي الحديث: "ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رءوسهم شبرًا .." وذكر أولهم :  "رجل أم قومًا وهم له كارهون .." (رواه ابن ماجة (971) وقال البوصيري في الزوائد : إسناده صحيح، رجاله ثقات، وابن حبان في صحيحه ـ الموارد ـ (377) كلاهما عن ابن عباس) .كان هذا في الصلاة فكيف في أمور الحياة والسياسة ؟ وفي الحديث الصحيح : خير أئمتكم ـ أي حكامكم ـ الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ـ أي تدعون لهم ـ ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم" (رواه مسلم عن عوف بن مالك).

حملة القرآن على الحكام المتألهين في الأرض

لقد شن القرآن حملة في غاية القسوة على الحكام المتألهين في الأرض، الذين يتخذون عباد الله عبادًا لهم مثل "نمرود" الذي ذكر القرآن موقفه من إبراهيم وموقف إبراهيم منه: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين} (البقرة:258).

فهذا الطاغية يزعم أنه يحيي ويميت، كما أن رب إبراهيم ـ وهو رب العالمين ـ يحيي ويميت، فيجب أن يدين الناس له، كما يدينون لرب إبراهيم! وبلغ من جرأته في دعوى الإحياء والإماتة، أن جاء برجلين من عرض الطريق، وحكم عليهما بالإعدام بلا جريرة، ونفذ في أحدهما ذلك فورًا، وقال: ها قد أمته، وعفا عن الآخر، وقال ها قد أحييته! ألست بهذا أحيي وأميت؟! ومثله فرعون الذي نادى في قومه: {أنا ربكم الأعلى} (النازعات:24)، وقال في تبجح : {يأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري} (القصص:38).

وقد كشف القرآن عن تحالف دنس بين أطراف ثلاثة خبيثة:

الأول: الحاكم المتأله المتجبر في بلاد الله، المتسلط على عباد الله، ويمثله فرعون.

والثاني: السياسي الوصولي، الذي يسخر ذكاءه وخبرته في خدمة الطاغية، وتثبيت حكمه، وترويض شعبه للخضوع له ويمثله هامان.

والثالث :الرأسمالي أو الإقطاعي المستفيد من حكم الطاغية، فهو يؤيده ببذل بعض ماله، ليكسب أموالاً أكثر من عرق الشعب ودمه، ويمثله قارون.

ولقد ذكر القرآن هذا الثالوث المتحالف على الإثم والعدوان، ووقوفه في وجه رسالة موسى، حتى أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر : {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب} (غافر:23، 24) ، {وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين} (العنكبوت:39) .

والعجيب أن قارون كان من قوم موسى، ولم يكن من قوم فرعون، ولكنه بغى على قومه، وانضم إلى عدوهم فرعون، وقبله فرعون معه، دلالة على أن المصالح المادية هي التي جمعت بينهما، برغم اختلاف عروقهما وأنسابهما.

ربط القرآن بين الطغيان والفساد

من روائع القرآن: أنه ربط بين الطغيان وانتشار الفساد، الذي هو سبب هلاك الأمم ودمارها، كما قال تعالى : {ألم تر كيف فعل ربك بعاد.إرم ذات العماد.التي لم يخلق مثلها في البلاد.وثمود الذين جابوا الصخر بالواد.وفرعون ذي الأوتاد.الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد.فصب عليهم ربك سوط عذاب.إن ربك لبالمرصاد}[الفجر: 6-12].

وقد يعبر القرآن عن "الطغيان" بلفظ "العلو" ويعني به الاستكبار والتسلط على خلق الله بالإذلال والجبروت.كما قال تعالى عن فرعون: {إنه كان عاليًا من المسرفين} (الدخان:31) ، {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعًا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين} (القصص : 4) ؛ وهكذا نرى "العلو" و"الإفساد" متلازمين.

ذم القرآن للشعوب المطيعة للجبابرة

لم يقصر القرآن حملته على الطغاة المتأهلين وحدهم، بل أشرك معهم أقوامهم وشعوبهم الذين اتبعوا أمرهم وساروا في ركابهم، وأسلموا لهم أذمتهم، وحملهم المسئولية معهم.. يقول تعالى عن قوم نوح : {قال نوح ربي إنهم عصوني واتبعوا ما لم يزده ماله وولده إلا خسارًا}. (نوح : 21) ، ويقول سبحانه عن عاد قوم هود : {وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد} (هود : 59) ، ويقول جل شأنه عن قوم فرعون (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قومًا فاسقين) (الزخرف : 54) ، (فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد.. يقدم قومهم يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد الورود) .(هو: 97، 98) ، وإنما حمل الشعوب المسئولية أو جزءًا منها، لأنها هي التي تصنع الفراعنة والطغاة، وهو ما عبر عنه عامة الناس في أمثالهم حين قالوا قبل لفرعون: ما فرعنك ؟ قال: لم أجد أحدًا يردني!

جنود الطاغية وأدواته يتحملون الوزر معه

أكثر من يتحمل المسئولية مع الطغاة هم "أدوات السلطة" الذين يسميهم القرآن "الجنود" ويقصد بهم "القوة العسكرية" التي هي أنياب القوة السياسية وأظفارها، وهي السياط التي ترهب بها الجماهير إن هي تمردت أو فكرت في أن تتمرد، يقول القرآن : {إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين} (القصص : 8)، {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} (القصص : 40) .

حملة السنة على الأمراء الظلمة

السنة النبوية حملت كذلك على الأمراء الظلمة والجبابرة، الذين يسوقون الشعوب بالعصي الغليظة، وإذا تكلموا لا يرد أحد عليهم قولاً فهم الذين يتهافتون في النار تهافت الفراش، كما حملت على الذين يمشون في ركابهم، ويحرقون البخور بين أيديهم، من أعوان الظلمة، ونددت السنة بالأمة التي ينتشر فيها الخوف، حتى لا تقدر أن تقول للظالم: يا ظالم.

فعن أبي موسى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : "إن في جهنم واديًا وفي الوادي بئر يقال له هبهب، حق على الله أن يسكنه كل جبار عنيد" (رواه الطبراني بإسناد حسن كما قال المنذري في الترغيب، والهيثمي في : المجمع 5 /197 والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 4 /332). وعن معاوية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال "ستكون أئمة من بعدي يقولون فلا يرد عليهم قولهم، يفاحمون في النار كما تفاحم القردة" (رواه أبو يعلي والطبراني، وذكره في : صحيح الجامع الصغير، برقم 3615).

وعن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لكعب ابن عجرة: "أعاذك الله من إمارة السفهاء يا كعب". قال: وما إمارة السفهاء؟ قال: "أمراء يكونون بعدي، لا يهدون بهديي ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني ولست منهم، ولا يردون على حوض، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم، فأولئك مني، وأنا منهم، وسيردون على حوضي" (رواه أحمد والبزار، ورجالهما رجال الصحيح، كما في : الترغيب للمنذري، والزوائد للهيثمي 5/247).

وعن معاوية مرفوعًا: "لا تقدس أمة لا يقضى فيها بالحق، ولا يأخذ الضعيف منها حقه من القوي غير متعتع" (رواه الطبراني ورواته ثقات، كما قال المنذري والهيثمي، كما رواه من حديث ابن مسعود بإسناد جيد 5/209 ورواه ابن ماجة مطولا من حديث أبي سعيد). وعن عبد الله ابن عمرو مرفوعًا: "إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم : يا ظالم فقد تودع منهم" (رواه أحمد في: المسند، وصحح شاكر إسناده (6521) ونسبه الهيثمي للبزار أيضًا بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح 7/262، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 4/96).

الشورى والنصيحة والأمر والنهي

لقد قرر الإسلام الشورى قاعدة من قواعد الحياة الإسلامية، وأوجب على الحاكم أن يستشير، وأوجب على الأمة أن تنصح، حتى جعل النصيحة هي الدين كله.. ومنها: النصيحة لأئمة المسلمين، أي أمرائهم وحكامهم. كما جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة لازمة، بل جعل أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند سلطان جائر، ومعنى هذا أنه جعل مقاومة الطغيان والفساد الداخلي أرجح عند الله من مقاومة الغزو الخارجي، لأن الأول كثيرًا ما يكون سببًا للثاني.

الحاكم في نظر الإسلام

إن الحاكم في نظر الإسلام وكيل عن الأمة أو أجير عندها، ومن حق الأصيل أن يحاسب الوكيل أو يسحب منه الوكالة إن شاء، وخصوصًا إذا أخل بموجباتها، فليس الحاكم في الإسلام سلطة معصومة بل هو بشر يصيب ويخطئ، ويعدل ويجور، ومن حق عامة المسلمين أن يسددوه إذا أخطأ ويقوموه إذا اعوج، وهذا ما أعلنه أعظم حكام المسلمين بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : الخلفاء الراشدون المهديون الذين أمرنا أن نتبع سنتهم، ونعض عليها بالنواجذ باعتبارها امتدادًا لسنة المعلم الأول محمد -صلى الله عليه وسلم-.

يقول الخليفة الأول أبو بكر في أول خطبة له: "أيها الناس، إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني.. أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته، فلا طاعة لي عليكم".

ويقول الخليفة الثاني عمر الفاروق: "رحم الله امرأ أهدى إلي عيوب نفسي" ، ويقول: "أيها الناس من رأى منكم في اعوجاجًا فليقومني .. "، ويرد عليه واحد من الجمهور فيقول : والله يا بن الخطاب لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بحد سيوفنا"! وترد عليه امرأة رأيه وهو فوق المنبر، فلا يجد غضاضة في ذلك، بل يقول: "أصابت المرأة وأخطأ عمر"! ، ويقول على ابن أبي طالب كرم الله وجهه لرجل عارضه في أمر: أصبت وأخطأت {وفوق كل ذي علم عليم} (يوسف : 76).

سبق الإسلام بتقرير القواعد

إن الإسلام قد سبق الديمقراطية بتقرير القواعد التي يقوم عليها جوهرها، ولكنه ترك التفصيلات لاجتهاد المسلمين، وفق أصول دينهم، ومصالح دنياهم، وتطور حياتهم بحسب الزمان والمكان، وتجدد أحوال الإنسان.

مزية الديمقراطية

ومزية الديمقراطية أنها اهتدت ـ خلال كفاحها الطويل مع الظلمة والمستبدين من الأباطرة والملوك والأمراء ـ إلى صيغ ووسائل، تعتبر ـ إلى اليوم ـ أمثل الضمانات لحماية الشعوب من تسلط المتجبرين. ولا حجر على البشرية وعلى مفكريها وقادتها، أن تفكر في صيغ وأساليب أخرى لعلها تهتدي إلى ما هو أوفى وأمثل، ولكن إلى أن يتيسر ذلك ويتحقق في واقع الناس نرى لزامًا علينا أن نقتبس من أساليب الديمقراطية ما لابد منه لتحقيق العدل والشورى واحترام حقوق الإنسان، والوقوف في وجه طغيان السلاطين العالين في الأرض.

ومن القواعد الشرعية المقررة: أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأن المقاصد الشرعية المطلوبة إذا تعينت لها وسيلة لتحقيقها، أخذت هذه الوسيلة حكم ذلك المقصد.

ولا يوجد شرعًا ما يمنع اقتباس فكرة نظرية أو حل عملي، من غير المسلمين، فقد أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة الأحزاب بفكرة  "حفر الخندق" وهو من أساليب الفرس.

واستفاد من أسرى المشركين في بدر "ممن يعرفون القراءة والكتابة" في تعليم أولاد المسلمين الكتابة، برغم شركهم، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.

وقد أشرت في بعض كتبي إلى أن من حقنا أن نقتبس من غيرنا من الأفكار والأساليب ما يفيدنا.. ما دام لا يعارض نصًا محكمًا، ولا قاعدة شرعية ثابتة.

وعلينا أن نحور فيما نقتبسه، ونضيف إليه، ونضفي عليه من روحنا : ما يجعله جزءًا منا، ويفقده جنسيته الأولى. (انظر: كتابي: الحل الإسلامي فريضة وضرورة، فصل: "شروط الحل الإسلامي" تحت عنوان: "مشروعية الاقتباس وحدوده").

الانتخاب من الشهادة

إذا نظرنا إلى نظام كنظام الانتخاب أو التصويت، فهو في نظر الإسلام  "شهادة" للمرشح بالصلاحية.. فيجب أن يتوافر في "صاحب الصوت" ما يتوافر في الشاهد من الشروط بأن يكون عدلاً مرضي السيرة، كما قال تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} (الطلاق :2)، {ممن ترضون من الشهداء} (البقرة : 282). ومن شهد لغير صالح بأنه صالح، فقد ارتكب كبيرة شهادة الزور وقد قرنها القرآن بالشرك بالله، إذ قال: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور} (الحج : 30) ، ومن شهد لمرشح بالصلاحية لمجرد أنه قريبه أو ابن بلده، أو لمنفعة شخصية يرتجيها منه، فقد خالف أمر الله تعالى : {وأقيموا الشهادة لله} (الطلاق: 2).

ومن تخلف عن أداء واجبه الانتخابي، حتى رسب الكفء الأمين، وفاز بالأغلبية من لا يستحق، ممن لم يتوافر فيه وصف " القوي الأمين " فقد كتم الشهادة أحوج ما تكون الأمة إليها.. وقد قال تعالى: {ولايأب الشهداء إذا ما دعوا} (البقرة : 282) ، {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} (البقرة : 283) ، ومثل ذلك يقال في صفات المرشح وشروطه من باب أولى. إننا بإضافة هذه الضوابط والتوجيهات لنظام الانتخاب، نجعله في النهاية نظامًا إسلاميًا، وإن كان في الأصل مقتبسًا من عند غيرنا.

حكم الشعب وحكم الله

الذي نريد التركيز عليه هنا هو ما نوهنا به في أول الأمر، وهو : جوهر الديمقراطية، فهو بالقطع متفق مع جوهر الإسلام، إذا رجعنا إليه في مصادره الأصلية، واستمددناه من ينابيعه الصافية، من القرآن والسنة، وعمل الراشدين من خلفائه، لا من تاريخ أمراء الجور، وملوك السوء، ولا من فتاوى الهالكين المحترقين من علماء السلاطين، ولا من المخلصين المتعجلين من غير الراسخين.

وقول القائل: إن الديمقراطية تعني حكم الشعب بالشعب، ويلزم منها رفض المبدأ القائل: إن الحاكمية لله ـ قول غير مسلم. فليس يلزم من المناداة بالديمقراطية رفض حاكمية الله للبشر، فأكثر الذين ينادون بالديمقراطية لا يخطر هذا ببالهم، وإنما الذي يعنونه ويحرصون عليه هو رفض الديكتاتورية المتسلطة، رفض حكم المستبدين بأمر الشعوب من سلاطين الجور والجبروت.

أجل كل من يعني هؤلاء من الديمقراطية أن يختار الشعب حكامه كما يريد، وأن يحاسبهم على تصرفاتهم، وأن يرفض أوامرهم إذا خالفوا دستور الأمة، .وبعبارة إسلامية: إذا أمروا بمعصية، وأن يكون له الحق في عزلهم إذا انحرفوا وجاروا، ولم يستجيبوا لنصح أو تحذير. المراد بمبدأ "الحاكمية لله".

وأحب أن أنبه هنا على أن مبدأ "الحاكمية لله" مبدأ إسلامي أصيل، قرره جميع الأصوليين في مباحثهم عن "الحكم الشرعي"، وعن "الحاكم" فقد اتفقوا على أن "الحاكم" هو الله تعالى، والنبي مبلغ عنه، فالله تعالى هو الذي يأمر وينهى، ويحلل ويحرم، ويحكم ويشرع.

وقول الخوارج: "لا حكم إلا لله" قول صادق في نفسه، حق في ذاته، ولكن الذي أنكر عليهم هو وضعهم الكلمة، في غير موضعها، واستدلالهم بها على رفض تحكيم البشر في النزاع، وهو مخالف لنص القرآن الذي قرر التحكيم في أكثر من موضع، ومن أشهرها التحكيم بين الزوجين إن وقع الشقاق بينهما؛ ولهذا رد أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- على الخوارج بقوله: "كلمة حق أريد بها باطل" فقد وصف قولهم بأنه "كلمة حق"، ولكن عابهم بأنهم أرادوا بها باطلاً.

وكيف لا تكون كلمة حق وهي مأخوذة من صريح القرآن: {إن الحكم إلا لله} (يوسف:40) ، فحاكمية الله تعالى للخلق ثابتة بيقين، وهي نوعان:

1 ـ حاكمية كونية قدرية، بمعنى أن الله هو المتصرف في الكون، المدبر لأمره الذي يجري فيه أقداره، ويحكمه بسننه التي لا تتبدل، ما عرف منها وما لم يعرف، وفي مثل هذا جاء قوله تعالى: {أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب}  (الرعد : 41)، فالمتبادر هنا أن حكم الله يراد به الحكم الكوني القدري لا التشريعي الأمري.

2ـ حاكمية تشريعية أمرية، وهي حاكمية التكليف والأمر والنهي، والإلزام والتخيير، وهي التي تجلت فيما بعث الله به الرسل، وأنزل الكتب، وبها شرع الشرائع وفرض الفرائض، وأحل الحلال، وحرم الحرام.. وهذه لا يرفضها مسلم رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًا ورسولاً.

والمسلم الذي يدعو إلى الديمقراطية إنما يدعو إليها باعتبارها شكلاً للحكم، يجسد مبادئ الإسلام السياسية في اختيار الحاكم، وإقرار الشورى والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقاومة الجور، ورفض المعصية، وخصوصًا إذا وصلت إلى "كفر بواح" فيه من الله برهان.

ومما يؤكد ذلك: أن الدستور ينص ـ مع التمسك بالديمقراطية ـ على أن دين الدولة هو الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية هي مصدر القوانين، وهذا تأكيد لحاكمية الله، أي حاكمية شريعته، وأن لها الكلمة العليا. ويمكن إضافة مادة في الدستور صريحة واضحة، إن كل قانون أو نظام يخالف قطعيات الشرع.فهو باطل، وهي في الواقع تأكيد لا تأسيس؛ لا يلزم  - إذن - من الدعوة إلى الديمقراطية اعتبار حكم الشعب بديلا عن حكم الله، إذ لا تناقض بينهما.

ولو كان ذلك لازمًا من لوازم الديمقراطية، فالقول الصحيح لدى المحققين من علماء الإسلام: أن لازم المذاهب ليس بمذهب، وأنه لا يجوز أن يكفر الناس أو يفسقوا أخذًا لهم بلوازم مذاهبهم، فقد لا يلتزمون بهذه اللوازم، بل قد لا يفكرون فيها بالمرة.

تحكيم الأكثرية هل ينافي الإسلام

من الأدلة عند هذا الفريق من الإسلاميين، على أن الديمقراطية مبدأ مستورد، ولا صلة له بالإسلام : أنها تقوم على تحكيم الأكثرية، واعتبارها صاحب الحق في تنصيب الحكام، وفي تسيير الأمور، وفي ترجيح أحد الأمور المختلف فيها، فالتصويت في الديمقراطية هو الحكم والمرجع، فأي رأي ظفر بالأغلبية المطلقة، أو المقيدة في بعض الأحيان، فهو الرأي النافذ، وربما كان خطأ أو باطلاً.

هذا مع أن الإسلام لا يعتد بهذه الوسيلة ولا يرجح الرأي على غيره، لموافقة الأكثرية عليه، بل ينظر إليه في ذاته: أهو صواب أم خطأ؟ فإن كان صوابًا نفذ، وإن لم يكن معه إلا صوت واحد، أو لم يكن معه أحد، وإن كان خطأ رفض، وإن كان معه (99) من الـ(100) !

بل إن نصوص القرآن تدل على أن الأكثرية دائمًا في صف الباطل، وفي جانب الطاغوت.كما في مثل قوله تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} (الأنعام:116) ، {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} (يوسف:103) ، وتكر في القرآن مثل هذه الفواصل القرآنية : {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (الأعراف:187) ، {بل أكثرهم لا يعقلون} (العنكبوت:63) ، {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} (هود:17) ، {ولكن أكثر الناس لا يشكرون} (البقرة:243).

كما دلت على أن أهل الخير والصلاح هم الأقلون عددًا، كما في قوله تعالى: { وقليل من عبادي الشاكرون} (سبأ :13) ، {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم} (ص : 24) ، وهذا الكلام مردود على قائله وهو قائم على الغلط أو المغالطة، فالمفروض أننا نتحدث عن الديمقراطية في مجتمع مسلم أكثره ممن يعلمون ويعقلون ويؤمنون ويشكرون .ولسنا نتحدث عن مجتمع الجاحدين أو الضالين عن سبيل الله.

ثم إن هناك أمورًا لا تدخل مجال التصويت، ولا تعرض لأخذ الأصوات عليها، لأنها من الثوابت التي لا تقبل التغيير، إلا إذا تغير المجتمع ذاته، ولم يعد مسلمًا، فلا مجال للتصويت في قطعيات الشرع، وأساسيات الدين وما علم منه بالضرورة وإنما يكون التصويت في الأمور "الاجتهادية" التي تحتمل أكثر من رأي، ومن شأن الناس أن يختلفوا فيها، مثل اختيار أحد المرشحين لمنصب ما، ولو كان هو منصب رئيس الدولة، ومثل إصدار قوانين لضبط حركة السير والمرور، أو لتنظيم بناء المحلات التجارية أو الصناعية أو المستشفيات، أو غير ذلك مما يدخل فيما يسميه الفقهاء " المصالح المرسلة " ومثل اتخاذ قرار بإعلان الحرب أو عدمها، وبفرض ضرائب معينة أو عدمها، وبإعلان حالة الطوارئ أو لا، وتحديد مدة رئيس الدولة، وجواز تجديد انتخابه أو لا، وإلى أي حد..إلخ ، فإذا اختلفت الآراء في هذه القضايا، فهل تترك معلقة أو تحسم، هل يكون ترجيح بلا مرجح؟ أو لا بد من مرجح؟

إن منطق العقل والشرع والواقع يقول: لا بد من مرجح. والمرجح في حالة الاختلاف هو الكثرة العددية، فإن رأي الاثنين أقرب إلى الصواب من رأي الواحد، وفي الحديث: "إن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد". (رواه الترمذي في "الفتن"، عن عمر 2166، وقال: حديث حسن صحيح غريب. قال: وقد رُوي هذا من غير وجه عن عمر. رواه الحاكم (1/114) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي).

وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بكر وعمر: "لو اجتمعتما على مشورة ما خالفتكما". (رواه أحمد عن عبد الله بن غنم الأشعري (4/227) وفي سنده شهر بن وشب، وقال ابن حجر في التقريب: صدوق كثير الإرسال والأوهام. إذ معنى ذلك أن صوتين يرجحان صوتًا واحدًا، وإن كان هو صوت النبي -صلى الله عليه وسلم-، ما دام ذلك بعيدًا عن مجال التشريع والتبليغ عن الله تعالى) ، كما رأينا -صلى الله عليه وسلم- ينزل على رأي الكثرة في غزوة أحد، ويخرج للقاء المشركين خارج المدينة، وكان رأيه ورأي كبار الصحابة البقاء فيها، والقتال من داخلها في الطرقات.

وأوضح من ذلك موقف عمر في قضية الستة أصحاب الشورى، الذين رشحهم للخلافة وأن يختاروا بالأغلبية واحدًا منهم، وعلى الباقي أن يسمعوا ويطيعوا، فإن كانوا ثلاثة في مواجهة ثلاثة، اختاروا مرجحًا من خارجهم وهو عبد الله بن عمر، فإن لم يقبلوه، فالثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف.

وقد ثبت في الحديث التنويه "بالسواد الأعظم" والأمر باتباعه، والسواد الأعظم يعني جمهور الناس وعامتهم والعدد الأكبر منهم، حديث رُوِي من طرق، بعضها قوي. (الحديث رواه الطبراني مرفوعًا عن أبي أمامة، وفيه: "إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة - أو قال: اثنتين وسبعين فرقة - وإن هذه الأمة ستزيد على هم فرقة، كلها في النار، إلا السواد الأعظم" المعجم الكبير جـ8 (8035) وذكره الهيثمي في: مجمع الزوائد، وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات 6/233، 234، وفي موضع آخر قال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير بنحوه، وفيه أبو غالب وثقه ابن معين وغيره، وبقية رجال الأوسط ثقات، وكذلك أحد إسنادي الكبير (7/258) ورواه الطبراني وأحمد في المسند موقوفًا على ابن أبي أوفى، قال: "يا بن جهمان عليك بالسواد الأعظم"، قال الهيثمي: ورجال أحمد ثقات 65/232، كما رواه ابن أبي عاصم في السنة عن ابن عمر رقم 80 بلفظ: "ما كان الله ليجمع هذه الأمة على الضلالة أبدًا، ويد الله على الجماعة، فعليكم بالسواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار" وقال الألباني: إسناده ضعيف. ورواه الحاكم بنحوه من طرق عن المعتمر بن سليمان 1/115، 116 وقال: إن المعتمر أحد أركان الحديث وأئمته فلابد أن يكون له أصل بأحد هذه الأسانيد. ويؤيده اعتداد العلماء برأي الجمهور في الأمور الخلافية، واعتبار ذلك من أسباب ترجيحه، إذا لم يوجد مرجح يعارضه) ، وقد ذهب الإمام أبو حامد الغزالي في بعض مؤلفاته إلى الترجيح بالكثرة عندما تتساوى وجهتا النظر. (انظر: الشورى وأثرها في الديمقراطية للدكتور عبد الحميد الأنصاري).

وقول من قال: إن الترجيح إنما يكون للصواب وإن لم يكن معه أحد، وأما الخطأ فيرفض ولو كان معه (99 من المائة)، إنما يصدق في الأمور التي نص عليها الشرع نصًا ثابتًا صريحًا يقطع النزاع، ولا يحتمل الخلاف، أو يقبل المعارضة وهذا قليل جدًا .. وهو الذي قيل فيه : الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك.

أما القضايا الاجتهادية، مما لا نص فيه، أو ما فيه نص يحتمل أكثر من تفسير، أو يوجد له معارض مثله أو أقوى منه، فلا مناص من اللجوء إلى مرجح يحسم به الخلاف والتصويت وسيلة لذلك عرفها البشر، وارتضاها العقلاء، ومنهم المسلمون، ولم يوجد في الشرع ما يمنع منها، بل وجد في النصوص والسوابق ما يؤيدها

الاستبداد السياسي المسبب الأول لما أصاب الأمة قديمًا وحديثا

إن أول ما أصاب الأمة الإسلامية في تاريخها هو التفريط في قاعدة الشورى، وتحول "الخلافة الراشدة" إلى مُلك عضوض" سماه بعض الصحابة "كسروية" أو "قيصرية" أي أن عدوى الاستبداد الإمبراطوري انتقلت إلى المسلمين من الممالك التي أورثهم الله إياها، وكان عليهم أن يتخذوا منهم عبرة، وأن يجتنبوا من المعاصي والرذائل ما كان سببًا في زوال دولتهم.

وما أصاب الإسلام وأمته ودعوته في العصر الحديث إلا من جراء الحكم الاستبدادي المتسلط على الناس بسيف المعز وذهبه، وما عطلت الشريعة، ولا فرضت العلمانية، وألزم الناس بالتغريب إلا بالقهر والجبروت، واستخدام الحديد والنار، ولم تضرب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية، ولم ينكل بدعاتها وأبنائها، ويشرد بهم كل مشرد، إلا تحت وطأة الحكم الاستبدادي السافر حينا، والمقنع أحيانًا بأغلفة من دعاوى الديمقراطية الزائفة، الذي تأمره القوى المعادية للإسلام جهرًا، أو توجهه من وراء ستار

الحرية السياسية أول ما نحتاج إليه

لم ينتعش الإسلام، ولم تنتشر دعوته، ولم تبرز صحوته، وتعل صيحته، إلا من خلال ما يتاح له من حرية محدودة، يجد فيها الفرصة ليتجاوب مع فطر الناس التي تترقبه، وليُسمِعَ الآذان التي طال شوقها إليه، وليقنعَ العقول التي تهفو إليه. إن المعركة الأولى للدعوة الإسلامية والصحوة الإسلامية والحركة الإسلامية في عصرنا هي معركة الحرية، فيجب على كل الغيورين على الإسلام أن يقفوا صفًا واحدًا للدعوة إليها، والدفاع عنها، فلا غنى عنها ولا بديل لها.

ويهمني أن أؤكد أنني لست من المولعين باستخدام الكلمات الأجنبية الأصل "كالديمقراطية ونحوها" للتعبير عن معان إسلامية، ولكن إذا شاع المصطلح واستخدمه الناس، فلن نُصِمَّ سمعنا عنه، بل علينا أن نعرف المراد منه إذا أطلق، حتى لا نفهمه على غير حقيقته، أو نحمله ما لا يحتمله، أو ما لا يريده الناطقون به، والمتحدثون عنه، وهنا يكون حكمنا عليه حكمًا سليمًا متزنًا، ولا يضيرنا أن اللفظ جاء من عند غيرنا، فإن مدار الحكم ليس على الأسماء والعناوين، بل على المسميات والمضامين.

على أن كثيرًا من الدعاة والكتاب استخدموا كلمة "الديمقراطية" ولم يجدوا بأسًا في استعمالها، وكتب الأستاذ عباس العقاد ـ رحمه الله ـ كتابًا سماه "الديمقراطية الإسلامية" وبالغ الأستاذ خالد محمد خالد حين اعتبر الديمقراطية هي الإسلام ذاته. وقد عقبنا على ذلك في كتابنا : "الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي" فليرجع إليه.

وكثير من الإسلاميين يطالبون بالديمقراطية شكلاً للحكم، وضمانًا للحريات، وصمامًا للأمان من طغيان الحاكم، على أن تكون ديمقراطية حقيقية تمثل إرادة الأمة، لا إرادة الحاكم الفرد وجماعته المنتفعين به.فليس يكفي رفع شعار الديمقراطية في حين تزهق روحها، بالسجون تفتح، وبالسياط تُلهب، وبأحكام الطوارئ تلاحق كل ذي رأي حر، وكل من يقول للحاكم: لم؟ بله أن يقول: لا.

وأنا من المطالبين بالديمقراطية بوصفها الوسيلة الميسورة، والمنضبطة، لتحقيق هدفنا في الحياة الكريمة التي نستطيع فيها أن ندعو إلى الله وإلى الإسلام، كما نؤمن به، دون أن يزج بنا في ظلمات المعتقلات، أو تنصب لنا أعواد المشانق.

الشورى ملزمة وليست مجرد معلمة

بقى أن أذكر أن بعض العلماء، لا زالوا يقولون إلى اليوم : إن الشورى معلمة لا ملزمة، وأن على الحاكم أن يستشير، وليس عليه أن يلتزم برأي أهل الشورى ـ أهل الحل والعقد. وقد رددت على هذا في مقام آخر، مبينًا أن الشورى لا معنى لها، إذا كان الحاكم يستشير ثم يفعل ما يحلو له، وما تزينّه له بطانته، ضاربًا برأي أهل الشورى عرض الحائط، وكيف يسمَّى هؤلاء "أهل الحل والعقد" كما عرفوا في تراثنا، وهم في الواقع لا يحلون ولا يعقدون ؟ !

وقد ذكر ابن كثير في تفسيره نقلاً عن ابن مردويه عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن العزم في قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله} (آل عمران: 159) فقال: مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم. وإذا كان في المسألة رأيان، فإن ما أصاب أمتنا ـ ولا يزال يصيبها إلى اليوم ـ من وراء الاستبداد، يؤيد الرأي القائل بإلزامية الشورى.

ومهما يكن من خلاف، فإذا رأت الأمة أو جماعة منها أن تأخذ برأي الإلزام في الشورى، فإن الخلاف يرتفع، ويصبح الالتزام بما اتفق عليه واجبًا شرعًا، فإن المسلمين عند شروطهم، فإذا اختير رئيس أو أمير على هذا الأساس وهذا الشرط، فلا يجوز له أن ينقض هذا العقد، ويأخذ بالرأي الآخر، فإن المسلمين على شروطهم، والوفاء بالعهد فريضة.

وحين عرض على سيدنا على ـ رضي الله عنه ـ أن يبايعوه على الكتاب والسنة وعمل الشيخين ـ أبي بكر وعمر ـ قبله، رفض هذا ـ أعني الالتزام بعمل الشيخين ـ لأنه إذا قبله يجب أن يلتزم به. وبهذا تقترب الشورى الإسلامية من روح الديمقراطية، وإن شئت قلت: يقترب جوهر الديمقراطية من روح الشورى الإسلامية.

والحمد لله رب العالمين.