السؤال: سماحة شيخنا العلامة الفقيه الداعية الدكتور يوسف القرضاوي        حفظه الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

(وبعد)

نريد من سماحتكم إلقاء الضوء على معنى (المصلحة) التي يسمُّونها (المرسلة)، وهل يُعتمد عليها في التشريع والفتوى والقضاء؟

وما الشروط الواجب توافرها ليُعمل بها؟ فقد اتَّهم بعضُ الحداثيين الشريعةَ الإسلامية بأنها (جامدة) ولا تعمل إلا (بالنصِّ)، ولا تراعي مصالح الخلق التي تتغيَّر وتتطوَّر باستمرار، ولا تعنى بما يصيب الإنسان من أذى أو ضرر إذا طُبِّقت الأحكام المنصوصة في كتب الفقه. وهو ما نعتقد عكسه، وإن كنا لا نملك بثقافتنا الشرعية المحدودة أن ندلِّل عليه.

كلُّ ما نؤمن به أن الله سبحانه عليم حكيم، وأنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها، فكيف لا يضع في أيديهم من القواعد والمفاتيح الشرعية ما يُهيِّء لهم أسباب السعادة والنمو والترقِّي؟

نرجوكم بيان هذا الأمر بما رزقكم الله من سَعة العلم، ودقَّة الفهم، وحسن البيان، ومعرفة النصوص والمقاصد، مع معرفة الواقع.

شكر الله لكم، وجزاكم الله خيرا. م. ح. ك

الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن اتَّبع هداه.

(وبعد)

فهذا السؤال يتعلَّق بقضية أصولية كبيرة، تحتاج إلى بيان وتفصيل، لما لها من عظيم الخطر، وكبير الأثر، في إحياء الاجتهاد، وتطوير الفقه، واكتمال البنيان التشريعي على أساس من الشريعة الإسلامية الغرَّاء.

وتكاد تضيع الحقيقة في هذه القضية الحية بين المختلفين فيها، وهي جلية واضحة، والحمد لله. وقد فصَّلنا القول فيها في كتابنا (السياسة الشرعية بين نصوص الشريعة ومقاصدها)، ونوصي المسلم المهتم بضرورة الرجوع إليه.

تعريف المصلحة المرسلة

والمصلحة المرسلة كلمة مركَّبة من موصوف وصفة: فالموصوف هو المصلحة، والصفة هي المرسلة.

ومعنى (المصلحة): كلُّ مافيه صلاح ونفع للخلق في دنياهم أو في دينهم، وبتعبير الفقهاء: في معاشهم أو في معادهم، سواء كانت مصلحة فردية أم جماعية، مادية أم معنوية، آنية أم مستقبلية.

ومعنى (المرسلة): أي المطلقة غير المقيَّدة، ونعني بها: المصلحة التي لم يدل دليل خاصٌّ من نصوص الشرع على اعتبارها ولا على إلغائها[1]. فهي مطلقة من الاعتبار أو الإلغاء.

وإنما قام الدليل، بل الأدلَّة العامة على أن الشرع يراعي مصالح الخلق، ويقصد إليها في كلِّ ما شرع من أحكام، كما يقصد رفع الضرر والفساد عنهم، ماديًّا كان أو رُوحيًّا، واقعا كان أو متوقَّعا.

عُرف هذا بتتبُّع تعليلات الشرع في نصوصه، وباستقراء أحكامه الجزئية.

والفقهاء والأئمة مختلفون في الاحتجاج بالمصلحة المرسلة، واعتبارها دليلا شرعيا، يُبنى عليها الحكم فى الفتوي أو القضاء أو التشريع.

وأكثر الأئمة أخذا بهذا هو الإمام مالك رضي الله عنه، وأصحابه وأتباع مذهبه.

ثم الحنابلة أيضا أكثروا من الأخذ بالمصالح واعتبارها، كما يبدو ذلك في التراث الفقه الحنبلي، وخصوصا عند الإمامين ابن تيمية وابن القيم، وإن لم يسمِّياها (مصلحة مرسلة). ثم يأتي بعد ذلك الحنفية، وإن كان الشائع في كتبهم الأخذ بالاستحسان، وهو لون من اعتبار المصالح.

وأضيق المذاهب في الأخذ بالمصلحة هو مذهب الشافعية، وإن لم يخلُ من القول أو التعليل بها في بعض المسائل.

الغزالي والمصلحة:

ولعل الإمام الغزالي- وهو شافعي - هو أول أصولي خصَّ (الاستصلاح) أو (المصلحة المرسلة) بحديث مفصَّل وذلك في كتابه (المستصفى) فعرَّف المصلحة وأنواعها ومستوياتها، وموقف العلماء منها، على الرغم من اعتبارها عنده من (الأصول الموهومة)، مثل الاستحسان، وقول الصحابي، وشرع مَن قبلنا.

ملاحظتان حول تعريف الغزالي للمصلحة:

حاول الغزالي أن يضع ضابطا شرعيا مهمًّا للمصلحة، يحدِّد معناها، وقد أحسن في ذلك، فلم يكتفِ بمعناها اللغوي، بل ربطها بـ(المحافظة على مقصود الشرع)، وبيَّن أن مقصود الشرع هو حفظ الكليَّات الخمس، فكلُّ ما يتضمَّن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة. وحفظ هذه الخمسة واقع في رتبة الضروريات، فهي أقوى المراتب في المصالح.

وهنا نجد أن كلامه يُفهم أن المصلحة مقصورة على حفظ هذه الضوريات الخمس، فأين هذا من موقع الحاجيات والتحسينات حسب تقسيمه نفسه، وكلُّها داخل في المصالح المراعاة شرعا في حياة الناس؟ فهو يريد بهم اليسر، والتخفيف، ودفع الحرج، والهداية إلى أقوم المناهج في الآداب والأخلاق، والنظم والمعاملات، مما يدخل في المصالح الحاجية والتحسينية.

هذه هي الملاحظة الأولى:

أما الملاحظة الثانية، فهي حصر الضروريات في هذه الخمس، وأرى أن هناك ضروريات أخرى راعتها الشريعة وقصدت إليها، مثل حفظ العِرض، وتحقيق الأمن، والعدل، والتكافل، ورعاية الحقوق والحريات العامة، وإقامة أمة وسط.

ولو كان لي أن أضيف إلى تعريف الغزالي للمصلحة، لقلتُ مستخدما أصل عبارته:

نعني بالمصلحة: المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم وعرضهم وأمنهم وحقوقهم وحرياتهم، وإقامة العدل والتكافل في أمة نموذجية، وكل ما ييسِّر عليهم حياتهم، ويرفع الحرج عنهم، ويتمِّم لهم مكارم الأخلاق، ويهديهم إلى التي هي أقوم في الآداب والأعراف والنظم والمعاملات.

وأحسب أن إمامنا الغزالي لا يمانع في هذه الإضافة، فهي تتَّفق مع هدفه في ربط المصلحة بمقاصد الشرع، وما ذكرناه يدخل في ذلك بلا ريب.

تنبيهان آخران:

وهناك تنبيهان آخران ذكرهما الدكتور حسين حامد حسان في رسالته القيِّمة: (نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي):

الأول: أن المصلحة في الأصل - ويعني به العرف أو اللغة - جلب النفع ودفع الضرر، وهذا يتفق مع معنى المصلحة لغة، إذ هي تطلق في اللغة على جلب المنفعة مجازا كما تطلق على المنفعة نفسها حقيقة، ولما كانت المنفعة والمضرَّة نقيضين، كان دفع المضرَّة مصلحة أيضا.

والثاني: أن الغزالي لا يقصد بالمصلحة معناها العرفي، وإنما يقصد بها جلب نفع أو دفع ضرر مقصود للشارع، لا مطلق نفع أو ضرر. ومعنى هذا: أن الناس قد يعدُّون الأمر منفعة وهو في نظر الشارع مفسدة، وبالعكس، فليس هناك تلازم بين المصلحة والمفسدة في عرف الناس، وبينهما في عرف الشارع، أو بعبارة أخرى فإن المصلحة في نظره هي المحافظة على مقاصد الشارع ولو خالفت مقاصد الناس، فإن الأخيرة عند مخالفتها للأولى ليست في الواقع مصالح، بل أهواء وشهوات زيَّنتها النفس، وألبستها العادات والتقاليد ثوب المصالح. فقد كان أهل الجاهلية في العرب يرون المصلحة في وأد البنات، وحرمان الإناث من الإرث، وقتل غير القاتل، وما كانوا يعتقدون أن في شرب الخمر ولعب الميسر واتِّخاذ الأخدان، ونسبة الولد إلى غير أبيه مفسدة.

والقانون الروماني في أوج عظمته، كان يجيز للدائن أن يسترقَّ مدينه في الدين، وإذا كان هناك أكثر من دائن، ولم يوجد مَن يرغب في شراء المدين، فإن القانون أعطى للدائنين حقَّ اقتسام جثَّة المدين! وما كان أحد في روما يرى أن في هذا الحكم مفسدة، حتى جاء الإسلام بمبدئه العادل: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:280].

والقانون الإنجليزي ظلَّ قرابة عشرة قرون يرى أن المصلحة في حرمان الإناث من الميراث، واستقلال الابن الأكبر بالتركة، وأن الميراث كحجر إذا أُلقي ينزل إلى أسفل، ولا يصعد إلى أعلى، ومن ثمَّ فما كانوا يتصوَّرون أن الأصول يأخذون نصيبا من الميراث[2].

ولا زال القانون الأمريكي يرى أن المصلحة في إطلاق حرية الموصي، ولو أدَّى ذلك إلى أن يوصي الشخص بكلِّ ثروته إلى خليلته تاركا ورثته عالة يتكفَّفون الناس؛ ولقد بدأ رجال الفقه والقضاء وعامَّة الشعب يحسُّون الخطورة والمفاسد التي تترتَّب على ترك هذه الحرية دون قيود.

وآخر مثل لعرض الأهواء والشهوات في ثوب المصالح: القانون الذي أقرَّه مجلس العموم واللوردات الإنجليزي، وهو يجعل اللواط عملا مشروعا لا ضرر فيه على الفرد ولا على الجماعة[3].

وكان العرب في الجاهلية يعتبرون من المصلحة المرعية: شرب الخمر، ولعب الميسر، وأكل الربا، والعصبية للقبيلة في الحقِّ والباطل، وحرمان الإناث والصغار من الميراث، وقتل الأولاد من إملاق أو خشية إملاق، واعتبار ميلاد البنت كارثة قد تنتهي بوأدها، ووراثة الرجل امرأة أبيه من بعده ... إلى غير ذلك مما أبطله الإسلام.

من أجل هذا حرص الغزالي رحمه الله على التفرقة في تعريف المصلحة بين مقاصد الخلق ومقاصد الشارع. وقرَّر أن المحافظة على الثانية، وإن خالفت الأولى هي المصلحة الشرعية[4].

اعتبار الصحابة للمصلحة:

وكان الصحابة - وهم أفقه الناس لهذه الشريعة - أكثر الناس استعمالا للمصلحة واستنادا إليها، فهذه المصلحة هي التي جعلت أبا بكر يجمع الصحف المفرَّقة - التي كان القرآن مدوَّنا فيها من قبل - في مصحف واحد، وهو أمر لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا توقَّف فيه أول الأمر، ثم أقدم عليه بنصيحة عمر، لما رأى فيه من خير ومصلحة الإسلام.

وجعلته يستخلف عمر قبل موته مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك.

وهي التي وجَّهت عمر إلى وضع الخراج، وتدوين الدواوين، وتمصير الأمصار، واتِّخاذ السجون، والتعزير بعقوبات شتَّى، مثل إراقة اللبن المغشوش، ومشاطرة الولاة أموالهم إذا تاجروا أثناء ولايتهم. وهي التي جعلته يتَّخذ قرارات يرى المصلحة فيها، مثل: عدم تغيُّب رجل في الجيش أكثر من أربعة أشهر عن أهله، وفرض العطاء لكلِّ مولود في الإسلام، وجعل الشورى في سبعة من كبار الصحابة الذين توفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ.

وهي التي جعلت عثمان يجمع المسلمين على مصحف واحد، ينشره في الآفاق، ويحرق ما عداه، على ملأ من الصحابة وموافقة منهم، ويقضي بميراث زوجة مَن طلَّقها زوجها في مرض الموت فرارا من إرثها.

وهي التي جعلت عليًّا يأمر أبا الأسود الدؤلي بوضع مبادئ علم النحو، بعد أن دخل اللحن في العربية على ألسنة الناس، حين اختلط الأعاجم بالعرب، ويضمِّن الصناع ما يكون بأيديهم من أموال، إذا لم يقدِّموا بيِّنة على أن ما هلك إنما هلك بغير سبب منهم قائلا: (لا يصلح الناس إلا ذاك)[5].

وهي التي استند إليها معاذ بن جبل في أخذ الثياب اليمنية بدل (العين) من زكاة الحبوب والثمار قائلا: ايتوني بخميس أو لبيس (منسوجات محلية) آخذه منكم مكان الذرة والشعير، فإنه أهون عليكم وأنفع للفقراء بالمدينة[6].

واستند إليها معاوية في أخذه مُدَّين (أي نصف صاع) من القمح في زكاة الفطر في مقابل صاع من التمر، وأقرَّه الصحابة الذين كانوا في زمنه ما عدا أبا سعيد الخدري رضي الله عنهم[7].

وهي التي جعلت مَن بعد الراشدين يتَّخذون البريد، ويُعرِّبون الدواوين، ويضربون النقود ... إلى غير ذلك من أعمال الدولة، دون أن يعترض عليهم أحد من الأمة.

مدى اعتبار المصلحة في المذاهب المتبوعة:

وهي التي جعلت الإمام أبا حنيفة يوجب الحجر على المفتي الماجن، (أي المتلاعب بالشريعة)، والطبيب الجاهل، والمكاري (المقاول ونحوه) المفلس، مع أن مذهبه - رضي الله عنه - عدم الحجر على العاقل البالغ وإن كان سفيها، احتراما لآدميته.

ولكن حجر على هؤلاء منعا لضرر الجماهير من الناس[8].

وهي التي جعلت كثيرا من المالكية وغيرهم يفتون بشرعية فرض الضرائب على القادرين إذا اقتضى ذلك الدفاع عن الحوزة، ولم يكن في بيت المال ما يكفي[9].

وجعلت جمهور الفقهاء يقولون بجواز قتل المسلم إذا تترَّس به الكفار، ولم يكن من قتالهم بدٌّ[10].

وأجاز فقهاء الحنفية والشافعية وجماعة من المالكية وبعض الحنابلة: شقَّ بطن الأم بعد موتها لإخراج الجنين، إذا غلب على الظنِّ أنه سيخرج حيًّا، برغم حرمة الميت المرعية شرعا، بل أوجب بعض الفقهاء ذلك، لأنه استبقاء حيٍّ بإتلاف جزء من الميت، وشبَّهه صاحب (المهذَّب) من الشافعية بما لو وقعت مجاعة واضطر إلى أكل جزء من الميت[11]، وذلك لأن حقَّ الحيِّ مقدَّم على حقِّ الميت عند التعارض، ومصلحة إنقاذ حياة الجنين تفوق مفسدة انتهاك حرمه أمه، فيُرتكَب أخفُّ الضررين، ويفوَّت أدنى المصلحتين[12].

اختلاف المذاهب الأربعة في الاستدلال بالمصلحة المرسلة:

ومن الفقهاء مَن أنكر اعتبار (الاستصلاح) أصلا مستقلاًّ يُحتجُّ به، ويُستند إليه في الفتوى والقضاء والتشريع، كالنصِّ والإجماع والقياس، وذلك مثل الإمام الغزالي، الذي اعتبر الاستصلاح من (الأصول الموهومة) على حدِّ تعبيره.

ومع هذا ذكر عددا من المسائل والقضايا مال فيها - أو في أكثرها - إلى القول بالمصالح، وكان المفهوم بعدها أن يُلحق هذا بالأصول الصحيحة ليصير أصلا خاصًّا برأسه.

وقد اعترض بذلك على نفسه ثم أجاب بقوله:

(مَن ظنَّ أنه أصل بنفسه فقد أخطأ، لأنا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع، ومقاصد الشرع تُعرف بالكتاب والسنة والإجماع، فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود، فُهِمَ من الكتاب والسنة والأجماع، وكانت من المصالح الغريبة، التي لا تلائم تصرُّفات الشرع، فهي باطلة مُطَّرحة، ومَن صار إليها فقد شرَّع، كما أنَّ من استحسن فقد شرَّع، وكلُّ مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي، عُلِم كونه مقصودا بالكتاب والسنة والإجماع، فليس خارجا من هذه الأصول، ولكنه لا يسمَّى قياسا، بل مصلحة مرسلة، إذ القياس أصل معيَّن، وكون هذه المعاني مقصودة عُرفت لا بدليل واحد، بل بأدلَّة كثيرة لا حصر لها، أن الكتاب والسنة، وقرائن الأحوال، وتفاريق الأمارات، تسمَّى بذلك: مصلحة مرسلة).

قال: (وإذا فسَّرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فلا وجه للخلاف فيها، بل يجب القطع بكونها حجَّة.

وحيث ذكرنا خلافا، فذلك عند تعارض مصلحتين ومقصودين، عند ذلك يجب ترجيح الأقوى)[13].

القرافي والمصلحة:

وقد شاع أن الاستدلال بالمصلحة المرسلة خاصٌّ بمذهب المالكية، ولكن الإمام شهاب الدين القرافي المالكي (ت684هـ) يقول ردًّا على مَن نقلوا اختصاصها بالمالكية.

(وإذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا أو جمعوا أو فرَّقوا بين المسألتين لا يطلبون شاهدا بالاعتبار لذلك المعنى الذي جمعوا أو فرَّقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة، فهي حينئذ في جميع المذاهب)[14].

وهذا هو التحقيق، فالذي يطالع كتب المذاهب الأخرى يجد فيها عشرات ومئات من المسائل إنما يعلِّلونها بتعليلات مصلحية، وإن كان الحنفية والحنابلة أكثر من الشافعية في ذلك.

ويذكر القرافي: أن إمام الحرمين - عبد الملك بن عبد الله الجويني (ت478هـ) قرَّر في في كتابه المسمَّى بـ(الغياثي) أمورا وجوَّزها وأفتى بها - والمالكية بعيدون عنها - وجسر عليها، وقالها للمصلحة المطلقة، وكذلك الغزالي في (شفاء العليل) مع أن الاثنين شديدا الإنكار علينا - يعني المالكية - في المصلحة المرسلة[15].

وإمام الحرمين والغزالي شافعيان.

تضييق الغزالي في المستصفى:

ولكن الغزالي - كما نقلنا عنه في (المستصفى) - ضيَّق في الأخذ بالمصلحة المرسلة، واشترط لها شروطا صعبة التحقيق وهي:

أن تكون ضرورية:

أي من الضروريات الخمس المعروفة، فإذا كانت في مرتبة الحاجيات أو التتمَّات والتحسينات لا تُعتبر.

أن تكون كُلية:

أي تعم جميع المسلمين، بخلاف ما لو كانت لبعض الناس دون بعض أو في حالة مخصوصة.

أن تكون قطعية أو قريبا من القطعية[16]:

ويبدو للمتأمِّل أن الغزالي لم يشترط هذه الشروط لكلِّ مصلحة، ولكن اشتراطها في المثال الذي ذكره، وهو: تترُّس الأعداء بالمسلمين في الحرب، وإن فَهِم الأكثرون منه أنه شرط عامٌّ لكلِّ المصالح.

قال القرطبي: (هي بهذه القيود لا ينبغي أن يُختلف في اعتبارها، وأما ابن المنيِّر فعدَّ ذلك تحكُّما من قائله)[17].

والذي يظهر من عمل الصحابة رضي الله عنهم، أنهم لم يكونوا يلتزمون هذه الشروط كلَّها، وإنما يراعون المصلحة، وإن كانت جزئية أو حاجية أو ظنية.

فعمر يحكم بطلاق امرأة المفقود بعد مضيِّ أربع سنوات - إما من حين فقده، أو من حين رفع أمرها إلى القضاء - رعاية لمصلحة الزوجة، ورفعا للضرر عنها، وإن لم يثبت موت زوجها، وهي مصلحة جزئية وحاجية وظنية، وقد وافق عمر على ذلك عثمان وعلي وابن عمر وابن عباس وجماعة من التابعين[18].

ويقضي عمر على محمد بن مسلمة الأنصاري بالسماح لجاره - الضحاك بن قيس - أن يسوق نهرا في أرض ابن مسلمة؛ لأن النهر ينفع جاره، ولا يضرُّ محمدا، وقد كان محمد بن مسلمة منع جاره من ذلك، فقال له جاره: أنت تمنعني ما هو لك منفعة؟ تسقي منه أولا وآخرا، ولا يضرُّك، ولما اختصما إلى عمر قال لمحمد: تمنع أخاك ما ينفعه ولا يضرك؟! فأصرَّ محمد على المنع، فقال عمر: والله ليمرَّن به ولو على بطنك! ثم أمر عمر الضحاك أن يمرَّ بنهره في أرض محمد، ففعل[19].

والأمثلة كثيرة على هذا الاتجاه من عمل الصحابة والراشدين.

الشاطبي والمصلحة:

ولهذا لم يشترط الإمام الشاطبي ما اشترطه الإمام الغزالي، وإنما اعتبر أمورا ثلاثة يجب مراعاتها عند الأخذ بالمصلحة وهي:

أن تكون معقولة في ذاتها:

بحيث إذا عُرضت على العقول تلقَّتها بالقَبول، فلا مدخل لها في الأمور التعبُّدية، فإن الأصل فيها أن تُؤخذ بالتسليم.

أن تكون ملائمة لمقاصد الشرع في الجملة:

بحيث لا تُنافي أصلا من أصوله، ولا دليلا من أدلَّته القطعية، بل تكون متَّفقة مع المصالح التي قصد الشرع إلى تحصيلها، بأن تكون متَّفقة مع المصالح التي قصد الشرع إلى تحصيلها، بأن تكون من جنسها أو قريبة منها، ليست غريبة عنها وإن لم يشهد دليل خاصٌّ باعتبارها.

أن ترجع إلى حفظ أمر ضروري، أو رفع حرج لازم في الدين:

فأما مرجعها إلى حفظ الضروري، فهو من باب ما لا يتمُّ الواجب إلا به، فهي إذن من الوسائل لا المقاصد.

وأما رجوعها إلى رفع حرج لازم: فهو إما لاحق بالضروري، وإما الحاجي، الذي مردُّه إلى التخفيف والتيسير[20].

وليس من اللازم أن تكون كلية عامة، فرعاية مصالح الأفراد، والفئات المختلفة، أمر معتبر في الشريعة.

وليس من اللازم أن تكون قطعية، فالعمل بالظنِّ الراجح أمر معمول به في الأحكام الفرعية، وناط به الشرع أمورا كثيرة.

ضرورة أن تكون المصلحة حقيقية:

والأمر المهم الذي ينبغي الالتفات إليه، والاحتياط فيه: أن تكون المصلحة حقيقية لا وهمية، فقد يخيِّل الهوى والشهوة، أو الوهم وسوء التصوُّر، أو الإلف والعادة، لبعض الناس: أن عملا ما مصلحة، وهو في حقيقته مفسدة، أو أن ضرره أكبر من نفعه، فكثيرا ما يُغفِل الناس المصلحة العامة لأجل المنفعة الخاصة، أو يغفلون عن الضرر الآجل من أجل النفع العاجل، أو يغفلون الخسارة المعنوية من أجل الكسب المادي، أو يتغاضون عن المفاسد الكبيرة من أجل مصلحة صغيرة، فالاعتبارات الشخصية والوقتية والمحلية والمادية لها ضغطها وتأثيرها على تفكير البشر، لهذا يجب الاحتياط والتحرِّي عند النظر في المصالح وتقويمها تقويما سليما عادلا.

قال الإمام ابن دقيق العيد: (لستُ أُنكر على مَن اعتبر أصل المصالح، ولكن الاسترسال فيها وتحقيقها يحتاج إلى نظر سديد)[21].

تغيُّر الأحكام المبنية على المصلحة:

وينبغي أن نشير هنا إلى حقيقة هامة وهي: أن الأحكام المبنية على مصلحة معينة، تظلُّ معتبرة ما بقيت هذه المصلحة، التي هي مناط الحكم وعلَّته، فإذا انتفت وجب أن يتغيِّر الحكم تبعا لها، لأن الحكم يدور مع علَّته وجودا وعدما.

ومن أمثلة ذلك: العقوبات التعزيرية، والأحكام التي تقتضيها السياسة الشرعية الوقتية، التي رُويت عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة ومَن بعدهم، بل من ذلك بعض ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه.

وذلك مثل نهيه صلى الله عليه وسلم عن كتابة الحديث في أول الأمر، خشية اختلاطه بالقرآن، فلما زالت هذه الخشية أذِن في الكتابة لبعض الصحابة، وثبت عنه عدَّة كتب في موضوعات شتَّى.

ومثل إلزام عمر الصحابة أن ينقلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما اشتغلوا به عن القرآن سياسة منه.

ومثل ذلك: اختياره للناس الإفراد بالحجِّ، ليعتمروا في غير أشهر الحج، فلا يزال البيت الحرام مقصودا,

فإن هذا وأمثاله - كما قال ابن القيم - (سياسة جزئية بحسب المصلحة تختلف باختلاف الأزمنة، فظنَّها - مَن ظنَّها - شرائع عامة لازمة للأمة إلى يوم القيامة، ولكلٍّ عذر وأجر، ومن اجتهد في طاعة الله ورسوله فهو دائر بين الأجر والأجرين)[22].

وبناء الأحكام على المصالح الزمنية والبيئية من أسباب تغير الفتوى واختلافها باختلاف الأزمان والأماكن والأحوال كما هو مقرر في موضعه.

حاجة الناس في عصرنا:

ومما دعا هؤلاء العلماء إلى القول بالمصلحة المرسلة، هو: ما لمسوه من حاجة الناس في عصرنا إلى اعتبار المصالح في التشريع، وفي الفتوى، وفي القضاء. إلى جوار ما وجدوه من أدلة عامة في النصوص والقواعد والمقاصد الشرعية تؤيد الأخذ بالمصالح.

ومن أجل هذا ضمنت القوانية الحديثة أحكاما شتى كثيرة مناطها المصلحة، ولا شيء غيرها.

مثل اشتراط (توثيق عقد الزواج) بالجهة الرسمية وإلا لم تسمع المحاكم دعواه.

وكذلك توثيق عقود الملكية في دوائر الشهر العقاري، أو التسجيل العقاري.

وكذلك قوانين البناء، حيث تشترط إذن البلدية وغيرها.

ومثل ذلك: اشتراط الحصول على رخصة قيادة من إدارة المرور لمن يسوق سيارة أو مركبة بخارية، أو نحوها.

وكذلك: من يزاول مهنة كالطب والهندسة والصيدلة والمحاماة وغيرها، لا بد له من ترخيص بعد توافر الشروط المطلوبة في مزاولة المهنة.

وهناك قوانين كثيرة تكاد تكون مبنية على المصلحة، مثل قانون السير أو المرور.

وكذلك قانون العمل والعمال.

وحتى القوانين التي لها صلة بالشرع، فيها مواد غزيرة ووفيرة مربوطة بالمصلحة، مثل قانون تنظيم استعمال المخدرات: صناعة واتجارا واستعمالا.

ولعل من أهم ما نحتاج إليه في عصرنا: تقنين العقوبات التعزيرية، مثل عقوبة أكل الربا، أو بيع الميتة، أو لحم الخنزير، أو أخذ الرشوة، أو إعطائها، أو أكل مال اليتيم، أو منع الزكاة، أو ترك الصلاة، أو المجاهرة بالفطر في رمضان، أو معاكسة النساء في الطريق، أو خطفهن واغتصابهن، أو الاتجار في الأغذية الفاسدة والملوثة ... إلى غير ذلك من الآفات والرذائل التي تنتشر في المجتمع، ولا تجد الردع الكافي، ويكتفى فيها بالوعظ والإرشاد، مع ما علم أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.

وهناك مئات من المعاصي والمخالفات والمنكرات، التي نهى عنها الشرع، أو أمر بضدها، ولكنه لم يضع لها عقابا محددا، وتحتاج إلى تقنين.

وبالله التوفيق.

 

________________

[1]- وهذه – كما يقول القرافي في الفروق (2/107) – أدنى رتب المصالح، بخلاف المصلحة التي شهدت لها أصول الشرع بالاعتبار، فهي أعلى وأقوى، ولذا لم يُختلف فيها.

[2]- وأخيرا وبعد أربعة عشر قرنا، أخذ الإنجليز بمبادئ الشريعة الإسلامية، فأشركوا الإناث في الإرث، وورَّثوا الابن الأصغر، وأصول الميت، وآخر قانون قرَّر هذا كان في سنة 1925م، وكان الحال كذلك في معظم الولايات الأمريكية ثم عدلت عنه، وهذا يدلُّنا على عظم الثروة التي بأيدينا، وأن المصلحة فيما جاء به التشريع الإسلامي، وإن بدا لبعض ضعاف الإيمان أن المصلحة في التخلِّي عنه إلى غيره. راجع في ذلك بحثا للدكتور حسين حامد حسان مقدما إلى جامعة نيويورك، معهد القانون المقارن عنوانه: (الورثة في الشريعة الإسلامية والقانون الإنجليزي)، حيث أثبتنا أن القانون الإنجليزي وصل في آخر تطوُّره وبعد أربعة عشر قرنا إلى ما بدأ به الإسلام. مجلة القانون والاقتصاد العدد (2) صـ36.

[3]- راجع الأهرام السنة (92) العدد (28918) في (12 فبراير 1966م)، فقد جاء فيه ما يلي: (وافق مجلس العموم البريطاني أمس على قانون باعتبار الشذوذ الجنسي عملا مشروعا بين البالغين، وقد تمَّت الموافقة بأغلبية 164 صوتا ضد 107 صوت، وقد استقبل الجالسون في شرفة الزوار الموافقة بالتصفيق).

[4]- انظر: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي 5 - 8.

[5]- انظر: تنقيح الفصول وشرحه للقرافي صـ198 – 199، ومصادر التشريع فيما لا نص فيه لخلاف صـ85 – 88.

[6]- انظر: كتابنا (فقه الزكاة) (2/803).

[7]- فقه الزكاة (2/932) وما بعدها.

[8]- قالوا لعموم ضرر الأول في الأديان، والثاني في الأبدان، والثالث في الأموال. انظر: الاختيار (4/96).

[9]- فقه الزكاة (2/986 - 987).

[10]- انظر: المهذب وشرحه المجموع (5/301، 302)، وحاشية الصاوي (1/205).

[11]- انظر: المهذب وشرحه (المجموع) (5/301 - 302)، وحاشية الصاوي (1/205).

[12]- أما عند الحنابلة فالمذهب عندهم تحريم شق البطن من أجل الحمل، لما فيه من هتك حرمة متيقنة، لإبقاء حياة موهومة. قالوا: إذ الغالب والظاهر أن الولد لا يعيش، واحتج أحمد بحديث: "كسر عظم الميت ككسر عظم الحي"، رواه أبو داود، ويجاب عنه بأن هذا في غير حالة الضرورة والمصلحة، على أن شق البطن ليس فيه كسر عظم. واختار بعض علماء المذهب جواز الشق إذا كان بالججنين حركة تظن بها حياته بعد شق البطن، فالحياة هنا مرجوة لا موهومة.

[13]- المستصفى (1/310، 311).

[14]- شرح تنقيح الفصول صـ171.

[15]- شرح تنقيح الفصول صـ199.

[16][16]- المستصفى (2/173).

[17][17]- إرشاد الفحول صـ226.

[18][18]- انظر: المحلى (10/164 – 175 طبعة الإمام مسألة رقم (1941).

[19][19]- بداية المجتهد (2/310)، مظبعة المعاهد نقلا عن (المدخل إلى علم أصول الفقه) للدكتور الدواليبي.

[20][20]- انظر: الاعتصام للشاطبي (2/129 135)، وعلم أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف صـ84 – 88، طبعة الدار الكويتية، وكتاب مالك للشيخ أبو زهرة صـ391 – 431.

[21][21]- إرشاد الفحول صـ226.

[22][22]- الطرق الحكمية صـ16 – 18.