د. محمد عباس

صورة على صفحة الذاكرة، وليس ثمة دليل يميز بين ما إذا كانت تلك الصورة وليدة الخيال المحض أم أن لها جذورا في بقايا واقع وآثار ذكرى، صورة أطفال في الثالثة أو الرابعة، يقفون على شاطئ البحر، تبلل المياه أقدامهم، مجرد أقدامهم ، لكنهم يظنون أنهم استولوا على البحر وسيطروا عليه، وأنهم يملكون منه ما تحيط به أبصارهم، بل وأكثر من ذلك يتخيلون أنه لا يوجد من البحر إلا ما تحيط به أبصارهم. يقف الأطفال يواجهون البحر كأنهم أنداده، ولكن موجة هائلة تأتي فتغرق الأطفال وتحملهم في الدوامة فلا يدرون أمامهم من خلفهم ولا يمينهم من شمالهم ولا فوقهم ولا أسفل منهم. وتنحسر الموجة وتصل أقدام الأطفال إلى الرمال مرة أخرى، فتتشبث أصابع أقدامهم بذرات الرمل المبتلة، ويخيل إليهم أنهم بهذا التشبث يستطيعون مواجهة الموجة القادمة من البحر الهادر!.

***

لقد انداحت هذه الصورة إلى وجداني عندما بدأت أتصفح كتاب الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي الأخير.. "فقه الجهاد". وهو سفر ضخم في جزأين من حوالي ألف أربعمائة صفحة (بالتحديد 1429 صفحة). ومع ذلك فهو موجز أشد الإيجاز حتى أن الشيخ لم يكن يكمل فيه الأحاديث النبوية الشريفة أحيانا مكتفيا بكلمة(الخ) وكان يهدف بذلك فيما أظن إلى اختصار حجم الكتاب.. وأتصور أن الكتاب كان يمكن أن يصل إلى عشرة أضعاف حجمه لو أن الشيخ أطنب.

يشغل ثبت المراجع 29 صفحة من الكتاب حيث يبلغ عددها 322 مرجعا.. يلاحظ فيها الشمول والاتساع والإحاطة والرجوع أحيانا إلى مراجع أجنبية. أما المرجع رقم 221 فهو يشغل أكثر من صفحة ويندرج تحته ستة وثلاثون مرجعا هي من مؤلفات القرضاوي نفسه.. وبهذا يكون العدد الكلي للمراجع 357  وليس فقط 322...

ولكم حاول الشيخ أن يكون "فقه الجهاد" موجزا و ألا يكرر ما كتبه في مؤلفاته الأخرى ولهذا كثرت الإحالات إلى مؤلفات سابقة.

وقد قسم العلامة كتاب فقه الجهاد إلى مقدمة ، وعشرة أبواب وملاحق.. ولقد استعمل الشيخ الجليل كلمة "الفهرس" بدلا من "قائمة المحتويات".. وأظن أن الاختيار الثاني هو الأصوب وأن الفهرس هو ما نطلق عليه كشاف الكتاب. وقد جاءت قائمة المحتويات في ثلاثين صفحة تقريبا وبتفصيل يتيح للقارئ الرجوع المباشر إلى ما يريد وكأنه معجم.

تشغل مقدمة الكتاب سبع وعشرون صفحة يتحدث فيها عن المواقف النظرية من الجهاد ومراجعة الجماعات الإسلامية لنفسها ومنهج الكتاب ولمن يوجه الكتاب.  ثم يعرِّف الشيخ الجهاد والقتال والحرب والعنف والإرهاب مظهرا الفروق بينها (ولكم هو موسوعي ومبدع). وابتداء من صفحة 51 يأتي الباب الأول عن حقيقة الجهاد ومفهومه وحكمه. ويبدأ الباب الثاني صفحة 129 ويتناول أنواع الجهاد ومراتبه وفيه يتناول موضوعات هامة منها : بين الجهاد والقتال ومرتبة جهاد النفس وجهاد الشيطان وجهاد الظلم والمنكر في الداخل ومقاومة الردة وأخطرها ردة السلطان والردة المغلفة والردة الجماعية. وفي صفحة 237 يبدأ الباب الثالث ويتحدث فيع عن"الجهاد بين الدفاع والهجوم". ويبدأ الباب الرابع من صفحة 411 ويتحدث عن أهداف الجهاد القتالي في الإسلام وعن رغبة الإسلام في السلم وكراهيته الحرب وعن الأهداف المرفوضة للجهاد في الإسلام وعن الفرق بين شريعة التوراة وشريعة القرآن في الجهاد ثم عن أكذوبة انتشار الإسلام بالسيف. وبدءا من صفحة 487 يبدأ الباب الخامس ويتحدث عن منزلة الجهاد وخطر قعود الأمة عنه. ويبدأ الباب السادس من صفحة 583 ليطرح واجبات الجيش الإسلامي وآدابه ودستوره وفيه يركز على موقفه الشجاع – وكل مواقفه شجاعة حتى لو جانبها الصواب نادرا- برفض الاستعانة بغير المسلمين ويدين بكل قوة حرب بوش الصليبية على العراق ولإدانة تنسحب بالطبع على كل المشاركين. ولكن قدرته المذهلة على الإنصاف رغم موقفه من الشيعة تجعله يدين موقف العراق في اعتدائه على إيران.. ينتهي الجزء الأول من الكتاب صفحة 775 حيث يبدأ المجلد الثاني  بالباب السابع ويجيب عن سؤال: بماذا ينتهي القتال؟. وصفحة 830 يتساءل في الباب الثامن: ماذا بعد القتال. أما الباب التاسع (صفحة 959) فيتحدث عن القتال داخل الدائرة الإسلامية. أما في الباب العاشر والأخير فهو يتناول الجهاد وقضايا الأمة. وابتداء من صفحة 1202 تأتي ملاحق الكتاب  وهي:1- بحث في قتال الكفار. 2-العنف في الكتاب المقدس. 3- صفحات من ذبائح النصارى بعضهم لبعض واضطهادهم لليهود. 4- قرار مجمع الفقه بشأن التعامل المصرفي بالفوائد. 5- محكمة العدل الدولية الإسلامية. 6- مؤتمر المنصرين في كلورادو 1978.

بعد ذلك تأتي فهارس الكتاب التي تشغل ما يقرب من مائتي صفحة: (من ص 1247-1426) وهي هنا تأتي بالمعنى الصحيح ككشاف للكتاب وليس كقائمة المحتويات وتشمل فهرس الآيات القرآنية وفهرس الأحاديث والآثار وفهرس الأعلام وترجمتهم وفهرس المراجع.

وأنبه القارئ أن هذا العرض اختصار مخل لمحتويات الكتاب لأن الصفحات المتاحة في المجلة لهذه المقالة لا تكفي لعرض قائمة المحتويات فقط بل بالكاد تكفي نصف المحتويات.

أي جهد هائل بذله الرجل في هذا الكتاب؟!

أي عقل موسوعي منحه الله له..

أي ذاكرة فولاذية لا تفلت شيئا..

في روايته الرائعة ذائعة الصيت"مائة عام من العزلة" يقول ماركيز أنه لولا مراجعة أصدقائه للرواية لتحولت إلى رواية هزلية بسبب ما فيها من مفارقات حيث كان الأبناء يولدون قبل الزواج.. والزواج قبل الخطبة ويتهدم البيت قبل أن يبنى أصلا.. ويموت البطل ثم يعود للعمل عشرة أعوام بعدها ينجب أثناءها وهو ميت!. كل هذا في رواية واحدة. فكيف استطاع القرضاوي أن يسيطر على موضوعه هذه السيطرة الحديدية فلا يتناقض ولا يهتز. ثم أنني في قراءتي السريعة لم أعثر حتى الآن على خطأ مطبعي واحد.

لقد شبه الشيخ الجليل كتابه هذا بكتابه عن فقه الزكاة وهو سفر هائل آخر للشيخ الجليل، حصل به على درجة الدكتوراه عام 1973، يقول الشيخ: وجدتُ من الواجب عليَّ أن أنهض للكتابة في هذا الموضوع، بعد أن شرح الله له صدري، فكم خطر في بالي منذ أنجزتُ كتابي (فقه الزكاة) أن أكتب شيئا مشابها في (فقه الجهاد). وكم طلب مني إخوة كرام منذ مدة أن أكتب في هذه القضية التي شرَّق الناس فيها وغرَّبوا، واعتذرت لهم بأني لا أجد في نفسي هِمة لذلك. مع أني قد كنت كتبت فيه من قديم نتفا مبعثرة، في انتظار أن يحين الوقت للكتابة المنظمة المتصلة فيه، باعتباره أحد الموضوعات الأساسية التي لا بد من الكتابة المنهجية فيها، لحاجة المسلمين خاصة، وحاجة العالم عامة، إلى معرفتها معرفة حقَّة، بعيدة عن غلو الغالين، وتقصير المقصرين.

وينوه الشيخ إلى مراجعة الجماعات الجهادية لفقهه مستسلمة لآرائه حتى أنها راحت تنقل صفحات كاملة من فتاواه واجتهاداته التي كانت تدينها قبل ذلك.

والحقيقة أنني عاتب على الشيخ في هذا التنويه..

فلا يعلى من قيمة الشيخ الجليل أن يقال أن الجماعات الإسلامية قد نقلت عنه.. فالعالم كله ينقل عن الشيخ..

ولا يعلى قيمة الشمس أن نقول أن ضوءها أقوى من ضوء شمعة.. وكما يقول الشاعر:

ألم تـــر أن الســـــــيف ينقص قدره .. إذا قيل أن الســــــيف أمضى من العصا

إن مراجعات الجماعات الإسلامية تشوبها الكثير من الشبهات ولقد علمنا ديننا ونبهنا شيخنا أن المتشابه يتجنب ولا يتبع. لقد تمت المراجعات تحت إشراف الأمن وضغطه، لأناس ظلوا في الأسر عشرات الأعوام يتعرضون لتعذيب يعرف الشيخ ضراوته.. ولغسيل للمخ لا ينجو منه إلا من رحم الله وقد من الله على الشيخ الجليل أنه كان من الناجين بإذن الله لكنه يعرف كيف انهار البعض تحت وطأة التعذيب الجسدي والمعنوي حتى أن البعض طلب تغيير دينه والأخف وطأة ترك الصوم والصلاة بل ومارس بعضهم الشذوذ لإقناع أجهزة الأمن أنهم تابوا وأنابوا.

وأقصى ما يمكننا أن نفعله تجاه المراجعين المتراجعين هو أن نلتمس لهم المعاذير ونعذرهم بضعفهم الإنساني...

لا أنكر إحساسي بالضيق عندما نوه الشيخ بذلك.. لكنني لم أتمالك نفسي من الضحك العريض عندما اتهموا هم الدكتور يوسف القرضاوي أنهم سبقوه فيما وصل إليه!!.. جزاهم الله خيرا.. فقد بلغ من أدبهم أنهم لم يتهموه مباشرة بالسطو على أفكارهم!!.

ففي المصري اليوم 2/7/2009 يقول الدكتور ناجح إبراهيم(غفر الله له)، عضو مجلس شورى الجماعة الإسلامية: «إن طرح الدكتور القرضاوى بشأن الجهاد سبقت إليه الجماعة الإسلامية من خلال مراجعاتها لمفهوم الجهاد، وإن الجماعة تؤيد هذه الأفكار وترى أنها حصيلة جهد جهيد وفكر ناضج».

***

الكتابان (فقه الزكاة وفقه الجهاد) حلقتان من سلسلة تزيد على عشرين كتاباً  كتبها العلامة القرضاوي عن "الفقه وأصوله"، وهي كتب تهدف جميعها إلى مواجهة الهجمة العلمانية الشرسة على الإسلام، التي تهدف إلى إثبات عجز الفقه عن مواجهة العصر، فيواجههم الشيخ الجليل ببحره الزاخر الهادر ليكونوا أمامه مجرد أطفال يتقلبون في الموج.

نعم كان الكتاب بحرا هائلا وكانت صفحاته أمواج ذلك البحر..

لم أخض غمار البحر ولم أحط به كله ولم أغص إلى أعماقه ولا سبرت أغواره بعد (فذلك يحتاج لأسابيع وربما لشهور.. ذلك أن الكتاب يحتاج للدراسة لا للقراءة.. ولم أكن أستطيع الانتظار كل هذه المدة حتى أكتب عنه) .. ولقد ألممت به إلماما يكفيني للكتابة عنه واعدا القراء أن أكون كالغواص وأن أحاول كل مرة أن أعود إليهم ببعض لآلئ الأعماق.. وألا يمنعني ذلك من كشف بعض ما لا أوافق عليه. فحتى اللؤلؤ درجات وفي بعضه عيوب..  فمنه أثمن ما يكون  مثل "الجيون" و"الدانة" و"اليكه"  ومنه ما قيمته مشكوك فيها مثل "البدلة" و"الخشرة".

***

لقد كتب الكثيرون عن الكتاب.. وكان أغلب ما كتب مديحا.. ولكن كان هناك البعض نحوا منحى آخر.. كأولئك الأطفال الذين تتشبث أصابع أقدامهم بذرات الرمال المبتلة مصرين على مواجهة البحر، وكان شيخنا –في هذا الكتاب كما هو في سواه-  البحر بأمواجه الهائلة!.. وكانت المواقف مسبقة.. فمن دأب على مهاجمة الشيخ هاجم الكتاب.. ذلك أن كثيرا من الناس ينظرون إلى من قال لا إلى ما قال. وكثيرون منهم تتصلب عليهم اقتناعاتهم السياسية أو المذهبية كما تتصلب القواقع والأصداف على ما بداخلها. بل إن بعضهم عملاء أجهزة استخبارات يسلطونهم لتشويه رموز معينة ترى فيهم السلطات خطرا.

يخيل إلي أن بعض هؤلاء الكتبة-ليسوا كتابا بالتأكيد- قطع شطرنج لكل قطعة منها وظيفة واحدة لا تستطيع أن تتحرك خارج إطارها. فللعساكر واجب وللفيل واجب وللطابية واجب وللوزير واجب وليس للجميع من هدف إلا المحافظة على الملك. يدور الكل في إطاره وليس لهم أي هدف آخر.. أما جزاؤهم فهو ألا يلقي بهم خارج الساحة. وهكذا تراوحت التعليقات والأحكام على كتابات الشيخ.

والحقيقة أنني لم أقرأ حتى الآن نقدا جذريا أتعاطف معه وأحترمه.. هناك انتقادات جزئية ومعظمها تمس أمورا غير جوهرية ويبدو أن الدافع خلف معظمها هو الحصول على درجة الشهادة العليا.. شهادة:"الهجوم على القرضاوي"!!..وأعترف أنها شهادة مغرية في الدنيا مهلكة في الآخرة!..

بيد أنني لم أستطع مواصلة القراءة في بعض التعليقات لأن درجة الإسفاف بالغة.. ومن ناحية أخرى فقد كان كل واحد منهم كفيلا بأن يغلبني.. بل وأن يغلب الشيخ الجليل نفسه.. ألم يقل الإمام الشافعي رضي الله عنه: ناقشني ألف عالم فغلبتهم ، وناقشني جاهل واحد فغلبني.

ليس معنى ذلك أن القرضاوي معصوم أو أنه فوق النقد.. فهناك قصور خطير ليس في علم الفقه بل في مواءمة تطبيقه على الواقع.. وهناك نقاط جذرية وعميقة يمكن توجيه الانتقادات إلى الشيخ فيها.. لكنه انتقاد يعترف للعالم الجليل بأستاذيته وموسوعيته.. كما أنه في بعض بنوده قد يكون أقرب للاستيضاح منه للانتقاد.

***

كثيرون ممن انتقدوا كانوا كالأطفال الذين تراءت لي صورتهم في بداية المقال..

كان من الأطفال من هم أبرياء ومنهم قليلو الخبرة ومنهم شياطين إنس!.. واحد من شياطين الإنس هؤلاء كفّرني لأنني لم أكفّر شيخنا الجليل، وآخر هاجمني بضراوة منوها إلى أنني لست مخلصا في انتقاد بعض آرائه وفتاواه لأنني أعتبرها اجتهادا له عليه أجر وليس أجرين بينما يراها هو خروجا على الملة. أما ثالثهم فقد اعتبرني تجاوزت المحرمات عندما دعوت لشيخنا الجليل مرة فقلت: الشيخ القرضاوي رضي الله عنه فإذا به يفزع صارخا كأنني – معاذ الله- نطقت بكلمة الكفر. فهدأته منتويا المكر به. وأثناء انصرافه فاجأته بدعاء بالعامية:

- روح يا شيخ الله يرضى عليك..

وانصرف الرجل ممتنا لدعائي له لكنني سرعان ما استرجعته قائلا له بمرارة:

- تقبل الدعوة لنفسك وتستكثرها على شيخ شيوخ الأمة.. أليست "رضي الله عنه" هي : " الله يرضى عليك"..

وبهت الرجل!..

***

رغم إعجاب لا يحد بالشيخ الجليل فأظنني كنت واحدا من أكثر الذين انتقدوا بعض أفكاره، ولقد خشيت أحيانا أن أكون قد جاوزت حدود الأدب، ولقد عاتبني في ذلك أصدقاء أجلاء كثيرون على رأسهم الأستاذ الدكتور محمد جبريل رئيس قسم التفسير بجامعة الأزهر والأستاذ محمد يوسف عدس خبير اليونسكو السابق والكاتب الفذ والأستاذ الباحث الفلسطيني منير شفيق وهو أحد الدرر التي نفخر بها بعد تحوله من المسيحية إلى الإسلام. أقول كدت أخشى أن أكون قد تجاوزت معه..  لكن رسالة منشورة في الشبكة العنكبوتية طمأنتني، كان صاحبها يهاجمني هجوما شديدا يصل إلى حد التشكيك في العقيدة، لأنني وإن كنت أدعي أنني أهاجم الشيخ القرضاوي فإنني أرفعه إلى مصاف الصحابة. وكان هو يرى العكس.

قلت لنفسي أنني لم أجعله في صف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. لكنني أحسبه ولا أزكيه على الله في مصاف إخوانه!.

***

هتفت من أعماقي وقد جاشت مشاعري:

- يا لروعة الإسلام الذي يسمح لمثلي أن يواجه مثله.. فهو مهما كبر.. وأنا مهما صغرت.. مجرد عبدين لا يأمنان مكر الله حتى لو كانت إحدي قدمينا في الجنة.

وقلت لنفسي:

- كل يؤخذ منه ويرد عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

***

سأترك الإشادة بالسفر الجليل لغيري، ولكنني - وكأنني سأرتكب إثما بمعارضة الشيخ في بعض ما كتبه في "فقه الجهاد"-  أبادر بالإعلان عن أن  الدكتور يوسف القرضاوي، ولا أزكيه علي الله – عزيز علي قلبي، وقد بلغ من إعجابي بمنهجه أن ناشدته أن يعلن إعادة الخلافة كي ينقذ العالم الإسلامي من الهاوية التي ينحدر إليها، ورجوته أن يمدد يده كي نبايعه، أو أن يبايع من يراه لنبايعه خلفه. وقد يعبر عن مشاعري تجاه الشيخ  ومكانته في قلبي ذلك النداء الذي وجهته إليه عندما جرؤت طغمة الحثالة الفاسقة المسيطرة على مقاليد الثقافة في بلادنا ونشرت رواية فاسقة كافرة تجترئ علي الذات الإلهية، حيث جاء في مقالتي ( الشعب 28/4/2000) هذا النداء له:

" يا شيخ يوسف القرضاوى.. إن الأمة الإسلامية تضعك – شئت أم أبيت – على رأس العلماء المجاهدين المجددين على مستوى العالم الإسلامي بأسره، وترى فيك – شئت أم أبيت – واحدا  ممن يبعثهم  الله لتجديد شباب هذا الدين.. يرون ذلك فيك.. رغم أن سلطات بلدك نفسها أنكرتك.. بل واعتبرتك إرهابيا.. فالإسلام بالنسبة لهم هو الإرهاب.. والقرآن هو المستهدف.. والذين أنكروك هم الذين ينشرون  أن القرآن خـراء.. وأنت تعلم أن الأزهر قد اخْتُرٍق.. وأن المقاومة فيه إما محاصرة وإما مقموعة وإما مفصولة.. أصبحنا بلا دفاع.. والأمة ترى فيك بديلا..   الأمة ترى فيك ذلك فلا تخذلها.. وهذه معركة مفروضة عليك .. ولعل القتال يكتب فيها عليك وهو كره لك.. ولعلنا مثلك.. كنا نتمنى أن نموت قبل أن تفرض علينا هذه المعركة.. أما وقد فرضت فنحن نتمنى أن نموت فيها.. فلا تخذل الأمة.. دافع عن القرآن بما أنت له أهل.. إن الأمة تنتظر فتواك في كل مسئول عن نشر هذا الكتاب في بلد الأزهر..كل مسئول.. من الخفير.. إلى الوزير.. إلى الأمير..

لا ..

ليس فتواك فقط..

بل إن الأمة تنتظر منك حملة شاملة على مستوى الـهيئات الإسلامية في العالم الإسلامي كله..

أصرخ فيك..

أنت بعيد عن مصر بعد أن أنكروك.. أنكروك فاحتضنك العالم الإسلامي  قرة عين ومهجة قلب وفلذة كبد وومضة عقل.. لكنك بعيد عن مصر.. ولعلك تظن أنها مازالت بخير..

أهتف فيك: مصر لم تعد بخير.. مصر لم تعد بخير.. مصر لم تعد بخيـر..

فالنجدة النجدة والغوث الغوث..

فإنه القـرآن.."

***

كما أنني في مواجهة هجومي العنيف عليه دفاعا عن الشهيد سيد قطب قلت: لو أن قائلا قال لي أن الشيخ يوسف القرضاوي أعلم أهل الأرض الآن لما استنكرت. ولو أن سائلا سألني من هو أقرب علماء أهل الأرض إلي قلبك لكان اسمه في السطر الأول .. ولو أننا صنفنا العلماء المعاصرين بغزارة الإنتاج لنافس شيخنا علي المركز الأول بجدارة، بل وأظننا لن نجد من يطاوله .. ولو أننا اعتمدنا القيمة والاعتدال والوسطية لكان الرائد بلا منازع ..

***

كما أنني لن أمل أبدا من تكرار ما حدث في دعوة مستجابة بصورة مذهلة ذكرتني بأبي جهل عندما أراد بالرسول صلى الله عليه وسلم سوءا فإذا به يرى  فحلاً من الإبل أمامه فاغراً فاه، وخيل إليه أنه سيأكله. جل الرسول صلى الله عليه وسلم عن التشبيه لكن الشيء بالشيء يذكر.

ولقد كان الحدث تثبيتا لقلبي حيث أراني الله سبحانه وتعالي آية من آياته ودليلا باهرا علي مكانة الشيخ عند ربه إن شاء الله..كان ذلك منذ نيف وعشرة أعوام.. وكنت قد كتبت مقالا حادا في صحيفة الشعب يوم الجمعة، وفي المساء، اتصل بي رئيس تحرير إحدى الصحف، ليخبرني أنه علم باتصالاته أن كواليس السلطة غاضبة جدا من مقالي، و أن إجراء ما سيتخذ ضدي هذه الليلة. وقلت له : لقد تأخروا كثيرا.. فأنا أنتظرهم منذ عشرة أعوام.

قبيل منتصف الليل جاءتني المكالمة المتوقعة:

- ليتك تشرفنا الآن خمس دقائق علي فنجان من القهوة.

وكان المتحدث ضابطا بمباحث أمن الدولة.

ولأسباب ليس هذا مجال ذكرها وجدت نفسي ميالا إلي السخرية فأجبت الرجل بما لا يتوقع حين قلت:

- لكنني لم أتعود علي شرب القهوة ليلا، ثم أن الوقت الآن لا يناسبني، لذلك أعتذر عن تلبية دعوتك!!.

دهش الرجل، وارتبك لإجابتي التي لم يتوقعها، ودار حوار، واتفقنا علي موعد في الصباح، فأدركت أن الأمر لن يصل إلي اعتقال، وفي اللقاء حرصت كما أحرص كلما أتيحت لي الفرصة أن تصل وجهة نظري للمسئولين، طلبت منه أن ينقل للوزير أن ثمة اختراق هائل في العالم العربي كله بما فيه مصر ، و أن أجهزة الأمن تبدو كما لو كانت تنفذ مخططا غربيا لهدم الأمة، ولسلب روحها، وكان الضابط يسمع حديثي علي مضض شديد، وتطرق الحديث إلي موقف أجهزة الأمن الشاذ من فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي، وبدا كما لو أنه أراد أن يثأر مني، فانطلق بسباب قبيح لفضيلة الشيخ، وغضبت بشدة، ودافعت عن الشيخ الجليل، لكنني كنت عاجزا عن استعمال نفس ألفاظ السباب التي استعملها الضابط.

وأثناء انصرافي كان صدري يتأجج بالغضب، وعلي باب الشعبة وقفت لحظة، وتوجهت إلي السماء:

- اللهم لقد اعتدي علي ولي من أوليائك فرد عنه.. اللهم لقد أغاظني فأغظه..!!

بعد أسبوع واحد، كان الضابط يفصل من مباحث أمن الدولة في وقائع صارخة.. وينقل إلي فرق الأمن في مكان قريب من حلايب..!!

وبعد ستة شهور قابلته مصادفة فلم أعرفه، كان وزنه قد انخفض من مائة كيلوجرام إلي خمسين كيلوجراما، وكان الله قد دافع عن ولي من أوليائه وآذن المعتدي الأثيم بالحرب.. وقد أذله..

لا أريد أن أسترسل لأنني لا أريد أن أسيئ لأشخاص بعينهم حتى ولو كانوا ضباطا بمباحث أمن الدولة.. ولكنني أضيف أنه يكفي للتنكيل بأي ضابط عدم رضاء رؤسائه المباشرين عنه. أما بالنسبة لهذا الضابط فقد كان الأمر مروعا حقا.. لقد اجتمع مجلس الأمن القومي (أقوى ستة وزراء في مصر)لاتخاذ قرار فصله من أمن الدولة. كانوا هم فحل الإبل الذي التهم الضابط الذي أساء إلى الشيخ!

و أضيفت هذه الواقعة إلي رصيد هائل للشيخ في قلبي..

***

أعترف أنني أحب الشيخ حبا يملك علىّ نفسي والله على ذلك شهيد.. حب لأنني أدرك دوره الهائل في نصرة الإسلام وأدرك شموخه وعلمه وموسوعيته واجتهاده أدرك أدبه –ويعجبني ولكن لا يفتنني شعره!- كما أستعيد في ألم هائل كيف أوذي في سبيل الله وكم عذب وجلد بالسياط وروّع- لقد بكيت وأنا أقرأ مذكراته- وما يزال الطواغيت حتى الآن يسيئون معاملته.. من يتخيل.. يوسف القرضاوي الهائل يوقف في مطار بلاده مع المشتبهين.. ولولا أن رأس نبي أُهدِيَ إلى بغيّ ما احتملنا!!.. ذلك كله يتعلق بالشأن العام.. لكنني-على المستوى الخاص- أحبه كأنه أبي. وأخشى عليه كما كنت أخشى على أبي عليه رحمة الله.

كان توهج الشيخ ولمعانه في كتابه الأخير "فقه الجهاد"  مخيفا لي!.. فقد خشيت أن يكون فصل الختام فاغرورقت عيناي بالدموع وأنا أراه بعين الخيال قد صدّر الكتاب قائلا : هذا آخر عهدي بالدنيا وأول عهدي بالآخرة. وداهمتني الكآبة حتى تذكرت ما صرح به الشيخ أخيرا عن مشروع كتابيه القادمين. قلت لنفسي لعل الله ينظر من عليائه إلينا فيرحمنا..  وأن يتجلى الكرم الإلهي ويفيض علينا بأن يطيل الله عمر شيخنا حتى  ينجز مشروعه. تذكرت مقولة خالد محمد خالد أن لله عبادا إذا أرادوا أراد. لكنني أقولها في العلامة الجليل الشيخ يوسف القرضاوي وليس في اللواء حسن أبو باشا كما فعل خالد محمد خالد.. غفر الله له. ( لبعض إخواننا الذين قصدهم شيخنا الجليل بكتابه أقول أن عبارة - إن لله رجالا  إذا أرادوا أراد- ليست عبارة شركية: راجع تفسير العلامة / محمد رشيد رضا في مجلة المنار (15/567 وما بعدها) (عدد شعبان 1330هـ) وكذلك د محمد راتب النابلسي).

المشروع الثاني للشيخ هو كتابة تفسير القرآن.. يقول الشيخ : أريد أن أنجز تفسيرًا للقرآن على هامش المصحف على طريقة "تفسير الجلالين"، بحيث لا يستغرق مني أكثر من سنتين، وهو تصور أريد الانتهاء منه قبل رحيلي من هذه الدنيا.

أما المشروع الأول فقد شكل مفاجأة لي.. يقول الشيخ:

أستعد في الأيام القادمة لتأليف كتاب في السيرة النبوية بالأسلوب الموضوعي وليس الحدثي، بمعنى أنني لا أريد سرد أحداث، ولكن أريد التركيز على مواقف ظهر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم كداعية، وكقائد، وكأب، وكجد، وكزوج، وهكذا بشكل تفصيلي.

أسقط في يدي..

إذا كانت الشمس ستطلع الآن فما جدوى أن أشعل شمعة.. وإن كان الشيخ سيكتب في السيرة فعلينا أن نصمت ونتعلم  لا أن نكتب.

لقد كانت هذه المفارقة سببا في عجزي عن كتابة حلقة هذا الشهر من:"في ظلال السيرة"..

أما الجزء الثاني من المفارقة فهو في المنهج الذي قال شيخنا الجليل أنه سيتبعه. ذلك أنني كنت أفكر في منهج قريب جدا من هذا. ولطالما تحاورت مع شيوخي وأصدقائي في ذلك المنهج.  كان البعض يريد المنهج العلمي الصارم مع الاعتماد على الأحاديث الصحيحة فقط وإهمال روايات المؤرخين. وكان من رأي شيخنا وأخي في الله الأستاذ الدكتور محمد جبريل أن أكتبها بسجيتي وأن أدعها تنطلق كالرصاصة أو القنبلة بنفس الروح التي كتبت بها مقال" من يبايعني على الموت".. وكنت أقول لهم موجزا الأمر أريد أن أكتبها بطريقة القصة القصيرة لا بطريقة الرواية..والأمر لا يتعلق بالطول والقصر.. ولكن في القصة القصيرة يختار الكاتب لحظة مكثفة جدا ثم يبدأ في الاقتراب منها لتتضح معالمها ومع كل اقتراب تكبر حتى تصبح عالما بأسره.. وفي خلال ذلك يستدعي باقي التفاصيل التي قد لا تحفل بها الرواية. وقلت لهم أنني لا أريد أن أسرد تاريخا ولن أتعقب الأحداث حدثا بعد حدث.. بل سأبدأ بالوحي ثم بالإسراء والمعراج ثم بالهجرة ثم بدر وأحد والخندق وفتح مكة وحنين والوداع وأن هذه قد تكون عناوين الفصول المتتابعة. وأنني سأحاول أن أصل هذه الأحداث كي يكتمل السياق كله.

لكن الآن.. ماذا أفعل؟!..

كيف أجرؤ على مواصلة الكتابة وشيخنا وأستاذنا سوف يكتب فيها..

لقد قال الشافعي رحمه الله ( الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة )

وقيل عن الخطيب البغدادي بأن كل من جاء بعده في علوم الحديث فهم عيال على كتبه ..

أما أنا فأقول: كلنا عيال على العلامة القرضاوي..

وفي أي واقعة تجعلني في رحابه فسوف أؤثره على نفسي..

ولقد تذكرت ضاحكا الواقعة –المهزلة- للشيخ الصباحي رحمه الله عندما شارك في انتخابات الرئاسة فأعطى صوته للرئيس مبارك!.. قلت لنفسي أننا انتقدنا الجانب الفكاهي في الواقعة.. لكنني يمكن أن أفعلها مع الشيخ فأختاره على نفسي بل وأفديه بها.. لكنني حين أفعل ذلك إنما أفعله حقا وصدقا وإيثارا وفداء..

***

وثمة واقعة ساخرة أخرى أوقعني فيها حبي للشيخ. فبعد تشعب العائلة وضمور العلاقة بين الجذور والفروع كان عليّ أن أبحث عن مقبرة في القاهرة.. وفوجئت بتجارة غريبة جدا في المقابر القديمة هي تجارة المقابر المسروقة! إذ ينتقي السماسرة المقابر التي يقل التردد عليها فيبيعونها لآخرين. قلت للبائع وقد استبدت بي الدهشة: حتى اللصوص الذين يقضون أعمارهم في السرقة يحرصون على دفنهم في مقبرة حلال من حر مالهم.. فهل تريدني وقد عافاني الله من المال الحرام أن أدفن في مقبرة مسروقة؟! ونصحني العليمون ببواطن الأمور أن ألجأ إلى البحث في الضواحي. وفي إحداها وكانت إعلاناتها تملأ الصحف ويملكها أحد أقطاب الحزب الوطني وجدت البائع يغريني بوجود مقبرة خالية بجوار مقبرة عائلة الدكتور يوسف القرضاوي. كان الجدار في الجدار!. ولم أتردد. تعاقدت على المقبرة فرحا وكأنني أشترى قصرا في الجنة! (رغم أنني أتبع منهجا صارما جدا يجعلني أدرك أن أبي جهل وأبي لهب مدفونان في مكة وأن عبد الله بن أبي مدفون في المدينة  بجوار الصحابة والشهداء وأن المكان لا يعني شيئا). تعاقدت فورا رغم شعور قوي يخامرني بأن الشيخ الجليل سيدفن –بعد عمر طويل- مع أستاذه وتلميذه(!) الشيخ الجليل محمد الغزالي في معية الرسول صلى الله عليه وسلم. اشتريت المقبرة لأكتشف بعد ذلك أنني ضحية لعملية قد تكون نصبا واحتيالا وقد تكون صراع حيتان. كان المشروع الذي جمع الملايين وهميا. وعرض علينا قطب الحزب الوطني الكبير أن نتسلم مساحة المقبرة أرضا فضاء لنقيم عليها مشروعا تجاريا (!) حيث أنه لم يحصل على الرخصة اللازمة. ولمت نفسي قائلا: لماذا لم تتنبه من البداية أن مالكها من أقطاب الحزب الوطني. لقد هربت من شراء مقبرة مسروقة لأسرق أنا في مدينة المقابر تلك!. ثم قلت لنفسي : لم تسرق مقبرتك فقط .. راجع الأمر جيدا واحصر ما سرق منك فنحن  في عهد تسرق فيه المقابر والأصوات والأوطان والمناصب. كادوا أن ينتهوا من بيع الدنيا ويحاولون مد نشاطهم لبيع أبواب الآخرة!..

***

لكن حبي للشيخ لم يمنعني من انتقاده بمرارة وحدة في مواقف عديدة منها فتواه عن أفغانستان وموقفه من الشهيد سيد قطب وكذلك من القاعدة والشيخ أسامة بن لادن والملا عمر.

ولن يمنعني أيضا من مواجهة الموج الهادر هذه المرة!

***

لقد كنت دائما متوجسا أشد التوجس من أي اجتهاد فقهي في ظل الهجمة العلمانية الصليبية اليهودية الكافرة على الإسلام. وكنت أخشى أن يتم التسلل خلال الاجتهاد لهدم الإسلام من داخله. والقوم لم يخفوا أمرهم. وما الفرقان الأمريكي ببعيد. وما إمامة النساء ببعيد. بل لقد وصل الأمر إلى أن بعض مساجد الضرار في الولايات المتحدة الأمريكية تنادى الآن بإباحة الشذوذ بحجة أن المنع في فعل قوم لوط هو الاغتصاب قهرا لا الفعل نفسه فإذا تم بالتراضي فلا تثريب. من أجل هذا كنت مرعوبا من الاجتهاد رعبي من إجراء عملية جراحية في غرفة عمليات ملوثة. فمهما كانت براعة الجراح قد تتسلل الجراثيم لتقتل المريض أو تصيبه بعاهة. كنت مدركا أننا في جو حرب وحصار. وأن فقه الجمود هو الأولى بالاتباع. فقه التخندق والسكون. لأننا لو خرجنا من الخنادق ستقتلنا القنابل والنابالم. لكن.. من الناحية الأخرى كنت مدركا أن البقاء في الخنادق فترات طويلة سيقتلنا صبرا!.السكون قد يكون مميتا والحركة قد تكون مميتة وبين الموت والموت كان الهم يقتلني!.

على المستوى النظري كنت أنظر في انبهار إلى عبقرية الإسلام وقدرته على البقاء أبدا لثبات شريعته وتغير فقهه. وربما تجاوزت في نظر بعض إخواني السلفيين في ترك باب الاجتهاد مفتوحا دون حدود للثقة الذي بلغ مرتبة الاجتهاد. حتى تلك الاجتهادات التي تبدو غريبة بشرط أن تأتي من عالم ثقة مثل الشيخ محمد أبو زهرة، أحد كبار علماء الأزهر الراحلين، والذي كان يرى أن رجم الزاني المحصن كان شريعة يهودية، أقرها الرسول في أول الأمر، ثم نسخت بحد الجلد في سورة النور. وتلك الفتوى الأخرى ولا أذكر الآن من قائلها والتي تقول أن قطع اليد في حد السرقة ليس هو البتر( مستشهدا بـ: فقطعن أيديهن). أقول أنني فكريا لا أرفض مناقشة أي فتوى من عالم ثقة مهما بلغ شذوذها (وفرق بين المناقشة والقبول) لكنني في الوقت نفسه أدرك أن فتح هذا الباب في زمن الفتنة قد يأتي ببلاء كبير وعلى هذا فقد استقر رأيي على ضرورة إغلاق باب الاجتهاد في زمننا الراهن(ألا يكفيكم شيخ الأزهر ومفتى الديار دليلا؟!).

***

في هذا السياق جاء كتاب الدكتور (وأحب أكثر أن أقول الشيخ) يوسف القرضاوي الأخير..

والشيخ القرضاوي استثناء لا يقاس عليه وما لا يباح لسواه يباح له..

لكننا في نفس الوقت يجب ألا نغفل أبدا عن أنه بشر يخطئ ويصيب.. وأن علينا أن نأخذ ونرد منه.

ولقد ذكرني كتاب فقه الجهاد بابن الأثير في وصفه لمعركة حطين حيث يقول عن الصليبيين:   وانتصر صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين، وكانت معركة عظيمة لم يُسمع بها إلا في زمن الصحابة والتابعين، فمن رأى الأسرى قال: ليس هناك قتيل، ومن رأى القتلى قال: ليس هناك أسير. وكذلك كتاب فقه الجهاد.. قد تتحمس له فلا ترى فيه ما تختلف فيه مع الشيخ الجليل وقد تتغير زاوية الرؤية فنختلف معه في الكثير.

للوهلة الأولي يبدو الكتاب صوابا كله.. ويبدو نتاج عقل موسوعي وقريحة فذة وذاكرة مذهلة ونور سابغ من الله عليه.. لكن مع القراءة المتأنية تبدو ثغرات قد تدفع المتعجل للشطط في الحكم ضد الكتاب.

العبقرية الفذة تجعل الكتاب كأنه يقرأ خواطرك.. فما أن تخطر لك فكرة حتى تجد الكتاب يرد عليها. ثم أن المنهج الصارم الذي اتبعه الشيخ جعله يورد جميع الآراء قبل أن يقول رأيه.. بدرجة تجعل من قبيل المستحيل تقريبا ألا يكون رأي القارئ ضمن واحد من تلك الآراء.

ولست ندا للشيخ كي أقارعه حجة بحجة. وما أنا إلا تلميذ صغير له. لكنه تلميذ تعلم من شيخه أن يصدح بما يعتقد أنه الحق.

إن الكتاب يبدأ بداية صاعقة تجعل من يسمونهم بالمتطرفين أو المتشددين – مع التحفظ على أسماء ما هي إلا أسماء سميتموها- لا يملكون إلا التأييد. يقول الشيخ:

فإن موضوع الجهاد في الإسلام من أعظم الموضوعات خطرا وأبعدها أثرا لما له من قيمة وأهمية في الحفاظ على هوية الأمة والدفاع عن كيانها المادي والمعنوي.. وعن أرضها و أهلها وعن رسالتها التي هي مبرر وجودها وبقائه.. وهي رسالة الإسلام.. وبغير الجهاد يُصبح حِماها مستباحا، ودم أبنائها رخيصا رخص التراب، وتغدو مقدساتها أهون من حَفنة رمل في صحراء، وتهون الأمة عند أعدائها، فيتجرَّأ عليها الجبان، ويتعزَّز عليها الذليل، وتُغزى الأمة في عُقر دارها، ويتحكَّم أعداؤها في رقابها، فقد نزع الله من صدور عدوها المهابة منها، بعد أن كانت تُنصر بالرعب على أعدائها مسيرة شهر.

هذا أمر محكم لا خلاف عليه.. ولكن.. قد يكون ثمة التباس في موضوعات أخرى..

ولنضرب مثلا على أحدها.

ففي المقدمة يتحدث شيخنا الجليل عن موقف الناس من الجهاد ويقسمهم إلى ثلاث فئات فيقول عن الفئة الأولى : فئة تريد أن تُهيل التراب على الجهاد، وأن تسقطه من حياة الأمة، وأن تجعل أكبر همِّها ومبلغ علمها: أن تربِّي الأمة - كما تقول - على القِيَم الروحية، والفضائل السلوكية، وتعتبر هذا هو (الجهاد الأكبر): جهاد النفس والشيطان.

أما عن الفئة الثانية فيقول: فئة فهمت الجهاد على أنه (قتال العالم كله): مَن حارب المسلمين أو وقف في سبيل دعوتهم، أو فتن المسلمين في دينهم ... ومَن ألقى إلى المسلمين السلم، ومدَّ يد المسالمة والمصالحة للمسلمين، فلم يَشهَر في وجوههم سيفا، ولم يظاهر عليهم عدوا. فكل الكفار عند هذه الفئة سواء في وجوب مقاتلتهم إذا كان المسلمون قادرين، فالكفر وحده سببٌ كافٍ لقتال غير المسلمين!

أما عن الفئة الثالثة التي يمثلها الشيخ فيقول: هي (الأمة الوسط)، التي هداها الله إلى الموقف الوسط، وآتاها العلم والحكمة، ورزقها البصيرة في فقه الشرع، وفقه الواقع، فلم تقع في تفريط الفئة الأولى التي تريد للأمة أن يبقى حقها بلا قوة، ومصحفها بلا سيف، وأن تبقى دارها بلا حُرَّاس، وحرماتها بلا حُماة.

جميل جدا.. والدواء صحيح إذا صح التشخيص.. والتشخيص صحيح إذا صدقت الأبحاث.. والأبحاث صحيحة إن صدقت الأعراض والشكوى.. ولكن فقدان إحدى عناصر المنظومة يجعلها تنهار.

كل ما أتي بعد وضع تقسيم الفئات الثلاث صحيح.. ولكن هل يظل صحيحا لو رجعنا قبل هذا التقسيم.. لو سألنا ما الذي أدى إلى هذا التقسيم؟

لماذا انفرطت الأمة شيعا وأحزابا.

بل إنني أذهب لأبعد مما ذهب إليه الشيخ..

إنها ليست ثلاث فئات.. بل ثلاثمائة وربما ثلاثة آلاف!.

دعوني أضرب لكم مثلا..

لنفترض أنه قد جاء من سد المجرى الرئيسي لنهر النيل وردمه بالطين والأحجار. ماذا سيحدث عندما يفقد التيار الرئيسي مجراه الطبيعي. ستفيض المياه في غير مسارها لتغرق أو تركد أو تأسن تتعفن.. وستنمو فيها الحشرات والأفاعي والأسماك المتوحشة. ولم تكن هذه لتنمو في تيار النهر الرئيسي ولم تكن لتنمو إلا بعد الخلل المتعمد في التوازن الطبيعي. أليس كذلك. لكن المشكلة هنا ليست مشكلة النهر بل مشكلة من سد النهر. لا تسل البرك ولكن سل من سد المجرى.. فتسبب في هذا التشرذم.

دعوني أضرب لكم مثلا آخر..

هبوا أن هناك مريضا.. مرضه خطير.. وقد جئنا له بأبرع طبيب في العالم.. طبيب هو في الطب بمنزلة شيخنا الجليل في الفقه.. وقد بذل هذا الطبيب كل ما يستطيع لعلاج المريض.. وكان التشخيص صحيحا والعلاج صحيحا.. وكان المفترض –نظريا- أن يُشفى المريض.. لكنه لم يُشفَ.. بل أشرف على الموت.. هل تعلمون لماذا؟ .. لأن هناك شخصا مجرما كان يحقن المريض بمواد تمنع تأثير العلاج وتعادل كيماوياته وتفسد مفعوله.. وكان فضلا عن ذلك يحقنه بمواد سامة.. فهل كان يجدي أي علاج إضافي؟.. هل كان يجدي مضاعفة جرعة العلاج.. أم أن الحل كان مختلفا تماما.. كان يجب أن يكون مختلفا.. ولم يكن مجاله الطب بل أجهزة مكافحة الإجرام والقبض على المجرمين.

إنني أستعيد قصة الفيلم الأمريكي الشهير (كوما ) أو الغيبوبة.. عندما كان مدير المستشفى ورئيسها.. وهو الشخص المؤتمن على المرضى.. هو بنفسه اللص والمجرم والقاتل الذي يتعمد قتل المرضي لكي يتربح من بيع أعضائهم.. لذلك كانوا يتعمدون إدخال المرضي في حالة غيبوبة أو موت إكلينيكي يتمكنوا من بيع أعضائهم.. لو أن شيخنا القرضاوي كان أبرع الأطباء وكان هناك.. فكيف كان يمكن أن ينجح..

ولا داعي أن نفسر الرموز!

***

الذي ينتقده شيخنا الكبير في كتابه الجليل  ليس هو الفعل بل رد الفعل..

هل كان يمكن أن يحدث في مصر -على سبيل المثال – ما يحدث الآن لو أن التيار الرئيسي الوطني كان يقوده علماء من نوع الشيخ محمد الغزالي والشيخ يوسف القرضاوي  والشيخ جاد الحق..

بل إنه يمكننا أن نطرح السؤال بصورة أخرى لنقول: أليس طبيعيا هذا التشرذم مادام أمثال الشيوخ الرسميين الحاليين يتصدرون الساحة الدينية؟!

***

يقول شيخنا الجليل:

لقد تبنينا في هذا الكتاب - كما في كل كتبنا وبحوثنا - المنهج الذي وفقنا الله إلى اختياره وترجيحه في الدعوة والتعليم والإفتاء والبحث والإصلاح والتجديد، وهو: منهج الوسطية والاعتدال ....

ومن معالم هذا المنهج في الفقه والفَهم والاجتهاد: أن نجدِّد الدين من داخله، وأن نجتهد لحياتنا وعصرنا، كما اجتهد أئمتنا السابقون لحياتهم وعصرهم، وأن نستمدَّ من حيث استمدُّوا، وأن نفهم النصوص الجزئية في إطار المقاصد الكلية وأن نردَّ المتشابهات إلى المُحكمات، والظنيات إلى القطعيات، والجزئيات إلى الكليات، وأن نشدِّد في الأصول ونيسِّر في الفروع، وأن نلائم بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر، وأن نصل النقل الصحيح بالعقل الصريح، وألا نتعصَّب لرأي قديم، ولا نتعبَّد لفكر جديد، وأن نتمسك بثبات الأهداف، ومرونة الوسائل، وأن ننتفع بكل قديم نافع، كما نرحب بكل جديد صالح، وأن نستلهم الماضي، ونعايش الحاضر.ونستشرف المستقبل، وأن نلتمس الحكمة من أيِّ وعاء خرجت، وأن نعرض ما عند غيرنا من منجزات على ما عندنا من قِيَم، فنأخذ ما يوافقنا، ونَدَع ما لا ينفعنا ... الخ.

لا نختلف مع الشيخ أبدا.. لكننا نتساءل: هل هذه هي القضية الفقهية الملحة؟ هل النقص في الفقه النظري هو سبب الانهيار.. أم أن خلل الواقع هو السبب؟..

يقول الشيخ إن فهم الواقع وتصوره تصورا صحيحا هو أساس الفتوى الصحيحة..

وربما يكون هذا هو الباب الواسع الذي أستطيع المرور منه.. فلا أحد منا يستطيع مقارعة الشيخ في الفقه لكننا نستطيع الاختلاف معه في فهم الواقع.

إن الشيخ نفسه يعلمنا بمنهجه التطبيقي ألا نهاب تخطئة الكبار.. انظروا إليه مثلا وهو يخطئ الألباني وهو من هو:

.." فمثلا هناك في موضوع فلسطين بعض الآراء الشاذة، مثل قول الشيخ الألباني بوجوب هجرة أهل فلسطين من أراضيهم والسياحة في العالم بسبب الظلم الواقع عليهم من اليهود في أرضهم مستشهدا بالآية: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا"، وهذا رأي شاذ لا ينسحب على وضع أهل فلسطين، فالأرض أرضهم من قديم الأزل، وقد استولى اليهود عليها، ومن ثم يجب الثبات في الأرض والمقاومة بشتى السبل، حتى ولو تحولت الأرض كلها لمقبرة لا يخرج منها أبدا.

وأنا أعتقد أن مثل هذه الفتاوى نابعة عن سوء فهم للواقع، ومن ثم تصويره على غير حقيقته، وإذا أسقطنا الأمر على قضية الصلح مع إسرائيل، فالواقع يقول إن الصلح وتوقيع الاتفاقيات معها يعد اعترافا ضمنيا بشرعية احتلالها لأراضي المسلمين، والصلح أيضا يقضي على حقنا في المطالبة باسترداد هذه الأراضي، وهو أمر لا يجوز شرعا."

بل إن الشيخ نفسه-جزاه الله خيرا يشير إلى بعض أوجه النقص في كتابه فيقول:

"وأعتقد أن جزءًا من اللبس واللغط في فهم كتابي "الجهاد" جاء بسبب عدم تفصيلي لمسألة الصلح مع إسرائيل شرعا، والمناقشات المعمقة التي قمت بها مع إخواني العلماء في تلك القضية، فهي التي كانت ستحرر المسألة فقهيا على الوجه الأمثل، ولكني اكتفيت بإشارات بسيطة على عدم جواز الصلح مع إسرائيل، ولذلك قررت أن أضع هذه المسألة تفصيليا والمناقشات المتعلقة بها في ملاحق تصدر مع الكتاب في طبعته الثانية بإذن الله؛ لأن التغيير في المتن قد يفرز مشكلا آخر."

ولقد كان الشيخ بذلك يرد على ما ادعته "المصري اليوم"زورا وبهتانا من أنه يستثني الدول الموقعة على اتفاقات مع إسرائيل من تحرير فلسطين.

ويستطرد الشيخ قائلا:

والإسلام يوجب التضامن للدفاع عن أرض الإسلام، ويعتبر ذلك من أقدس أنواع الجهاد، كما يعد من قتل في ذلك شهيدا، وإذا هجم العدو على بلد من بلاد المسلمين، أو خِيف هجومه، وبدت بوادره وهذه الحالة تُسمَّى (النفير العام)، وهو: أن يُحتاج إلى جميع المسلمين عند دخول الكفار واحتلالهم لأرض إسلامية، أو تهديدهم لها -وتوقع خطرهم عليها- فلا يكتفي ببعض المسلمين من أهل هذا البلد عن الآخرين، بل يهبُّون جميعا لمقاومة الغزو، بحسب الإمكان، كل بما يقدر عليه، ولا يجوز لقادر التخلُّف عن المشاركة في المقاومة.

***

سوف أسلم تماما عن رضا واقتناع بقيمة الجهاد المدني – وهو مصطلح كان الشيخ هو أول من صكه-.. لكن.. هل يسمح الواقع بهذا الجهاد المدني؟

سوف أقتنع تماما بأن خطبة الجمعة من أهم وسائل التثقيف وتعليم الناس دينهم ومجاهدة الحاكم الظالم..

لكن ..

أي خطبة جمعة؟

التي تكتب في مقار الأمن..

الخطب التي تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف وتشهر بالمجاهدين وتجرم الجهاد؟

لقد هتفت في نفسي مرة وأنا أستمع إلى خطبة الجمعة:

- الحمد لله أنني لست فقيها وإلا لأفتيت للناس بإلغاء ركن الخطبة من صلاة الجمعة..

ولم أملك بعد شجاعة شيخنا الكبير محمد متولي الشعراوي الذي قرر ذات مرة مغادرة المسجد أثناء الخطبة والاكتفاء بصلاة الظهر.

الفتوى صحيحة تماما.. لكن الواقع مختلف جدا.

هل تعلم يا شيخنا ماذا يفعلون بشيوخ المساجد الذين لا يتبعون تعليمات الأمن؟

إنهم يعذبونهم تعذيبا شديدا..

بل لقد نشرت الصحف عمن اشتكى منهم من هتك عرضه.

أنت تعرف يا شيخنا ما فعلوه