د. يوسف القرضاوي

ينبغي لمن يريد أن يقرأ القرآن ويفهم القرآن: أن يقرأ القرآن على أنه كتاب الزمن كلِّه، وكتاب الحياة كلِّها، وكتاب الإنسان كله، وكتاب النَّاس كلهم، وكتاب الحقيقة كلها.

فالقرآن كتابُ الزمن كله، وليس لزمن دون زمن، ولا لجيل دون جيل، ولا لعصر دون عصر، إنَّما هو كتاب الخلود، الكتاب الَّذي تكفَّل الله بحفظه إلى أن يرث الله الأرض ومنْ عليها، ولذا لا ينبغي أن يُقال عند معانيه: إنَّ هذا كان في عصر الصحابة، وأصبح الزمن الآن غير الزمن والعصر غير العصر.

وهذا أيضًا ما يجعلنا نتوقف في مسألة النسخ لأن الأصل بقاء النص الإلهي، فلا يجوز أن نلجأ إلى النسخ - أن هذه الآية أو الجزء من الآية أو الجملة أو الفقرة قد نسخت أي: فقدت حكمها - إلَّا بيقين.

وبعض النَّاس جاء في عصرنا وقال: القرآن قال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء:34). وهذه القواميَّة كانت في الزمن الماضي؛ حينما لم يكن للمرأة استقلال اقتصادي. أما الآن وقد أصبحت المرأة تعمل: موظفة ومعلمة وطبيبة إلى آخره، فلا ينبغي أن يكون الرجل قواما عليها، ويقولون أيضا: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (النساء:11، 176). هذا كان في الزمن الماضي والآن تغير الوضع.

وكلامهم هذا يعني أن القرآن كتابٌ موقوتٌ بزمن مُعيَّن، يحقُّ للناس أن ينسخوه بعد هذا الزمن، وهذا هو الباطل الَّذي ينبغي أن يُرفض كل الرفض، ويُقاوم بشدَّة؛ لأن كتاب الله هو الكتاب الباقي للزمن كله.

إنه عامٌّ من حيث الزمان، ومن حيث المكان، فلم ينزل للبيئة العربيَّة ولا البيئة الشرقيَّة خاصة، إنَّما نزل لكل البيئات، ولكلِّ العالم شرقيِّه وغربيِّه، عجميِّه وعربيِّه، ولكلِّ الأجناس، ولكلِّ الألوان، ولكلِّ الطبقات، فهو كتاب العالم كله، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (الفرقان:1).

ومن أجل هذا لم يعرض القرآن لتفاصيل تتعلق بالبيئات، ولم يعرض لأشياء معينة تُقيِّد الناس، ومن ذلك أمره بالشورى كمبدأ وقاعدة، أما كيفيَّة الشورى؟ ومَنْ الَّذين يُستَشَارون؟ وفيمَ يُستَشَارون؟ وما الكيفيَّة الَّتي نختار بها أهل الشورى؟ فلم يعرض القرآن لذلك، حتَّى لا يكون بيئيًّا وموقوتا، إنَّما تركت للمسلمين ليجتهدوا بحسب المصالح الَّتي تتحقَّق لهم في مختلف العصور، ومختلف البيئات، ومختلف الأحوال والظروف.