د. يوسف القرضاوي
كلتاهما منزلةٌ من منازل السَّائرين والسَّالكين في الطَّريق إلى الله جلَّ شأنه.
فهذا الطَّريق له صفاته وخصائصه، الَّتي يجبُ أن يراعيَها السَّالك، حتَّى يمضيَ فيه على بصيرة، ويعرف ما فيه من عقبات وأشواك، وما فيه من مزالق ومطبَّات، وما يمكن أن يعترضه من قُطَّاع الطَّريق، أو يشوِّش عليه من الشركاء المشاكسين، وما يحتاج إليه في الطَّريق من غذاء للأرواح، أو دواء للأدواء، أو أدوات مساعدة، أو أعوان مساندين، ومسهِّلين لاستمرار السَّيْر في سلاسة وسلامة.
ومن خصائص هذا الطريق:
1. أنَّه طريقٌ طويل، ولهذا يحتاج إلى صبر، كما قال تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65].
2. أنه مليء بالعَقَبات، مفروشٌ بالأشواك، مضرَّجٌ بالدماء، كما قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
3. أنه مليء بالصَّادِّين عنه، والقاطعين له، فلا بدَّ من التسلُّح لملاقاتهم والتغلب على قطاع الطريق، وهم الَّذين جمعهم قول الشاعر:
إنِّي بُليتُ بأربعٍ يَرْمِينَني ** بالنَّبْلِ عن قوسٍ له تَوْتِيرُ!
إبليسُ والدُّنْيا ونَفْسِي والوَرَى ** يا ربِّ أنتَ على الخلاصِ قَدِيرُ!
فهناك الشيطان الَّذي أقسم أمام الله ليضلنَّ الإنسانَ عن طريق الله، وليضعنَّ فيه العوائق، ما وجد إلى ذلك سبيلا: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:16، 17].
وهناك الدنيا بزخارفها ومتاعها وزينتها، وما تغرُّ به الخلق، كما قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ} [آل عمران:14]، {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الحديد:20].
وهناك النَّفس وما فيها من غرائز ودوافع، مثل حب البقاء، وحب الخلود، وحب الاستعلاء، والغريزة الجنسية، وغيرها من الدوافع الفطرية، الَّتي غرسها الله في الإنسان، لحكمة عمارة الأرض، ولكنها إذا تُركت وحدها دون وازع من الإيمان، فإنها تأخذ الإنسان بعيدًا عن سواء الصراط. ولذا قال تعالى على لسان امرأة عزيز مصر في قصة يوسف: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53].
وهناك الخَلْق، ولا سيما شياطينهم من الإنس، الَّذين يشاركون إبليس وجنوده في إضلال الإنسان، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31].
وكثير من النَّاس يؤثِّر عليهم آباؤهم أو رؤساؤهم، ليقلِّدوهم، ويسيروا في ركابهم: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب:67]، وبعضهم يؤثِّر عليهم أصدقاؤهم: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا} [الفرقان:27، 28].