هذا الكتاب ليس بحثًا في «الأحكام الفقهية» للعبادة، وإنما هو بحث في حقيقة العبادة ومنزلتها وأسرارها، وإن شئتَ فقل: هو بحث في «فلسفة العبادة» في الإسلام.
ولو شئنا كلمة إسلامية أصيلة نعبِّر بها عن هذا المعنى لكانت: «فقه العبادة». بالمدلول الذي جاء به القرآن والسنة، في مثل قوله تعالى: {قَدْ فَصَّلْنَا الْأيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [الأنعام:98]، {لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179]، {لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «مَن يُرد الله به خيرًا يُفقّههُ في الدين».
والعبادة ليست أمرًا على هامش الحياة، إنها المبدأ الأول الذي أنزل الله كتبه به، وبعث رسله لدعوة الناس إليه، وتذكيرهم به إذا نسوه أو ضلُّوا عنه؛ ولهذا خاطب خاتم رسله محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
وكانت الصيحة الأولى في كل رسالة: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65].
ولما ختم الله كتبه بالقرآن، وختم رسالاته بالإسلام، وختم النبيين بمحمد عليه السلام، أكَّد هذه الحقيقة، وأعلن في كتاب الخلود: أن الغاية من خلق المكلفين أن يعرفوا الله ربَّهم ويعبدوه. فهذا سرُّ خَلْق هذا الجنس الناطق المفكِّر المريد في هذا العالم: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56، 57].
بيد أن الناس - حتى المسلمين أنفسهم - ظلموا «العبادة» وحرَّفوها عن وجهها، وعن حقيقتها، وعن مكانها، فَهمًا وأسلوبًا، ونظرًا وتطبيقًا.
فوجدنا من الناس مَن لم يعتبروا عبادة الله غاية تُطلب لذاتها، إنما هي مجرَّد وسيلة لتهذيب النفس، وتربية الضمير. ففي الاستطاعة الاستغناء عنها بغيرها من الوسائل التي تتَّخذها بعض الشعوب أو الدول - حتى الملاحدة منها - لتكوين المواطن الصالح.
ووجدنا من الناس من آمنوا بقيمة العبادة ومنزلتها، ولكنهم وجَّهوها لغير الرب الأعلى، {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:2، 3]، فاتخذوا مع الله - أو من دونه - آلهة أخرى، أو اتَّخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله، حتى رأينا في المتأخرين من المسلمين أيضًا لوثة من هذا الضلال، فمنهم مَن يعظم غيرَ الله، أو يقدِّس غيرَ الله، أو ينذر لغير الله، أو يذبح لغير الله، أو يطيع - طاعة مطلقة - غيرَ الله!
ووجدنا من الناس من آمنوا بمنزلة العبادة، ووجَّهوها إلى مستحقها سبحانه، ولكنهم لم يعبدوا الله بما أمر به، ولم يتقيَّدوا بما شرع لهم من طرائق العبادة وصورها؛ فشرعوا منها ما لم يأذن به الله، وسنُّوا ما لم يَسنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فشدَّدوا على أنفسهم، وشردوا عن سواء الصراط، وأحاطوا العبادات بالبدع والضلالات، التي ورثوها عمَّن ضلَّ قبلهم من أتباع الديانات، غافلين عن الإصلاح العظيم الذي جاء به دينهم في مجال العبادة، حيث قوَّم عوجها، وأبطل زائفها، ووضع لها الأصول والمبادئ التي تحميها من الغلو والانحراف.
ووجدنا آخرين قد فهموا معنى العبادة - التي جعلها الله غاية الخلق - فَهمًا جزئيًّا قاصرًا، فهي لا تعدو أداء الشعائر المعروفة؛ من الصلاة والصيام والزكاة والحج. وما يلحق بها من الذكر والتلاوة والدعاء.
وبهذا الفَهم المبتور لا يبالون ما قصَّروا فيه بعد ذلك من أوامر الإسلام ونواهيه، وأحكامه ووصاياه، التي تستوعب كلَّ مجالات الحياة. مع أن العبادة - كما جاء بها القرآن والسُّنَّة، وكما فهمها خير قرون هذه الأمة - تشمل الدين كلَّه، وتشمل الحياة كلَّها.
من هنا رأينا واجبنا أن نصحِّح المفاهيم المغلوطة، التي سادت بين كثير من المسلمين المتأخرين في شأن العبادة، وأن نطارد الأفكار الضالَّة التي يريد بعض الناس أن يدخلوها في رؤوس المسلمين عن قيمة العبادة ومكانتها في الإسلام، وأن نبين معنى العبادة وحقيقتها، وشمولها وغايتها، وسر التكليف بها، وما جاء به الإسلام من هدى وإصلاح في مجالها. وبهذا نعرف: مَن نعبد؟ وهو الله تعالى. ولماذا نعبده؟ وبماذا نعبده؟ وكيف نعبده؟
ولعلي أن أكون بهذا الكتاب قد جلَّيتُ ما قصدتُ إليه، وأمطتُ اللثام عن وجه هذا الجانب الأساسي الهام من جوانب هذا الإسلام العظيم، الذي أكمله الله لنا، وأتمَّ به علينا نعمته، ورضيه لنا دينًا.
وأسأل الله أن ينفعني به وقارئه وناشره، وأن يغفر لي ما عسى أن يكون من زلات الفكر والقلم، وأن يجعلنا من أهل الإخلاص في عبادته، والمتابعة لشريعته، المترقِّين في مدارج السالكين، ومنازل السائرين إلى مقامات {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، إنه سميع مجيب.