د. يوسف القرضاوي
ليس بمجتمع مسلم ذلك الذي تسوده مشاعر الحقد الطبقي, لأن هذا الحقد إما أن يكون نتيجة تظالم اجتماعي وبغى بعض الناس على بعض, وهذا لا يقر الإسلام وجوده في مجتمعه, وإما أن يكون نتيجة لعوامل خارجية تعمل على تقسيم المجتمع تقسيما طبقيا, وتؤجج نار الصراع بين طوائفه وفئاته, فالعمال والفلاحون فئة أو طبقة مدللة في الظاهر, وان تكن في الواقع أداة تستخدم لأغراض شيطانية خبيثة.. وأما سائر الفئات من الملاك والتجار والمثقفين والطلاب وأصحاب الوظائف والأعمال المختلفة , فهم الفئات ( البرجوازية ) المغضوب عليها والتي تعيش في الدرجة الثانية, إن سمح لها بالبقاء وهذا كله لا يقره الإسلام أيضاً, فالإسلام يسمى الحسد والبغضاء:
(داء الأمم)، يقول عن البغضاء: (إنها الحالقة, لا تحلق الشعر ولكن تحلق الدين)! وليس بمجتمع مسلم ذلك الذي تتقدم فيه العصبية الوطنية, أو القومية على الأخوة الإسلامية, حتى يقول المسلم: وطني قبل ديني, أو يقول المسلم العربي:
عروبتي قبل إسلامي, أو يقول المسلم الهندي أو الفارسي, أو النيجيري, أو الصومالي: قوميتي قبل عقيدتي، ويبلغ الأمر ببعض الناس أن يجعلوا مثلهم الأعلى قول الشاعر القروي:
بلادك قدمها على كل ملة ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم
هبوني ديناً يمنح العرب وحدة وسبروا بجثماني على دين ( برهم )
سلام على كفر يوحد بيننا وأهلا وسهلا بعده بجهنم !
فالأخوة الإسلامية فوق العصبيات, ورابطة العقيدة فوق كل الروابط, ودار الإسلام فوق كل الأوطان. ليس بمجتمع مسلم ذلك الذي تتخذ فيه الأوطان والقوميات (أوثان) تعبد من دون الله, تجند لتقديسها الأقلام والألسنة وجميع أجهزة التأثير والتوجيه والإعلام, وتجسد حولها المشاعر والعواطف, ويوجه لها الحب والولاء, إلى درجة العبادة بالفعل, وان لم يعبروا عنها باللفظ.. إنها وثنية من نوع جديد ظهرت في بلدان شتى, ثم انتقل وباؤها وسرت عدواها إلى بلاد الإسلام, حتى لفت ذلك أنظار الباحثين والمراقبين من غير المسلمين: أن تنبعث من أرض التوحيد وثنية من طراز جديد. وليس بمجتمع مسلم ذلك الذي يعادى المسلمين، ويوالى أعدا ء الإسلام، أو يستوي بين المسلمين والمشركين أو الملحدين في المعاملة, فمشاعر الولاء للإسلام وأهله هي التي تقود المجتمع المسلم, وكذلك مشاعر البغض لأعداء الإسلام الذين يكيدون لأهله, ويصدون عن سبيله, فأوثق عرا الإيمان: الحب في الله, والبغض في الله, والولاء لله, والعداوة في الله.
ومن هنا تكرر في القرآن الكريم مثل هذا النداء الإلهي: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبينا) ؟! (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة)، (يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم) , (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أوليا ء بعضهم أولياء بعض , ومن يتولهم منكم فإنه منهم , إن الله لا يهدى القوم الظالمين) ، (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان , ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون).
وهكذا يدمغ القرآن من اتخذوا أعدا ء الله أولياء لهم وأحباء بأنهم منهم، وأنهم ظالمون, وأنهم ضلوا سواء السبيل, وأنهم جعلوا لله عليهم سلطان مبين، كما جعل ذلك في آية أخرى من صفات المنافقين: (بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليما، و الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين, أيبتغون عندهم العزة فإن لله جميعاً). ونفى عنهم الإيمان في آية أخرى فقال: (لا تجد قوماً مؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانكم أو عشيرتهم). وفي آية ثالثة جعلهم ليسوا من الله في شيء، قال تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاةً، ويحذركم الله نفسه، وإلى الله المصير) المجتمع المسلم لا ينظر إلى الناس من خلال الأرض أو اللون, أو العنصر, أو الطبقة, بل من خلال العقيدة بالنسبة للمسلمين، ومن خلال الرابطة الإنسانية بالنسبة لغير المسلمين .
فالولاء لله ولرسوله وللمؤمنين. والبر والقسط لكل الناس ما لم يقاتلوا المسلمين أو يظاهروا عليهم: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم, إن الله يحب المقسطين).
والرحمة لكل مخلوقات الله, حتى البهائم العجماوات, والقطط والكلاب, فلا يجوز الخلط بين الولاء وغيره من البر والرحمة. فتخصص الولاء للمسلمين لا ينفى البر والعدل والرحمة بالآخرين.
يقول برنارد لويس: (فأساس التقسيم عند المسلمين والذي يفرق إنسان عن آخر, ويميز بين الأخ والأجنبي, هو الإيمان, والانتساب أو عدمه إلى أمة الإسلام.. والذي قصدنا بالإيمان عند المسلمين يعنى الدين, ويعنى أيضاً القوة الاجتماعية في الأمة والمقياس الوحيد لهويتها, والبؤرة التي يتجمع حولها ولاء الجماعة. ففي المجتمع الإسلامي العالمي كل مسلم أخ لكل مسلم آخر (على الأقل نظرياً) مهما كانت لغته واصله وسلالته وبلاده, فهو أقرب له من مواطنه الذي قد يتكلم لغته وينحدر من نفس سلالته، ولكنه لا يدين بنفس عقيدته، حتى إن المسلم المؤمن يرفض أي صلة بأسلافه القدامى في العهود الجاهلية، لأنه لا يحس أن بينه وبينهم أي رابطة من هوية عقائدية أو صلة روحية، وإهمال المسلمين لعلم الآثار وعدم اهتمامهم به في الشرق الأوسط المسلم، لا يعني أن المسلمين جهلة برابرة، لا يستطيعون فهم أهمية هذه الأشياء..كلا.. فعلى العكس من ذلك أنهم قوم حضارة سامية. وإحساس قوي مرهف بالتاريخ ومكانتهم، إلا أن تاريخ المسلمين بدأ بظهور الإسلام وسلفهم الصالح هم أوائل المسلمين عند قبلة الإسلام، في قلب جزيرة العرب، فقدماء المصريين من المشركين والبابليون وغيرهم من الشعوب القديمة، هم غرباء أجانب عنهم، على الرغم من الصلة الوطنية في الدم والتراب.)
ــــ
- عن كتاب "ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده" لفضيلة الشيخ.