د. يوسف القرضاوي

( 2 ) محاولات تنصير المسلمين:

ومن العقبات المهمَّة التي لها تأثيرها القوي في توتُّر العلاقة بين الإسلام والنصرانية: المحاولات الدائبة لـ(تنصير) المسلمين، التي يقوم بها مَن يسمُّونهم (المبشرين) خصوصا أتباع المذهبين الكبيرين: (الكاثوليك) بزعامة (الفاتيكان) وعلى رأسه البابا، و(البروتستانت) بزعامة مجلس الكنائس العالمي، الذي تمدُّه وتموِّله أمريكا.

ومن المعروف تاريخيا: أن الغرب بزعامة أوربا، حاول الاستيلاء على الشرق الإسلامي بالقوَّة، حين قرَّر أن يخوض تلك الحروب الهمجية على المسلمين، وهي التي سمَّاها مؤرخو المسلمين: حروب الفرنجة، وسمَّاها الغربيون: الحروب الصليبية. وفي غفلة من الأمة الإسلامية، وفي حالة من تفرُّق زعاماتها، ووهن شعوبها: دخل الصليبيون إلى بلاد الإسلام وإلى سواحل الشام وفلسطين وأقاموا لهم ممالك وإمارات، بالتحالف مع بعض الخونة من الأمراء.

ولكن القوَّة الذاتية الكامنة في أمة الإسلام أبت الخضوع لهذا الاستعمار المتعصِّب، الذي يحمل اسم المسيح، والمسيح منه براء، واستطاعت أمة محمد، أمة القرآن: أن تُخرِج من فلذات أكبادها مَن يقاوم هؤلاء الصليبيين، الذين جاؤوا في تسع حملات، لا تحتكم إلى دين ولا خلق ولا قانون، حتى إنهم في فتح بيت المقدس قتلوا نحو سبعين ألفا. والإسلام فتحها في عهد عمر دون أن يريق قطرة دم.

أخرج الإسلام من صُلبه من غير أبناء العرب، مَن أنقذ بلاد العرب، لأنهم لم يكونوا ينظرون إليها إلا أنها من دار الإسلام، قام بهذا عماد الدين زنكي التركي، وابنه البطل نور الدين محمود، وتلميذه صلاح الدين الأيوبي الكردي وخلفاؤهم من المماليك وانتهت هذه الحملات والمعارك بهزيمة الصليبيين واندحارهم، وخروجهم من دار الإسلام مذؤومين مدحورين مغلوبين. وكان من أواخر معاركهم: معركة المنصورة التي أُسر فيها ملكهم لويس التاسع الذي أسره المصريون في (دار ابن لقمان) الشهيرة، ولم يطلقوه إلا بعد دفع فدية كبيرة للمسلمين.

وبعد ذلك فكَّر الأوربيون أن يغيِّروا سياستهم، بعد أن لمسوا بالتجربة أن الاستيلاء على ديار الإسلام بالقوَّة وحدها غير مضمون، بل غير ممكن، وأن المسلمين إذا غُلبوا أو استسلموا يوما لحكم القوة، فلا يعني ذلك أن يدوم طويلا، وأن الأمة فيها من القوى الكامنة، والقدرات المخبوءة، ما هو جدير أن يقلب الأمور رأسا على عقب، وسرعان ما تظهر في الأمة المغلوبة، تيارات تتصدَّى للمواجهة والمقاومة، حتى تحقق الانتصار، وما هو منها ببعيد.

لذلك اتَّجه تفكيرهم إلى إنشاء خطَّين متوازيين يعملان جنبا إلى جنب، في غزو المسلمين من داخلهم عن طريق عقولهم، وعن طريق قلوبهم. أو قُل: غزوهم فكريا، وغزوهم دينيا. ومن هنا نشأ (الاستشراق) ونشأ (التبشير) أو (التنصير) ولا فرق بين الاستشراق والتبشير أو بين المستشرقين والمبشِّرين - كما يقول أستاذنا الدكتور محمد البهي [1] - إلا أن المستشرقين يلبسون مسوح العلم، والمبشِّرين يلبسون مسوح الدين! يعني أن هدف الفريقين واحد وهو غزو الأمة الإسلامية وصرفها عن هُويَّتها الثقافية والحضارية، المتمثِّلة في الإسلام بلا ريب.

كما أن أسلوب المستشرقين أقرب إلى البحث العلمي، واستخدام أدواته، على حين نجد أسلوب المبشِّرين أقرب - دائما - إلى الهجوم، وقلَّما يتَّجه إلى البحث العلمي المحايد، أو البحث العلمي الموضوعي الرصين، بل كثيرا ما يعتمد أسلوب الإثارة، بتلفيق الأكاذيب، ونشر المفتريات، وتصيُّد الشبهات.

كما أن التبشير يتميَّز بشيء آخر، وهو الاتصال بالجماهير الأميَّة والفقيرة، ومحاولة التأثير عليها، عن طريق العمل الخيري والإنساني بإطعام الجائع وكسوة العريان ومداواة المريض وكفالة اليتيم ورعاية الأرملة وإيواء المشرَّد والتقاط الأطفال من هذه الفئات وإدخالهم المدارس النصرانية، وتلقينهم العقيدة المسيحية، وفصلهم تماما عن عقيدة آبائهم وقومهم. وقد نجحوا في ذلك في بعض البلاد الإسلامية غير العربية، فاستطاعوا تحويل بعض صبيان المسلمين إلى النصرانية بالفعل. وأصبحنا نرى في نيجيريا وغيرها من بلاد إفريقيا: اسم الشخص نصرانيا، واسمُ أبيه أو جده إسلامي، مما يدل على أنه من الذين نُصِّروا بطريق المبشِّرين!!

أما في البلاد العربية، فلا يطمعون في تحويل المسلم إلى نصراني صراحة، بل يكتفي بتشكيكه في إسلامه، وزعزعة إيمانه بشمول الإسلام، وتكامل الإسلام، وصلاحية شريعته لكلِّ زمان ومكان.        وأعتقد أنهم وصلوا إلى نتائج مرضية في هذا الاتجاه، ورأينا رئيسا لنيجيريا، وهو نصراني، وآباؤه مسلمون. ورأيناهم في إندونيسيا يوجِّهون الرؤساء الذين يحملون أسماء المسلمين إلى ما يريدون، حتى إنهم في بعض الأوقات، فكَّروا في تنصير إندونيسيا في خلال نصف قرن[2] .

هل أخفق دعاة التنصير في مهمتهم؟

ومن المؤكَّد أن دعاة التنصير لم يكسبوا مسلما واحدا صادق الإسلام، اختار بتأثيرهم أن يغيِّر دينه، وأن ينتقل من الإسلام إلى النصرانية، وأن يصبح اسمه حنا وجورج، بعد أن كان اسمه محمدا وأحمد.       كل ما أمكن المنصرين فعله، هو: استغلال الفئات الفقيرة والأمية والمنعزلة، وإدخالها منذ الطفولة في المدارس النصرانية، وتلقينهم عقائدهم المسيحية، وبما أن هذه الفئات الفقيرة والأمية كثيرة في إفريقيا وآسيا، فإنهم باكتسابها بهذه الطريقة يكونون قد أنجزوا شيئا للمسيحية، وإن كان دون طموحاتهم الكبيرة في تنصير المسلمين.

ولهذا يشيعون كثيرا: أنهم أخفقوا وفشلوا في تنصير المسلمين، الذين يعتقدون أن المسيح عبد من عباد الله، وليس إلها ولا ابن إله، ولا أقنوما من أقانيم الألوهية الثلاثة. وقد نطق القرآن على لسان المسيح في المهد صبيا، حين قال: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم:30،31]، {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75]، {إِنَّمَا الله إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً * لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء:172،171].

وكثير من المسلمين يعتقدون أنهم كاذبون ومضلِّلون في دعواهم أنهم أخفقوا في التبشير بين المسلمين، لما يرون أنهم حقَّقوا أكثر مما ينبغي لدين حرَّفه أهله وبدَّلوه، حتى إن كتابه الأصلي الذي أنزله الله على نبيه غير موجود!!   

أعتقد أن هذا الإعلان بأنهم أخفقوا مع المسلمين: أمر مقصود، يحقِّق لهم مكاسب يرجونها: 

أولها: أن تتدفَّق عليهم الأموال والتبرعات التي تبلغ المليارات، لتمكِّنهم من التغلُّب على صلابة المسلمين (الناشزين) والتأثير فيهم.  

وثانيها: أن يخدِّروا (الفريسة) التي يريدون اصطيادها، وهي: المسلمون، حيث يقولون: الإسلام بخير، والأمة بخير، والمنصِّرون قد فشلوا في مهمَّتهم معهم، فلا يجتهدون في المقاومة، ولا يفكرون في عمل إيجابي مضاد.    

وثالثها: أن يظلَّ القوم يشعرون بأنهم مقصِّرون في أداء واجبهم في غزو المسلمين، وأن عليهم أن يتداركوا ذلك بالمزيد من بذل الجهد والتخطيط والتنسيق والعمل الدؤوب، ومَن سار على الدرب وصل.  

وربما كان سبب إعلان فشلهم: أنهم لم يحقِّقوا كلَّ ما كانوا يطمحون إليه من أهداف تنصير المسلمين الذين استعصَوا بعقيدتهم عليهم، وخيبوا فألهم، فاعتبروا أنفسهم قد فشلوا[3] .

مؤتمر كلورادو لتنصير المسلمين في العالم:

في السبعينات من القرن العشرين، كان رجال التنصير قد شعروا بقوَّتهم، وأن لديهم من الإمكانات المادية والبشرية ما يمكِّنهم من غزو العالم، وتحويله إلى الديانة النصرانية. وبدأ ذلك بؤتمر عقدوه في مدينة (لوزان) السويسرية سنة 1974م، كان البحث يدور فيه حول (تنصير العالم) وما ينبغي أن يُوضع له من خطط، وما يهيَّأ له من وسائل، وما يُرصد له من أموال.

وفي سنة 1978م أيْ بعد أربع سنوات من عقد مؤتمر لوزان اتَّجه التنصير إلى شنِّ غارة جديدة على العالم الإسلامي. وكأن المسلمين هم أول الأمم التي تحتاج إلى الهداية، مع أن هناك أمما تعلن الإلحاد مثل الأمم الشيوعية، وأمم وثنية تعبد الأصنام أو الحيوانات أو قوى الطبيعة، وأمم همجية لا تكاد تعرف عن الدين شيئا، كانت كلُّها أولى بالتوجُّه إليها بدل التوجُّه إلى أمة الإسلام، التي هداها الله إلى التوحيد الخالص، مِلَّة إبراهيم حنيفا، ولكن يبدو أن الصراع القديم الجديد بين الإسلام والنصرانية هو الذي جعل هؤلاء يبدؤون بالمسلمين، وأحسب أن مقصدهم الحقيقي ليس إدخالهم في النصرانية، بقدر ما هو إخراجهم من الإسلام، وإن لم يدخلوا في أيِّ دين.

وهذا ما نبَّههم عليه أستاذهم العتيد صمويل زويمر حين قال في مؤتمر القدس التنصيري سنة 1935م يخاطب أعضاء المؤتمر بصريح العبارة:  (... لكن مهمَّة التبشير التي تدفعكم لها الدول المسيحية في البلاد الإسلامية، ليست في إدخال المسلمين في المسيحية، فإن في هذا هداية لهم وتكريما (!!) وإنما مهمَّتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام، ليصبح مخلوقا لا صلة له بالله، وبالتالي: لا صلة له بالأخلاق، التي تعتمد عليها الأمم في حياتها)[4] .

وأنا أعجب من هؤلاء الذين يزعمون أن دوافعهم للتنصير دوافع دينية بمعنى أنها ترجو بعملها التقرُّب إلى الله تعالى كيف يكون همَّها وهدفها إخراج المسلمين من إسلامهم، ليبقوا بلا دين ولا إيمان ليصبح المسلم مخلوقا لا صلة له بالله وإذا انقطعت صلته بالله انقطعت صلته بالأخلاق والفضائل التي لا تحيا الأمم إلا بها ولا ترقى إلا باعتمادها أساسا في حياتها كما قال شوقي: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا.

وماذا يفيد المنصِّرين إذا عاش المسلمون بلا إيمان ولا أخلاق؟ إلا أن يكون هدفهم تخريب الأمة من داخلها وتقويض الركائز التي يقوم عليها بنيانها وهي العقيدة والأخلاق وبهذا تستكين للاستعمار الغربي وتخضع لاستكباره في الأرض.

(ففي منتصف شهر تشرين الأول (أكتوبر) عام 1978م، عقد في مدينة (جلن ايري Glen Eyrie) بولاية كلورادو: مؤتمر جرى خلاله إعادة تقييم قوى التبشير المسيحي العاملة في العالم الإسلامي، ومراجعة منطلقاتها وأساليبها، ووضع الخطوط الرئيسية للاستراتيجية المناسبة للغارة على العالم الإسلامي من جديد، وقد أطلق على المؤتمر المذكور اسم :

مؤتمر أمريكا الشمالية لتنصير المسلمين[5] :

استمرَّ المؤتمر لمدَّة أسبوع قُدِّمت خلاله (43) ثلاثة وأربعون بحثا وتشكَّلت لجان عمل وأعدَّت خطط واستراتيجيات، وفي نهاية المؤتمر صدر تقرير يلخص ما دار من مناقشات، وما تمَّ من إنجازات. ونتيجة للمؤتمر المذكور أُعيد تنظيم صفوف الجماعات التبشيرية، وأقيمت مراكز ومؤسَّسات جديدة، إلى جانب المراكز والمؤسسات القديمة، التي جرى كذلك إعادة تنظيمها، لتقوم بمهام العمل الذي يقتضيه المخطط الجديد. وأهم ما يهدفون إليه: أن يمكِّنهم تنصير بعض المسلمين الذين للتبشير بين المسلمين. فهذا ما وصَّى به شيخهم زويمر من قبل حين قال في كتابه (العالم الإسلامي اليوم): تبشير المسلمين يجب أن يتمَّ بواسطة رسول من أنفسهم ومن بين صفوفهم لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أعضائها[6].

وجدير بالذكر أن هذه الغارة التبشيرية هي جزء من غارة أكبر سياسية وعسكرية جرى التخطيط لها في نفس الفترة وفي القارَّة نفسها وليس من أغراض هذا العرض الموجز الخوض في فصول هذه الغارة كاملة في الوقت الحاضر وإنما نكتفي هنا بتقديم ترجمة حرفية كاملة للتقرير الذي صدر في أعقاب المؤتمر المذكور يتقدمه ترجمة مشابهة للتعريف الذي كتبه وأعدَّه واحد من المشرفين على المؤتمر، هو رئيس مجلس البعثات التبشيرية العالمية.

وانظر نصَّ هذا التعريف مع تقرير المؤتمر في ملاحق الكتاب[7].

مؤتمر كلورادو جاء في الوقت الغلط:

ومن سوء حظِّ المنصِّرين الجُدد في كلورادو: أنهم بدؤوا حملتهم في الوقت الغلط، فقد طمعوا في أن يغزوا أمَّة الإسلام، ويحوِّلوها عن دينها، في الوقت الذي انطلقت فيه (الصحوة الإسلامية) المعاصرة للأمة الإسلامية. هذه الصحوة التي عمَّت المشارق والمغارب، وأشرقت شمسها في بلاد العرب والعجم، وامتدَّت داخل العالم الإسلامي وخارجه، حيث تعيش الأقليات الإسلامية، في أوربا وأمريكا وأستراليا، وغيرها.

وهي صحوة ضمَّت النساء إلى الرجال، والشابات إلى الشبان.

وهي صحوة عقول وأفهام، كما أنها صحوة قلوب وضمائر.

وهي صحوة سلوك والتزام، كما أنها صحوة غَيرة ودعوة.

وقد أثبتت هذه الصحوة وجودها على كلِّ صعيد، على الصعيد الإيماني (الروحي)، وعلى الصعيد الفكري الثقافي، وعلى الصعيد الأخلاقي السلوكي، وعلى الصعيد المالي الاقتصادي، وعلى الصعيد العسكري والجهادي، وعلى الصعيد الوطني السياسي.

وقد تجلَّت آثارها في مجالات عدَّة: في فلسطين، وفي أفغانستان، وفي إيران، وفي السودان، في إنشاء المصارف الإسلامية بديلا عن قَبول الربا، وفي التزام النساء طوعا بالحجاب (الخمار) بدل التبرُّج، وفي التنادي الجهير بتحكيم الشريعة الإسلامية، وتطبيق التربية الإسلامية، وفي ظهور الإسلام في أجهزة الأعلام والفضائيات ظهورا بيِّنا[8] .    

وهو ما جعل الغرب - وبخاصَّة أمريكا - ترصد مئات الملايين لعقد الندوات والمؤتمرات وإنشاء المراكز، للبحث في هذه (الصحوة) ودراسة خصائصها ومقوِّماتها، وأسباب ظهورها، ونقاط القوة والضعف فيها.

وهو ما جعل عددا من الصحفيين والصحفيات من الغربيين يتَّجهون إلى أمثالي، يسألونني: ما سرُّ هذه الصحوة؟ وما الذي جعل الشباب المسلم والفتيات المسلمات يعودون إلى الإسلام بقوَّة، في حين نرى الشباب في الغرب يتفلَّت من الدين، ولا يكاد يذهب إلى الكنيسة أيام الآحاد، إلا القليل، والأقل من القليل، ومنهم مَن لا يذهب بدافع ديني خالص؟!

لقد أراد الغرب النصراني أن يغزو المسلمين في عقر دارهم، وأن يردُّوهم عن دينهم إن استطاعوا، في الوقت الذي بدأ الإسلام يغزوهم، ويدخله منهم في كلِّ يوم أعداد في أقطار شتَّى، دون تخطيط من الإسلام - كما يخطِّط الفاتيكان، ومجلس الكنائس العالمي - ودون عقد مؤتمرات لأسلمة النصارى، كما فعل مؤتمر كلورادو، ودون رصد ملايين للدعوة إلى الإسلام، كما رصدوا هم المليارات لتنصير المسلمين، ودون أن ينشئوا معاهد متخصِّصة في تخريج دعاة لمخاطبة النصارى، كما أنشأوا هم معهد (زويمر) لتخريج المبشرين المتخصصين في مخاطبة المسلمين. أو بالأحرى: في تنصير المسلمين!

إنني أؤكِّد لهؤلاء: أن خطَّتهم في كلورادو لغزو المسلمين دينيا، ستبوء بالفشل، كما فشلت خطط قبلها، وبقيت أمة الإسلام كما هي، بل خرجت أصلب عودا، وأشدَّ قوة. وقد جرَّب المنصِّرون في أوائل هذا القرن، منذ أن عقدوا مؤتمرهم التبشيري أو التنصيري في القاهرة في سنة 1906م، ورأسه صمويل زويمر، وقد جرَّدوا حملات تبشيرية كبيرة لغزو مصر بلد الأزهر والقرآن. ولم يجدوا مَن يستجيب لهم من أبناء الكنانة.

ومن اللطائف التي تُروى: أن المبشِّر كان يذهب إلى القرية فيحدِّث الناس عن المسيح الربِّ المخلِّص، وعن أمِّه مريم العذراء، وعن المعجزات والحكايات المصاحبة، وينصت الناس لهم كأن على رؤوسهم الطير، كما يقولون. ويظنُّون هم أنهم كسبوا قلوب هؤلاء العوام، فلا يلبث واحد من هؤلاء أن يقول بعفوية وتلقائية: وَحِّدُوه، فيقولون بصوت واحد: لا إله إلا الله! ثم يقول: (كمان) صَلُّوا على النبي، فيقولون بصوت واحد: عليه الصلاة والسلام.

وهكذا يجد المبشِّر المسكين نفسه في واد، والقوم في واد آخر!

وصدق الله حين بشَّرنا في كتابه بأن عمل هؤلاء لن يكون له ثمرة، إلا تشبُّث المسلمين بدينهم، وضياع الملايين والمليارات التي رصدوها سدى. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].

(3) الرُّوح الصليبية:

ومن العقبات التي تقف في سبيل التفاهم والتقارب بيننا وبين النصارى - الغربيين خاصَّة - الرُّوح الصليبية، المستكنَّة في صدورهم، والموروثة من عهود الصراع بين الديانتين، والتي تجسَّدت فيما سُمِّي (الحروب الصليبية).

وأمست هذه الرُّوح تمثِّل: الحقد الأسود، والعداوة الكامنة للإسلام، يرثها الخلف عن السلف، والأبناء عن الآباء، وإن لم يكونوا على بيِّنة بأسبابها الحقيقية، أو لم يُتِح المرء لنفسه فرصة دراستها واختبارها: هل هي حقيقة صادقة، أو أسطورة زائفة؟

وهذه الرُّوح تختلف تماما عن المسيحية الحقَّة، فالمسيحية تنزع إلى المحبَّة، والصليبية تنزع إلى البغض، والمسيحية تبارك مَن لعنك، والصليبية تلعن مَن باركك، والمسيحية تدير الخدَّ الأيسر لمَن ضربك على الأيمن، والصليبية تبدؤك بضرب خدَّيك معا، لأنها معتدية، المسيحية الأصيلة بيضاء ناصعة، والصليبية سوداء حالكة. هذه الرُّوح الصليبية التي دفعت الغرب قديما أن يغزو العالم الإسلامي، ويستولي على أراضيه في فلسطين.  وهي التي تدفع كثيرا من الغربيين اليوم أن يسيئوا إلى رسول الإسلام، بالرسوم الكاركاتورية كما في الدانمارك التي أصرُّوا على إعادة نشرها في سبع عشرة صحيفة، أو بالأفلام كما فعل النائب البرلماني الهولندي رئيس حزب الحرية، الذي صوَّر القرآن على أنه كتاب يحرِّض على العنف والكراهية والقتل، وذلك في فيلمه الوثائقي الذي سمَّاه (الفتنة)!

وهي التي دفعت البابا بنديكيت السادس عشر (بابا الفاتيكان الحالي) أن يُسيء إلى الإسلام ونبيِّه وعقيدته وشريعته وحضارته وتاريخه، في المحاضرة التي ألقاها في ألمانيا، والتي نقل فيها عمَّن نقل: أن الإسلام لم يأتِ بجديد إلا نشر الإسلام بالسيف! وقد رددنا عليه في كتاب[9] ، وهي التي جعلت عددا من الأحزاب اليمينية المتطرِّفة، تقف ضدَّ المهاجرين من الشرق إلى الغرب، ولا سيما المسلمين منهم، وتدعو إلى طردهم وتطهير البلاد منهم.

وهي التي دفعت بعض الأمريكين إلى تدنيس المصحف الشريف في معتقل (جوانتانامو)، وفي سجن (أبو غريب) في العراق، وهي التي دفعت بعض الفرنسيين المتعصِّبين إلى (تدنيس) قبور المسلمين عمدا في مدافن فرنسا، وهو ما جعل الرئيس الفرنسي ساركوزي ووزيرة الداخلية في حكومته يعتذران للمسلمين هناك، وهي التي تضخِّم ظاهرة ما يسمَّى (إسلاموفوبيا) أي الخوف أو التخويف من الإسلام، وهي ظاهرة تتبنَّاها في الغرب وتنفخ فيها أبواق الإعلام. مع أن المسلمين هم المعتدَى عليهم دائما، وكلُّ مواقفهم ردود أفعال على العدوان.

وهي التي جعلت الرئيس الأمريكي (بوش) الابن يعلن حربا كونية تكلَّفت مئات المليارات، على الإسلام وأمته، تحت دعوى الحرب على الإرهاب. وقد زلق لسانه يوما في أوائل قيام هذه الحرب، فقال: إنها (حرب صليبية) طويلة نخوضها. وكان لكلمته هذه صداها الهائل، فنبَّهه مستشاروه إلى خطورة هذه الكلمة وإيحاءاتها في أنفس المسلمين في أنحاء العالم، فاعتذر - أو اعتذروا له - بأنها (زلَّة لسان)! ومن المعلوم في الدراسات النفسية: أن زلاَّت اللسان، كثيرا ما تعبِّر عما يخبِّئه الإنسان في نفسه، ولا يحبُّ أن يطَّلع عليه الآخرون، فتأتي هذه الزلاَّت وتفضحه، وتكشف عما في داخله، وهو ما روي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال: غشُّ القلوب يظهر على صفحات الوجوه، وفلتات الألسن. ثم تلا قول الله تعالى: {وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30].

وهذه الرُّوح الكائنة وراء كثير من التشريعات الجديدة التي تصدر في أمريكا وأوربا للتضييق على المسلمين بصورة أو أخرى، وهذه الرُّوح - للأسف الشديد - لا تقتصر على فئة من النصارى دون أخرى، ولا على مذهب دون مذهب، فقد وجدناها عند الأوربيين، ووجدناها عند البروتستانت، ووجدناها عند الأرثوذكس، وجدناها في الغرب، ووجدناها في الشرق، وجدناها في الغرب بالوراثة، وفي الشرق بالعدوى! وجدناها عند المتديِّنين، ووجدناها عند العلمانيين، حتى هؤلاء العلمانيون الذين لا يتمسَّكون بالدين، يحملون هذه الرُّوح الصليبية الحاقدة على الشرق والإسلام والعروبة.

رأينا قديما: مستشار وزارة المستعمرات الفرنسية، الكاثوليكي (هانوتو) الذي هاجم الإسلام بشدَّة سنة 1900م، ونشرت هجومه جريدة (المؤيد) المصرية الشهيرة، ورد عليه الأستاذ الإمام محمد عبده، ردًّا علميا قويًّا فوريا، أفحمه، ولم يجعل له حجَّة، وكان له صدى كبير في وقته. وكذلك قرأنا ما كتبه اللورد (كرومر) المندوب السامي للاحتلال البريطاني في مصر، والذي كتب كتابات متحاملة على الإسلام وتعاليمه، ضمَّنها كتابه (مصر الحديثة) وكذلك في تقاريره إلى حكومته، وهو بروتستانتي.

ومما قاله: (إن الإسلام ناجح كعقيدة ودين، ولكنه فاشل كنظام اجتماعي، فقد وُضعت قوانينه لتناسب الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي، ولكنه مع ذلك أبديٌّ، لا يسمح بالمرونة الكافية لمواجهة تطوُّر المجتمع الإنساني)[10].

والرُّوح الصليبية هي العلَّة وراء الكتابات المتعصِّبة لبعض المستشرقين فيما كتبوه عن الإسلام من دراسات، وأنا هنا لا أُعمم الحكم على جميع المستشرقين. بل استثني مجموعة منهم تتَّسم إلى حدِّ معقول بالإنصاف والاعتدال.

مناقشة دعوى أن الغرب الحديث لم يعد صليبيا:

قد يزعم بعض الغربيين: أن الغرب الحديث أو المعاصر، لم يعُد يحمل هذه (الرُّوح الصليبية) التي كان يحملها أجداده وسلفه، وإنما يفكِّر تفكيرا نفعيا خالصا، تحدِّده المصالح الاقتصادية والمادية قبل كلِّ شيء. وهذا ما قاله بعضهم بالفعل، يقول: (جان بول رو) في كتابه (الإسلام والغرب): (إن أوربا اليوم بعيدة كلَّ البعد عن الرُّوح الصليبية، بل إنها في الحقيقة قد تخلَّت عنها تماما، والحرب بالنسبة لها لم تعُد قضية دينية، بل مسألة اقتصادية صِرفة، ولم يعُد في استطاعتها أن تفهم الإسلام عندما يتحدَّث عن الجهاد)[11].

ولقد صدَّق ذلك بعض المسلمين المسرفين في حسن الظن بالغرب، وأنكر أو شكَّك أن تكون الرُّوح الصليبية باقية إلى اليوم في نفوس القوم، معتقدا أن المصالح المادية وحدها هي التي تسيرهم، وتحدِّد عَلاقاتهم بالناس، مسلمين كانوا أو غير مسلمين. وهو رأي تردُّه كل الأدلَّة والتصرُّفات التي ذكرنا نماذج منها، وسنذكر المزيد.

وأودُّ أن أؤكِّد هنا ما أشرنا إليه من ضرورة التفريق بين الرُّوح الدينية والرُّوح الصليبية التي أصِف بها القوم، فإن جمهور الناس في الغرب لا يحفلون بالدين، ولا يحكِّمونه في حياتهم. وديانتهم هي المادية والنفعية، كما شهد بذلك شهود من أهله، مثل ليوبولد فايز وغيره[12] ، ولكنهم مع هذا ينظرون إلى الإسلام وأتباعه نظرتهم إلى عدو غلبهم قرونا طويلة بقوَّته الرُّوحية والمادية.         

ولا مانع من أن ترى الرجل ملحدا هناك، ولكنه يبغض الإسلام وحضارته وأمَّته بهذا الاعتبار، الذي خلَّفه الصراع المديد بين الشرق والغرب، وترك وراءه رواسب في المشاعر والأفكار، لا يزال لها تأثير وسلطان. على أن في الغرب من الرجال المدنيين والعسكريين مَن لا تزال تحرِّكه حوافز دينية خالصة أو غالبة. ومنهم مَن يرى المصلحة الاستعمارية في الاستجابة لأصحاب الحوافز الدينية، أملا في استخدامهم لأغراضهم المادية.

وبهذا وذاك نعرف الدوافع المشتركة التي أفضت إلى التعاون الملموس بين التبشير والاستعمار، بحيث نستطيع أن نسمِّي الاستعمار تبشيريا، كما نسمِّي التبشير استعماريا. لقد كان المبشرون يمزجون الدين بالسياسة، وكان الحكام والإداريون يمزجون السياسة بالدين، ولكن كما قال الدكتوران: مصطفى الخالدي وعمر فروخ: (كان الدين هو الوسيلة، وكانت السياسة هي الهدف الحقيقيي، والسياسة هنا معناها: استعباد الغرب للشرق)[13].

إن الغرب النصراني - الذي يحمل الرُّوح الصليبية بين جنبيه - يعتقد أن الإسلام بقرآنه وسنته، هو العقبة الكؤود التي تحول دون توغُّله الفكري والحضاري، والتي تمسك المسلمين أن يذوبوا في ثقافته وحضارته، وكلما اختفى الإسلام من الميدان، استطاع الغربيون أن يؤثِّروا ويسيطروا بأفكارهم وثقافتهم، فإذا ظهر الإسلام في صورة (دعوة) أو (حركة) حطَّم في سنوات ما بناه المستعمرون في أجيال. فكيف إذا برز الإسلام في صورة (دولة) تحكم بقرآنه وسنته، وتربِّي الأمة على هديه وقِيَمة، وتدير دفَّة الحياة بتعاليمه وقوانينه ووصاياه؟   

لهذا نرى كثيرا من كلماتهم تصبُّ جام حقدها على القرآن وعلى الرسول وعلى مقدَّسات الإسلام كلِّها. يقول ويليم جيفورد بلجراف: (متى توارى القرآن، ومدينة مكة من بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرَّج في سبيل الحضارة، التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه)[14] .    

وهناك كتَّاب آخرون - وخاصَّة من الكاثوليك - تدلُّ كتاباتهم على أنهم مصابون بما يشبه (الهيستيريا) نتيجة خوفهم من الإسلام، وحقدهم عليه. فلنستمع إلى أحد هؤلاء.          

 يقول المسيو (كيمون) المستشرق الفرنسي، في كتابه (بايولوجيا الإسلام):     

(إن الديانة المحمدية جذام تفشَّى بين الناس، وأخذ يفتك بهم فتكا ذريعا، بل هي مرض مريع، وشلل عام، وجنون ذُهولي يبعث الإنسان على الخمول والكسل، ولا يوقظه منهما إلا ليسفك الدماء، ويدمن معاقرة الخمور، ويجمح في القبائح، وما قبر محمد إلا عمود كهربائي يبعث الجنون في رؤوس المسلمين، ويلجئهم إلى الإتيان بمظاهر الصرع العامة، والذهول العضلي، وتكرار لفظة (الله) إلى ما لا نهاية، والتعوُّد على عادات تنقلب إلى طبائع أصيلة: ككراهة لحم الخنزير والنبيذ والموسيقى، وترتيب ما يستنبط من أفكار القسوة والفجور في اللذات...

وينتهي مسيو كيمون إلى أنه يرى المسلمين وحوشا ضارية، وأن الواجب إبادة خمسهم، والحكم على الباقين بالأشغال الشاقة، وتدمير الكعبة، ووضع قبر (محمد) في متحف اللوفر)[15]!!       

ومثل هذا الكلام السخيف لا خطورة له، إنما يدلُّنا على مبلغ ما تمتلئ به أنفس القوم من حقد دفين، وإن نقله مسيو هانوتو في مقاله الذي ردَّ عليه الشيخ عبده.          

ومقترحاته الصبيانية لا أهمية لها، فقد كان القوم أعقل منه وأخبث وأمكر. لقد أراد القوم أن يصلوا إلى ما اقترحه كيمون وبلجراف وغيرهما من غير أن يدمِّروا الكعبة، أو يمزِّقوا المصحف، أو يزيلوا قبر محمد صلى الله عليه وسلم؛ وذلك بتحطيم القوَّة الإسلامية من داخلها بالكيد والدسِّ، ووضع السمِّ في الحلوى، والغزو الفكري والاجتماعي، والاستعمار الثقافي والتشريعي.

يقول الأسقف (دي ميسنيل) وكيل إدارة البعثات التبشيرية في الشرق بروما: (إن الهدف الذي يتعيَّن على المبشِّر تحقيقه، هو تحطيم قوَّة التماسك الجبارة التي يتميَّز بها الإسلام، أو - على الأقل - إضعاف هذه القوَّة)[16].

ويقول المبشِّر (كولي) في كتابه (البحث عن الدين الحقِّ): (في القرن السابع للميلاد برز في الشرق عدو جديد، ذلك هو الإسلام الذي أسِّس على القوَّة، وقام على أشدِّ أنواع التعصُّب، لقد وضع محمد السيف في أيدي الذين اتَّبعوه، وتساهل في أقدس قوانين الأخلاق، ثم سمح لأتباعه بالفجور والسلب، ووعد الذين يهلكون (يعني يموتون شهداء) في القتال بالاستمتاع الدائم بالملذَّات (الجنة)، وبعد قليل أصبحت آسيا الصغرى وإفريقيا وأسبانيا فريسة له، حتى إيطاليا هدَّدها الخطر، وتناول الاجتياح نصف فرنسا، لقد أصيبت المدنيَّة)!

وينقل لنا الأمير مصطفى الشهابي رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق نصًّا عن المؤلف الفرنسي جورج هاردي من كتابه (قضايانا الاستعمارية الكبرى) يقول: (يرى أعداء الإسلام أن الأمم الاستعمارية ستخفق في محاولتها ترقية المسلمين (كذا) وتقريبهم منها؛ لأن الإسلام عدو طبيعي للمدنيَّة الأوربية. وهو دين تعصُّب شديد، أو هو كما يقول الإنكليز والأمريكيون: (دين ناشز) ومنافٍ للاجتماع! فبدلا من أن يتأنَّس ويتحضَّر، نراه في كلِّ يوم أشدَّ تمسُّكا بعقيدة صُلبة عقيمة، والإسلام يتجنَّب الغير، وينتهي إلى الجامعة الإسلامية، أيْ إلى مذهب سياسي من أشدِّ المذاهب خطرا على سلام العالم. ولذلك يحلم بعض الإنكليز اليكسوئيين بأن يجروا عليه آخر حملة صليبية. ويرى كثيرون ممَّن لا يذهبون إلى هذا الحدِّ: أن مَن واجب الدول الاستعمارية تنظيم دعاية واسعة على الإسلام، وأنه يجب اتخاذ كلِّ الوسائل لحصر الإسلام في معقله الديني، ونشر الدعوة إلى الإلحاد أو إلى النصرانية في أوساط المسلمين)[17].

وليست هذه الأقوال وأمثالها مقصورة على المبشِّرين ونحوهم من رجال الدين، فقد وجدنا من القادة العسكريين ورجال السياسة والتوجيه، مَن يتَّجه هذا الاتجاه. وجدنا (اللنبي) القائد الإنجليزي، حين يستولي على القدس سنة 1917م، وينتزعها من أيدي الأتراك، يقول كلمته المشهورة: الآن انتهت الحروب الصليبية!  

 ووجدنا القائد الفرنسي (غورو) حين يدخل دمشق سنة 1920م يقف عند قبر البطل الإسلامي صلاح الدين الأيوبي ليقول شامتا ومتشفِّيا في كلمات معبِّرة: (ها قد عدنا يا صلاح الدين)!    

 ومن قبل كلمات (جي موليه) و(جورج بيدو) وغيرهما عن حركة الجهاد في بلاد المغرب العربي، ونظرتهم إليها نظرة صليبية واضحة، ولا يخفى على أيِّ متتبِّع للحوادث ما قاله رئيس الوزراء البريطاني (غلادستون) في مجلس العموم: (إنه لن يستقر لنا قرار في الشرق ما دام القرآن باقيا)!!

هذه الصورة المشوَّهة للإسلام تدلُّ على الحقد الدفين عند القوم على الإسلام، كما تدلُّ على جهلهم الشنيع بأصوله وتعاليمه، فليس الإسلام خطرا على سلام العالم، وإنما هو خطر على البغي والطغيان في العالم، وإلا فهو دين السماحة والسلام والرحمة والبر والأخوة الإنسانية.   

ومن أدلَّة الجهل المغذِّي للحقد: ذلك النشيد العجيب الذي كان يلقَّنه الجنود (الطليان) أثناء حربهم لليبيا العربية المسلمة. وقد جاء في هذا النشيد الفاشيستي على لسان جندي لأمه:                 

(يا أماه) أتمِّي صلاتك، ولا تبكي، بل اضحكي وأمِّلي.

ألا تعلمين أن إيطاليا تدعوني، وأنا ذاهب إلى طرابلس فَرِحا مسرورا.

لأبذل دمي، كي أسحق الأمة الملعونة.

لأحارب الديانة الإسلامية التي تجيز البنات الأبكار للسلطان!!

سأقاتل بكلِّ قواي، لأمحو القرآن[18] !!

... وإن لم أرجع فلا تبكي على ولدك، ولكن اذهبي في كلِّ مساء، وزوري المقبرة ونسائم الأصيل تحمل إلى طرابلس وداعك الذي يأبى الحداد على فلذة كبدك.

وإن سألك أحد عن عدم حدادك عليَّ (فأجيبيه) إنه مات في محاربة الإسلام)[19]!!

هذه هي الرُّوح الصليبية الخبيثة التي يحملها إلى اليوم كثير من الغربيين ضد الإسلام والمسلمين، غذَّاهم بها القساوسة والكهنة طيلة القرون الوسطى[20] .

.........................

* من كتاب "فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته في ضوء القرآن والسنة" لفضيلة العلامة، الفصل الثالث من الباب العاشر (2/ 1215 - 1272) ط (4) 2014م ، مكتبة وهبة ، القاهرة.

[1] في كتابه: المبشرون والمستشرقون وموقفهم من الإسلام

[2] انظر: كتاب (أنقذوا إندونيسيا يا مسلمون) للأستاذ عز الدين بليق صاحب دار الفتح في بيروت

[3] من كتابنا (ابن القرية والكتاب: ملامح سيرة ومسيرة) الجزء الرابع تحت الطبع

[4] الموسوعة الميسرة للأديان والمذاهب د. مانع حماد الجهني (2/679)

[5] وقد تُرجم هذا المؤتمر وأبحاثه وأعماله إلى العربية في كتاب كبير (878) صفحة تحت عنوان (التنصير: خطة لغزو العالم الإسلامي) وهو كتاب يجب أن يدرسه المهتمون بالشأن الإسلامي ، ويواجهو الخطة الخبيثة بما يرد كيدها ويبطل سحرها ، كما قال تعالى على لسان سيدنا موسى عليه السلام " ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين " يونس :81

[6] انظر: الموسوعة الميسرة للأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (2/679) إشراف وتخطيط ومراجعة د. مانع حماد الجهني

[7] انظر: الملحق الثامن من ملاحق هذا الكتاب

[8] انظر: كتابنا (الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي).

[9] انظر كتابنا : (البابا والإسلام) من رسائل ترشيد الصحوة الإسلامية ، رقم (15) نشر مكتبة وهبة بالقاهرة.

[10] انظر: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر للدكتور محمد محمد حسين (1/240) الطبعة الثانية، وفيه فقرة نقلها المؤلف من النص الانجليزي.

[11] الإسلام والغرب صـ133 الترجمة العربية طبعة بيروت.

[12] في كتابه (الإسلام على مفترق الطرق) ترجمة د. عمر فروخ.

[13] التبشير والاستعمار صـ38.

[14] انظر: كتاب (الغارة على العالم الإسلامي) ترجمة الأستاذين مساعد اليافي، ومحب الدين الخطيب صـ55.

[15] ذكر هذا الكلام مسيو هانوتو في مقالته التي رد عليها الإمام محمد عبده. انظر: الإسلام والرد على منتقديه للشيخ محمد عبده.

[16] الغرب والشرق لمحمد علي الغتيت صـ82.

[17] من كتاب (محاضرات في الاستعمار) للأمير مصطفى الشهابي صـ190 طباعة معهد الدراسات العربية العالية بالقاهرة.

[18] علق السيد رشيد رضا على هذه العبارة حيث ذكرها الأمير شكيب أرسلان في كتابه (لماذا تأخر المسلمون؟) بقوله: الديانة الإسلامية لا تجيز للسلطان إلا ما تجيزه لغيره من المسلمين، وهو تزوُّج البكر والثيب، ولكن الإفرنج تبيح لهم نصرانيتهم الافتراء على الإسلام، وتبيح لهم مدنيتهم الزنى، حتى أفسدوا كلَّ قطر دخلوه ببغاياهم، لا سيما الطليان منهم اهـ.

[19] انظر: مجلة الرابطة الشرقية السنة الثانية عدد (2) نوفمبر 1930م نقلا عن الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر للدكتور محمد محمد حسين، وانظر كذلك: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ للأمير شكيب أرسلان، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت 1965م.

[20] انظر: كتابنا (أعداء الحل الإسلامي) فصل الاستعمار صـ17 – 55.

----------( يُتبع )----------