مشروع تجديد وتوسعة مسجد الإمام البخاري:

كان مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية قد تبنَّى مشروعًا مهمًّا، ولكنه بعد أن مشى خطوات طيِّبة أصيب بما عطّله عن النجاح، وهو مشروع «تجديد وتوسعة مسجد الإمام البخاري وبناء معهد علمي بجواره». وذلك بولاية سمرقند من جمهورية «أوزبكستان» التي كانت إحدى جمهوريات الاتحاد السوفييتي، وقد استقلّت حديثًا، وإن بقي حكامها الشيوعيون كما هم، على غير ما حدث في أوربا الشرقية، في رومانيا وبولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا وغيرها، التي حرصت أمريكا وحلفاؤها على أن يغيِّروا أنظمة الحكم فيها، ويحوِّلوها إلى بلاد ديمقراطية، يختار الناس فيها حكامًا غير الحكام القدامى. ولكنهم لم يفعلوا ذلك في الجمهوريات الإسلامية؛ خشية من بروز تيار إسلامي، يكتسح هؤلاء الشيوعيين، ويرث الأرض من بعدهم، فآثروا أن يظل الشيوعيون على احتمال أن تجيء الديمقراطية بالإسلاميين.

تفاهم إدارة مركز أكسفورد مع رئيس جمهورية أوزبكستان:

ومع هذا تفاهمت إدارة المركز مع رئيس الجمهورية «إسلام كريموف» على إقامة هذا المشروع، على اعتبار أنه يحسِّن صورتهم عند المسلمين، وهم لن يتكَّفوا فيه شيئًا، بل على المركز أن يجمع التبرُّعات من بلاد الخليج ومن العالم الإسلامي كله، ولا سيما أنه مرتبط باسم «الإمام البخاري» الذي له دَيْن على المسلمين جميعًا بخدمته للسنة بكتابه «الجامع الصحيح»، الذي هو أصح كتاب في الإسلام بعد كتاب الله.

مؤتمر الإمام البخاري:

وقد رأت إدارة المركز: أن تبدأ هذا المشروع بإقامة مؤتمر عن «الإمام البخاري» يتَّسع فيه المقام للحديث عما قدَّمه البخاري للأمة الإسلامية من كتب في الحديث وعلومه: أعظمها: «الجامع الصحيح»، وكتبه في تاريخ الرجال، ومنهجه الذي تميز به، وفقهه الذي وضعه في مصاف المجتهدين الكبار.

ودُعِي إلى ذلك عدد من كبار العلماء، ولا سيما المشتغلين بعلوم السنة، وعلى رأسهم رئيس مجلس أمناء المركز الشيخ أبو الحسن رحمه الله، ومنهم العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والأستاذ الدكتور محمد ناصر الدين الأسد، والفقير إليه تعالى.

إلى طشقند عاصمة أوزبكستان:

وقد ذهبت إلى طشقند عاصمة أوزبكستان مع وفد من المملكة على رأسه نائب رئيس مجلس الأمناء الدكتور عبد الله نصيف، وعضو المجلس الأستاذ عبد الله علي رضا، الذي صحبناه في طائرته الخاصَّة، التي نقلتنا من جدة إلى طشقند... وقد أكرموا وفادتنا، وأنزلونا في قصر الضيافة الخاص، وعاملونا معاملة طيبة. وهذه أول مرة أزور فيها جمهورية من الجمهوريات الإسلامية، التي كانت تعد جزءًا من الاتحاد السوفييتي، ويعتبرها كثير من المسلمين من «بلاد الأقليات الإسلامية»! وكنت أقول: يا إخواننا، هذه ليست بلاد أقليات، بل هذه بلاد إسلامية أصيلة، كل أهلها مسلمون، وقد دخلت الإسلام منذ القرن الأول، فاعتبارها بلاد أقليات: لون من التحريف والتزييف للواقع.

على كل حال بقينا يومين على ما أذكر في «طشقند»، وهي التي كانت عرف بـ «شاش»، وينسب إليها الشاشيون الفقهاء وغيرهم.

وطشقند تنقسم إلى قسمين: جديد وقديم: فالجديد فيه مظاهر المدنية الحديثة، والشوارع والميادين والحدائق والمتاحف والتماثيل، وغير ذلك. وإليه كانوا يأخذوننا لنطلع على هذه الأشياء. وهناك قسم قديم من المدينة، بقي على حاله، يمثل الفقر والتخلف وسوء الحال. فهذا القسم من المدينة لا ينتمي إلى هذا العصر ولا يعرفه، إنما هو من مخلفات الماضي.

أثر الشيوعية في أوزبكستان:

هذا هو أثر الشيوعية التي حكمت هذه البلدان طوال عقود مضت. سبقت أمريكا في غزو الفضاء، وامتلكت ترسانة عسكرية هائلة، منها أسلحة الدمار الشامل، والأسلحة النووية، ولكنها لم توفر لشعوبها الرخاء الذي حصلت عليه شعوب أخرى.

لقد أنكرت الماركسية جنَّة الآخرة، التي وعدت بها أديان السماء، ووعدت أتباعها بجنة بديلة في هذه الدنيا، سيجدون فيها كل ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، حين تحكم الشيوعية، وتطبق منهجها الاقتصادي والاجتماعي، كما وعدت طبقة العمال «البروليتاريا» أن يكونوا هم ملوك الأرض، بدل الملوك والحكام السابقين.

ولكن الواقع الذي عاشته البلاد الشيوعية، وشاهدناه وشاهده الناس في العالم، لم يجدوا لجنة الماركسيين أثرًا في ديارهم، ولا حدث أن الطبقة العاملة سعدت من شقاء، وطعمت من جوع، وأمنت من خوف، بل وجدنا الطبقة العاملة في بلاد الرأسمالية أسعد حالًا، وأروح بالًا، وأكثر فاهية منها في البلاد الشيوعية.

وهذه البلاد «أوزبكستان» نموذج حيّ، وشاهد ناطق، على أن الماركسية أو الشيوعية أخفقت تمام الإخفاق في الإيفاء بوعودها، وتحقيق أحلامها. بل كانت كما قال الشاعر كعب بن زهير:

كانت مواعيد عرقوب لها مثلا     وما مواعيدها إلا الأباطيل

فلا يغرنك ما منت ما وعدت      إن الأمانيِّ والأحلام تضليل

صلاة الجمعة في طشقند:

وقد أدركتنا الجمعة، ونحن في طشقند، فاصطحبونا إلى مسجد، كان معظم المصلّين فيه من الشيوخ، وكان عنصر الشباب فيه قليلًا، على عكس ما هو واقع في العالم الإسلامي كله: أن الشباب هم الذين يعمرون المساجد، وهم العمود الفقري للصحوة الإسلامية. وكان الخطيب تقليديًّا، تُوحي خطبته بالموت أكثر مما تبعث الحياة. وقد رآنا الناس فأقبلوا علينا يرحِّبون بنا، ولكني كنت أشعر بأنهم خائفون غير منطلقين، كان هناك أغلالًا في أعناقهم، وقيودًا في أرجهلهم.

إلى مدينة سمرقند وزيارة قبر البخاري:

ثم أعدوا لنا طائرة خاصة نقلت المدعوين جميعا إلى مدينة «سمرقند» المدينة التاريخية المعروفة، وهي عاصمة المحافظة التي فيها قرية الإمام البخاري، واسمها «بخَرتَنك» وقد زرناها، وزرنا قبر الإمام، ودعونا بالدعاء المأثور في يزارة القبور، وصلينا في مسجده، وهو مسجد قديم بالفعل يحتاج إلى توسعة وتجديد.

آثار فخمة رائعة:

وقد زرنا الآثار الإسلامية في مدينة سمرقند، وهي حقًّا آثار فخمة رائعة، من المساجد والقصور والقلاع والمدارس، وغيرها، بناها تيمورلنك وخلفاؤه، وهي لا تزال تنبئ عن المجد والعظمة والرفعة التي ارتفعت إليها أمتنا في المشرق والمغرب.

قبر قُثَم بن العباس:

وأذكر من الآثار التي زرناها: قبر قُثَم بن العباس، ابن عم رسول الله، أحد الفاتحين الأوَّلين، الذين نشروا الإسلام في هذه البلاد منذ العهد الأموي، وقد قيل لأمه أم الفضل زوجة العباس رضي الله عنه، وقد ذكر أن أحد أولادها دفن في المشرق والآخر دفن في المغرب، فسئلت عن ذلك، فقالت: باعدت بينهم الهمم!

قضينا يومًا في زيارة الإمام البخاري، ثم في التعرُّف على الآثار الإسلامية في المدينة.

افتتاح المؤتمر:

وفي اليوم التالي: بدأ المؤتمر العلمي، الذي افتتحه الإمام أبو الحسن الندوي بكلمة قيمة، وقدَّمني لألقي كلمة بهذه المناسبة، وكان ذلك في شهر أكتوبر سنة 1993م.

ثم قدم أصحاب البحوث بحوثهم أو مختصرات لها، جلَّوْا فيها ما قام به هذا الإمام الجليل من خدمة لعلوم السنة، وكيف أن الله قَيَّض علماء العجم ليخدموا حديث نبيه. فأصحاب الكتب الستة كلهم أعاجم: محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج النيسابوري، وابو داود السجستاني، وأبو عيسى الترمذي، وأحمد بن شعيب النسائي، وابن ماجه القزويني.

حفل عشاء مصحوب بالموسيقى:

وفي المساء أقام لنا محافظ سمرقند: حفل عشاء، تكريمًا للعلماء الذين قدموا من بلاد العرب والإسلام، ودعا إليه عددًا من الشخصيات العامة وذوي الوجاهة في المدينة. وقدموا لنا في هذا الحفل ما لذَّ وطاب من أطعمتهم وأشربتهم، التي عرفوا بها. وكان مما قدموه لتكريمنا والاحتفاء بنا: فرقة من فرقهم من الرجال، تقدم بعض الألحان والأغاني المحلية، مصحوبة ببعض الموسيقى!

ثورة المشايخ على الموسيقى:

وما إن سمع بعض المشايخ هذه الموسيقى، حتى ثارت ثائرتهم، وهاج هائجهم، وهمس بعضهم في أذن بعض، وسرعان ما تحوَّل الهمس إلى جهر: اللهم إن هذا منكر لا يرضيك، وأقبل بعضهم إليَّ يقول: كيف ترضى يا شيخ يوسف أن تجلس في حفل فيه منكر؟

قلت: يا جماعة لا بدَّ أن يكون العالم حكيمًا، لا بد أن يراعي الظروف... هذه البلاد حكمتها الشيوعية الملحدة سبعين عامًا، وهي لم تتحرُّر منها تمامًا، لا يزال حكامها القدامى يمسكون بزمامها. وأنتم تعلمون أنه يجوز السكوت على المنكر مخالفة منكر أكبر منه، وهذا منكر صغير، بل أمر الموسيقى مختلف فيه. والمختلف فيه يجوز السكوت عليه. بل الإجماع: ألا ينكر أمر مختلف فيه. وقد علمت أن هؤلاء يغنون بمدائح نبوية، قصدوا منها تكريمنا والاحتفاء بنا! لا بدَّ أن تصبروا وتسكتوا على هذا حتى لا يخفق مشروعنا. قلت هذا أو قريبًا منه بصوت خافت، وبدون أن تحدث ضجة. وكنت أجلس عن يمين الشيخ أبي الحسن الذي يجلس عن يمين المحافظ الداعي إلى العشاء. وأبلغت الشيخ أبا الحسن، فأبدى أسفه، وقال: لا حيلة أمامنا إلا السكوت.

إخراج الفرقة الموسيقية:

ولكن إخواننا - سامحهم الله - لم يقدُروا الأمر قدره، وأرادوا أن يعاملوا هذا البلد كأنه بلد إسلامي، يحاسب على الكبيرة والصغيرة والشبهة. وكان أشدهم في ذلك شيخنا الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والدكتور محمود الطحان العالم السوري وأستاذ الحديث بالكويت، وبعض من نسيت اسمه، ثم لم يكتفوا بالقول، فترك جماعة منهم مائدة العشاء، وخرجوا تباعًا، مما جعل المحافظ يسأل: ما الأمر؟ فأخبروه: أنَّ المشايخ يعترضون على وجود الفرقة الموسيقية! قال: إنما أردنا تكريمهم. ثم أمر بإخراج الفرقة من المكان.

عودة الشيوخ وهدوء ثائرتهم وغضب المحافظ:

وهنا عاد الشيخوخ الغاضبون، وهدات ثائرتهم. ولكن الذي ثار باطنه على الجميع هو المحافظ الذي أنهى العشاء، وقد بدا عليه التأثّر والغضب، وإن لم يقل شيئًا، وصافحنا وانصرف. وفي اليوم التالي، طلب من الجميع أن يعودوا إلى طشقند في المساء، بعد أن كان سمح لهم بالبقاء ثلاثة أيام في سمرقند، ومن أراد البقاء أكثر فلا حرج عليه. وليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل إن المشروع قد توقف بعد ذلك، ولم يسر إلى الأمام خطوة واحدة، وأظنه انتهى إلى الإخفاق.

وقفة نقد وتحليل:

وهنا يقف المرء وقفة نقد وتحليل لما حدث. هل كان الأمر يستحقّ هذه الغضبة المُضَرِيَّة من المشايخ العلماء؟ ألم يكن هناك من الأعذار والمخفِّفات ما يستوجب موقفًا أخف وأيسر من موقف الإنكار الشديد؟

إنَّ الأمر الذي أنكره المشايخ ليس منكرًا مجمعًا عليه، بل هو منكر مختلف فيه قديمًا وحديثًا، وحسبنا أن رجلًا مثل ابن حزم يتمسك بظاهر النصوص وحرفيتها، لم يجد عنده نصًّا من قرآن ولا سنة يحرِّم الغناء والآلات «الموسيقية». ويكفي أن نقرأ كتابًا مثل «نيل الأوطار» لنرى الخلاف منتشرًا بين الأئمة والفقهاء في سائر العصور، في الغناء بآلة وبغير آلة.

ومن القواعد المتفق عليها: أن لا إنكار في المسائل المختلف فيها. وقد ألفت في الموضوع كتاب «فقه الغناء والموسيقى» رجَّحت فيه أنه لا يوجد نص صحيح الثبوت، صريح الدلالة، على حرمة الموسيقى. وقد الف عدد من العلماء المعاصرين انتهوا إلى ما انتهت إليه.

ومن ناحية أخرى: كان يمكن السكوت على هذا المنكر - لو سلمنا بمنكريته - لجملة أسباب، منها: ظروف البلد الذي يستضيفنا، وأنه خارج من شيوعية سافرة حكمته نحو سبعين عامًا، وأننا ضيوف على هذا البلد، وأننا نحاول إقامة مشروع نرجو له النجاح، وأن الرفق في معالجة الموقف أولى من العنف، وما دخل الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه.

ثم هذا أمر عمَّت به البلوى في داخل بلاد المسلمين التي نعيش فيها، ولا نستطيع أن نمنعه، وعموم البلوى من أسباب التخفيف والتيسير فيه.

في فندق طشقند:

على كل حال وقع ما وقع، وعدنا إلى طشقند جميعًا في طائرة واحدة، وأنزلونا في فندق من أكبر فنادق العاصمة، حتى نحن الذين كانوا أنزلونا في قصر الضيافة عند قدومنا، سحبوا منا هذه الميزة، ونزلنا مع المجموعة، ولعلّ هذا خير.

ولكن الفندق الضخم، فندق رديء في أثاثه وفي فراشه وفي خدماته، رديء في طعامه وشرابه، الخبز رديء، الطعام المطهو رديء، اللحم رديء، وقليل ما هو، سريره صغير جدًّا، ويوجد فيه تلفزيون صغير قديم، لا تجد فيه غير محطة طشقند نفسها. لا تجد فيه ثلاجة فيها قارورة ماء بارد. أهذا ما أنجزته الشيوعية طوال تلك العقود، وهي التي وعدت الناس أن تعوضهم عن جنة الآخرة التي تعدهم بها الأديان، بجنة في الدنيا تجري من تحتها الأنهار، ويقطفون فيها أطيب الثمار؟!

أعجب من ذلك كله: أنك إذا خرجت من الحجرة لتنزل إلى المطعم، أو لأيِّ سبب، لا بد أن تسلم مفتاح الحجرة، إلى مكتب في كل طابق.

ولذا لم يفكر أحدنا أن يبحث عن أسواق في هذ البلد، أو ماذا يمكن أن يشتري منه، بل كان كل همنا هو سرعة الخروج منه. ونظرًا لأننا قدمنا في طائرة خاصة، وقد عاد بها صاحبها منذ أيام، فلا بد أن نبحث عن طائرة تقلّنَا.

عودة على طائرة الشارقة:

والحمد لله وجدنا ضالتنا في «طائرة الشارقة» التي تنقل الركاب بين طشقند والشارقة، أكثر من مرة في الأسبوع، يذهب الناس من طشقند إلى الخليج، ليملئوا حقائبهم من أسواقه من كل ما يتوافر في الخليج من منتجات كهربائية وإلكترونية وغيرها، وهو ما لا يوجد في هذه البلاد التي بدت للعيان متأخرة عن هذا العصر، ليبيعوا هذه الأشياء في بلدهم، ويربحوا من ورائها.

ووصلنا الشارقة بحمد الله، ومن الشارقة أخذنا الطائرة إلى الدوحة. والحمد لله رب العالمين.