د. يوسف القرضاوي

هناك أناس يعيشون في الدنيا ويموتون ولا يُحسّ بهم أحد؛ لأنهم لم يفعلوا شيئا في حياة الناس يجعلهم يشعرون بوجودهم.

وهناك آخرون يعيشون ويتركون وراءهم صخبا وضجيجا، وغبرة ترهقها قترة، هناك من يُطبّل لهم ويزمّر، ومن يرقص لهم ويغني، ومن يمدح ويثني، ولكن هذا كله كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.

وهناك آخرون ممن رزقهم الله الهداية والتوفيق، يتعلمون فيعلمون، ويعلمون فيعملون، ويعملون فيخلصون، ويُخلصون فيُقبلون، يعملون لإنهاض أمتهم من كبوتها، ولتعليمها بعد جهالتها، ولتنبيهها بعد غفلتها، ولتوحدها بعد فرقتها، مهمتهم أن يبنوا لا أن يهدموا، وأن يجمعوا لا أن يفرقوا، وأن يُحيوا لا أن يميتوا، وأن يُوقظوا لا أن يُنوّموا.

هؤلاء ليس همّهم الضجيج، ولكن العمل، وليس همهم الدويّ، ولكن الإصابة، وليس غايتهم إرضاء الناس، ولكن إرضاء الله، فهم يحبون العمل في صمت، والقول في حكمة، والجدال بالتي هي أحسن.

يقول أحدهم: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[الأحقاف:15].

هؤلاء ممن ادّخرهم الله من خلقه، لمقاومة المرتدّين، ومجاهدة المارقين، الذين يضمرون الشرّ للإسلام وأمته، ممن قال الله فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم} [المائدة:54].

ومن هؤلاء: الأخ الحبيب العالم الجليل، الباحث الدؤوب، الداعية الصادق، المربّي المعلم، القائد الميدانيّ، والزعيم السياسيّ، الجادّ الذي لا يهزل، والصادق الذي لا يكذب، والمؤتمَن الذي لا يخون، والمخلص الذي لا يُزيّف، والواعد الذي لا يُخلف، والمعاهد الذي لا يغدر، والمخاصم الذي لا يفجر، والوسطيّ الذي لا ينحرف، الشيخ فيصل مولوي.

إنه ممن قال الله فيهم: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181].

وممن وكلهم بتبليغ دعوته، إذ قال: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}[الأنعام:89].

ومن (الطائفة المنصورة) التي صحّتْ بها الأحاديث، التي ادّخرها الله في آخر الزمان؛ ليهدوا الناس إذا ضلّوا، ويستقيموا بالناس إذا اعوجّوا، وليرتقوا بهم إذا انحطّوا.

وهم من (الخلف العدول) الذي عدّلهم رسول الله في حديثه الذي صححه الإمام أحمد وقوّاه ابن القيم: "يحمل هذا الدين من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين" رواه البيهقي وغيره.

من حق أخي الشيخ فيصل أن أشارك في تأبينه، وأن أتحدث عنه، وإن لم تمكني الظروف أن أحضر بنفسي.

وذلك لأسباب ثلاثة تلزمني أن أكتب عن الشيخ رحمه الله.

أولها: للصحبة الطويلة فيما بيننا، والتي بلغت سبعا أربعين سنة، منذ زيارتي الثانية إلى لبنان سنة 1965م ، وكان ما يزال شابا وقتها، يكتب بعض الفتاوى في مجلة الشهاب اللبنانية، وكان يعمل في الجماعة الإسلامية، المنبثقة عن الإخوان، ومعه الأستاذان فتحي يكن، وإبراهيم المصري، وغيرهما.

وثانيها: لما للشيخ من مكانة وأثر كبيرين في لبنان خاصة والعالم الإسلامي عامة، بل في الجاليات المسلمة في أوربا.

ثالثها: لأني لم أتمكن من نعيه والحديث عنه وقت وفاته، لما للوعكة الصحية التي أصابتني وقتها، وعزلتني عن العالم كله، فلم أكن وقتها أرقى منبرا، ولا اتصل بصحيفة ولا قناة، لأقول قولا، أو أكتب سطرا. ونبّه عليَّ الأطباء الذين أشرفوا على علاجي، أن أترك السياسة ومتاعبها وآلامها، وأن أحيا بعيدا عنها وعن الناس ما استطعت، حتى تعود إلي عافيتي، وكان من ضمن ما حدث وقتها وفاة أخينا العالم الإسلامي الكبير الشيخ فيصل مولوي في لبنان رحمه الله، وخشي تلاميذي وإخواني وأبنائي من أثر الخبر عليَّ، لما يعرفون من مكانة للشيخ مولوي في قلبي، فأجَّلوا الخبر إلى حين، حتى عرفته مصادفة من بعض زوّاري، بعد عدة أسابيع.

الشيخ فيصل مولوي العالم العامل، الداعية المفكر، المستشار القاضي الفقيه، رجل لبنان والعالم الإسلامي، ابن الحركة الإسلامية، وأحد كبار رجالات أهل السنة بلبنان، سمح الوجه، حسن الخلق، عذب الحديث، حلو المعاشرة، حبيب إلى كل من عرفه، عزيز علي كل من التقاه، لم اسمعه طوال حياتي يسب أحدا، أو يؤذي أحدا.

بعض الناس لا يعرف الناس قدرهم إلّا حين يُتوفون، ولكنا نعرف قدر الشيخ مولوي وهو حي بيننا، وذلك للمهام الكبيرة التي يضطلع بها، والتي كنا نوكل له كثيرا منها، فيقوم بها خير قيام، في إخلاص وتفان كبيرين. وما اجتمعنا مرة بعد أن أصابه المرض إلا وذكرناه، ودعونا الله له بالشفاء والعافية.

لقد شاركنا الشيخ مولوي من أول يوم في تأسيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وحضر الجلسة التأسيسية، وتولى أمانة المال (أمانة الصندوق)، وكان عضوا بمجلس أمناء الاتحاد ومكتبه التنفيذي، ورئيسا لفرعه في بيروت، إلى أن توفي رحمه الله.

وكذلك كان قد ساهم في تأسيس المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، وكان نائبي فيه منذ إنشائه وحتى وفاته، وكثيرا ما رأس أو شارك في لجنة الصياغة التي لخصت دائما ما قام به المجلس وما أوصى به أبناء الأمة، وذلك لما له من اهتمام بقضايا المسلمين في الغرب، فقد سبق أن أقام منذ سنة 1980 حتى 1985م في فرنسا وأسس اتحاد الطلبة المسلمين، ثم اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا، وأنشأ الكلية الأوروبية للدراسات الإسلامية، وكم تلاقينا في مجلسها العلمي، ووضعنا مناهجها، واخترنا لها افضل ما وجدناه وما اقترحناه، حتى قامت على قدميها، وخرّجتْ مَنْ خرّجتْ من أبنائها.

وأصبح مرشدا دينيا لاتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا ثم في أوروبا منذ سنة 1986م وبقي على تواصل مع أكثر المراكز الإسلامية في أوروبا حتى وفاته، وله عدد من البحوث العلمية الأصيلة، تناقش قضايا المسلمين في الغرب.

وكان رحمه الله مهتما بقضايا المقاومة، وكيف لا وهو الابن البكر للدعوة الإسلامية العالمية، وابن لبنان، إحدى دول الجوار مع إسرائيل، والتي عانت من احتلال الصهاينة حينا من الدهر، ولذلك كان مهتما أكثر من غيره بقضية فلسطين والقدس والمقاومة، وحين اسسنا في بيروت مؤسسة القدس الدولية سنة 1994م واختارني الإخوة رئيسا لمجلس أمنائها، اخترنا بالإجماع الشيخ فيصل مولوي رئيسا لمجلس الإدارة. ورأس مجلس إدارة مؤسسة القدس الدولية لأكثر من دورة.

وكان عضوا مرموقا في المؤتمر القومي الإسلامي، الذي اسهم في تأسيسه في بيروت.

وحين أصدر الشيخ ابن جبرين في السعودية فتوى أثناء حرب تموز من العام 2006، بعدم نصرة (حزب الله) في حربه مع إسرائيل، اصدرنا يومها فتوانا المعروفة، كما أصدر يومها الشيخ فيصل مولوي رداً مفصلاً على فتواه.

لم يكن الشيخ عالما دينيا فقط، بل كان زعيما سياسيا، وقائدا ميدانيا، فهو أمين عام الجماعة الإسلامية في لبنان، وكانت لبنان في كثير من الأحيان بوجود الشيخ فيصل مولوي ملاذنا نعقد فيها اجتماعات مجلس أمناء الاتحاد، واجتماعات المكتب التنفيذي، ويشرف على ترتيبات اللقاء الشيخ فيصل بنفسه ويتابعها بكل كفاءة وإتقان وإخلاص، ولاسيما أن لديه عددا من الدعاة الأقوياء الأمناء، القادرين على القيام بالواجبات في ساعات الشدة.

وما دعوناه إلى اجتماع للاتحاد، أو للمجلس الأوربي للإفتاء إلا كان من أول من يلبى. شارك في وفد الاتحاد الذي ذهب إلى الخرطوم من اجل تجميع الشعب في قضية دارفور، والتقى بالطوائف المختلفة، وذهب معنا إلى مدينة الفاشر عاصمة دارفور.

وله مشاركته في الهيئة الخيرية الإسلامية العامة بالكويت، وكم حضر جمعيتها العامة، وكان له نشاطه وإسهاماته فيها.

وللشيخ مكانة ودور في دعوة الإخوان المسلمين العالمية، فهو عضو مجلس شوراها، وهو من رجالها المعروفين، وعلمائها المعدودين، وله آراؤه السديدة، وأفكاره القيمة، التي تتسم بالواقعية والاعتدال.

وشارك الشيخ فيما سماه الإخوة بقطر "ملتقى الإمام القرضاوي"، وألقى كلمة في الجلسة الافتتاحية أثنى فيها على الفقير إليه تعالى،، وهذا من تواضعه قائلا: "إن القرضاوي يستحق أن يكون قائد ركب الأمة الإسلامية؛ لما يتميز به من العلم والعمل والإخلاص للإسلام والمسلمين".

وشارك ببحث في الكتاب التذكاري الذي صدر من جامعة قطر بمناسبة بلوغي سن السبعين ببحث (القرضاوي والمؤتمرات الإسلامية) للشيخ فيصل أنور مولوي.

وشارك في مؤتمر علماء المسلمين لنصرة شعب فلسطين 2006م، والذي دعوت إليه في الدوحة عام 2006م، عند العدوان على غزة.

وله كثير من الكتب والبحوث النافعة الرصينة، التي استفاد منها الكثير من أبناء الإسلام، وأبناء الدعوة

أسأل الله أن يرحمه برحمته الواسعة، وأن يجزيه خيرا عن الإسلام وأهله، وأن يبارك في أهله وأولاده، وأن يخلفنا فيه خيرا.