عوني فارس*

يبدو أنَّ اشتداد حملة الانتقادات التي وُجِّهت للشيخ القرضاوي في الأيام القليلة الماضية على خلفية مواقفه من بعض الملفات الساخنة في المنطقة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية لم تؤد إلاَّ إلى تسليط المزيد من الضوء على مدرسته الفكرية وحضورها المؤثر في الشأن العام سواءً على مستوى المنطقة أو العالم. وقد أثار نقده مؤخرًا بناء مصر لجدار فولاذي على حدودها مع قطاع غزة امتعاض الساسة المصريين ومن والاهم، في حين لم تتحمل السلطة الفلسطينية معارضته لتوجهاتها السياسية وكلماته القاسية بحق نهجها التفاوضي وموقفها من المصالحة الداخلية والحصار المفروض على غزة، فشنَّت حملةً إعلاميةً غير مسبوقة للنيل منه والتشهير به، شملت الصحف والقنوات التلفزيونية والإذاعية التابعة لها.

موجة الانتقادات الجديدة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، ففتاوى الشيخ وتصريحاته غالبًا ما تُحدثُ حراكا في مياه السياسة العربية الراكدة، وتترك أثرا يتجاوز حيثيات وظروف الفتوى ومكان وزمان إصدارها. وهو لم يسلم حتى من داخل الصف الإسلامي، إذ تعرض على مدار عشرات السنوات لحملاتِ نقدٍ لاذعةٍ تصل حد الفسق والتكفير سواء من جماعات 'الغلو الديني' أو تلك التي تدور في فلك النظم العربية الرسمية.

ورغم عبثية المطالبة بوقف موجات النقد المتلاحقة للقرضاوي ومنهجه 'الوسطي'، لأنَّ من حق الجميع إبداء الرأي بما يقوله الشيخ، بالتأييد أو المعارضة، فهو ليس معصوماً ولم يدَّع أنّه لا ينطق عن الهوى، فإنَّ ما يثير الشكوك ويدعو للاستهجان تمترس غالبية مخالفيه خلف منطق الفذلكة الكلامية والانتقائية المقصودة على قاعدة 'ولا تقربوا الصلاة'، والرغبة في الدفاع عن المواقف المعاكسة له مهما كانت متهاوية ولا تصمد أمام الدليل، وحتى لو كانت بميزان العقل وحسابات الواقع مضرة بمصالح المنطقة وشعوبها.

وبدل أن يهرع المعارضون للشيخ نحو البرهان لإثبات صحة ما يدعون، نراهم يعتمدون على ما أوتوا من سحر البيان للتدليل على صواب كلامهم، كأن الغلبة في ساحات الفكر وميادين الفتوى لمن هو لحن في الكلام وليس لأصحاب الحجة الدامغة.

لنأخذ مثالاً حيًا على منطق ناقدي القرضاوي، فنرى مقدار عجزهم عن محاججة الرجل نظرًا لضعف أدلتهم واعتمادهم على المواقف المسبقة التي ترفض رأيه حتى قبل أن يفصح عنه. فقد نُُشرت مقالة للدكتور خالد الحروب في صحيفة 'الإتحاد' الإماراتية بتاريخ 27/12/2009 تحت عنوان القرضاوي وأعياد الميلاد، قدَّم فيها- في سابقةٍ أحسبها لن تتكرر- مقاربة عدائية للقرضاوي وفكره، خلت مما عوَّدنا عليه من رفعٍ لشأن المنطق والدليل في مواجهة خصوم الفكر، مما شكّل صدمةً لكثيرين أعجبوا بالحروب الحر والعقلاني صاحب القلم الناضج.

لم تأت الصدمة من تباين الحروب مع مدرسة الوسطية الإسلامية ولا من موقفه الناقد لرأي الشيخ القرضاوي المعارض لانتشار ظاهرة احتفال المسلمين بأعياد الميلاد المجيد في قطر وغيرها من الدول المجاورة، فهذا حقه الذي لا ينازعه فيه أحد، لكن مبعث الغرابة والاستهجان تمثل فيما ساقه الحروب من دلائل لدعم مقاربته الأخيرة.

لقد بنى الحروب جملة من الافتراضات حول فكر القرضاوي بدت كنوع من تسجيل المواقف واغتنام الفرص للتأكيد على قطيعته مع الإسلاميين بما فيهم التيار المعتدل الذي يمثله الشيخ، أكثر من كونها محاججة عقلية تنتقد جوهر الخطاب الفكري الذي خطَّه القرضاوي عبر سنوات طويلة من البحث والدراسة. ويمكن إجمال قصور مقاربة الحروب الأخيرة بما يلي:

افتتح الحروب مقالته بالتعبير عن عدم رضاه لما جاء في الكتاب الأخير بالانكليزية عن حياة الشيخ القرضاوي 'المفتي العالمي: ظاهرة يوسف القرضاوي' متهمًا الشيخ بتبني نظرة 'إزدرائية للآخر الديني'، ومدعيًا أنَّ تراثه الفكري والثقافي يزخر بتعبيرات تستخف بالمسيحية والمسيحيين، على الرغم من أنَّ المتابعة الدقيقة لأدبيات القرضاوي، وهي في متناول الجميع، وخصوصًا فيما يتعلق بنظرته للآخر الديني تشير بما لا يدع مجالاً للشك بأنَّه يحمل نظرة إحترام وتقدير للآخر ويدعو إلى التعايش معه ومحاورته على قاعدة ' لا إكراه في الدين' و 'قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين'...إلخ.

زاوج الحروب بين موقف القرضاوي الداعي إلى وقف حالة الانبهار بالآخر الديني التي تعتري المسلمين في الدوحة وغيرها من مدن الجزيرة وموقف اليمين الأوروبي المتطرف المعادي للاقليات والمتجاوز بنظرته المتشددة قيم التسامح الحداثية التي لطالما تغنَّت بها المجتمعات الأوروبية. ومرة أخرى لا ندري كيف توصل الحروب لهذا الاستنتاج. فخطبة القرضاوي، بعكس استنتاجات الحروب، لم تحذِّر من محاولات 'مسيحية' لتغيير الطابع الإسلامي للمجتمعات المسلمة، ولم تدع إلى تقييد حرية المسيحيين في البلاد العربية والإسلامية بمنعهم من ممارسة حقهم في إقامة شعائرهم التعبدية والاحتفال بأعيادهم الدينية، بل دعت المسلمين إلى الاحتفاظ بتمايزهم الديني. ويحق لنا هنا أن نسأل الحروب هل يا ترى دعا الشيخ إلى تجريم المسيحيين في بلادنا لمجرد أنَّهم يضعون الصلبان في أعناقهم ؟! أم تراه أفتى بإزالة منارات الكنائس في بلادنا؟! أم أنّه دعا إلى إعادة النظر بالاعتراف بالمسيحية كديانة، وما يترتب على ذلك من تشريعات وقوانين تنتقص من حقوق المسيحيين في البلاد العربية والمسلمة؟!

إنَّ انتقاد القرضاوي لحالة الاستلاب الحضاري والتشويه الثقافي التي تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية في ظرف عصيب اشتد فيه التغول الغربي العسكري والسياسي في البلدان العربية والإسلامية، وبدت آثاره الاجتماعية ظاهرة في موجة تغريب غير مسبوقة تشهدها مدن الجزيرة العربية، لا تنطوي عليها - كما يخشى الحروب- أي دعوة للانغلاق على الذات أو تدمير التنوع الثقافي والديني الذي تعيشه منطقتنا منذ مئات السنين، بل تأتي منسجمة مع المحاولات العربية والمسلمة الرامية لمقاومة حالة الارتهان للآخر الاستعماري.

إنَّ الرجوع إلى فتاوى الشيخ القرضاوي فيما يتعلق بموقف المسلم من الآخر الديني، تعكس تسامحًا مع غير المسلمين في المجتمعات المسلمة، يتجاوز حدود الفهم السلفي - من السلفية وليس السلف- للعلاقات داخل المجتمع المسلم، وهي دعوة صريحة لتحريم إقصائهم عن الحيز العام بل وتشجيع حضورهم المؤثر في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولعل مما يدلل على ذلك فتاوى القرضاوي الكثيرة في هذا الصدد، أمّا فيما يتعلق بأعياد غير المسلمين، فقد أفتى في غير مرة ليس فقط بضرورة توفير الأجواء المناسبة ليقوم المسيحيون بممارسة طقوسهم الاحتفالية بل وأجاز مشاركة المسلم لهم فرحتهم في العيد. على خلاف ما راج في الجزيرة وغيرها من ديار المسلمين من فتوى للشيخ ابن تيمية تحرِّم ذلك.

اعتماد صاحب المقال في استنتاجاته على تغطيات الصحف لمحتوى خطبة القرضاوي، تعكس استعجالاً غير مـبرر، وانفعالية لم نعهدها في الحروب. وكان حري به- وحتى لا يقع في شرك التأويلات والانتقائية والمواقف المحسومة سلفًا والمدفوعة الثمن التي تزخر بهــا العـديد من الصحف- أن يرجع إلى الخطبة نفسها، ليكتشف هشاشة ادعاءاته.

ويبدو أنَّ الشيخ القرضاوي- أطال الله في عمره- سيكون حاله حال العديد من علماء الأمة الكبار الذين أَثْرت أدبياتهم حراكًا فكريًا وشكَّلت مصدر إلهامٍ للعديد من حركات التغيير السياسي والإجتماعي في العالمين العربي والإسلامي، ليس فقط في حياتهم بل بعد سنوات طويلة من مغادرتهم الدنيا.

........

* كاتب فلسطيني، عن صحيفة القدس العربي.