صفحة من مذكرات سماحة الشيخ القرضاوي:

أذكر أن من «الخانات» الَّتي يجب أن تُملأ: خانة المذهب الَّذي يختاره الطالب. والواقع أنِّي كنتُ أريد أن أقول للشيخ عبد المُطَّلِب: المذهب شافعي، على مذهب أهل القرية. ولكن الشيخ عبد المُطَّلِب بادرني، وقال: ما رأيُك يا شيخ يوسف، تكون حنفيًّا مثلي؟ قلتُ: على بركة الله، لأكُن حنفيًّا مثلك. وهكذا صرتُ حنفيًّا بهذه المصادفة.

وكان في معهد طنطا ومعاهد الأقاليم كلها ثلاثة مذاهب يختار الطالب واحدًا منها: الشافعيَّة، والحنفي، والمالكي.

أمَّا المذهب الحنبلي، فكان يُدَرَّس في معهد القاهرة وحده. وكان يُصْرَف لطلابه مكافأة تشجيعًا لهم، لقلَّة الراغبين فيه. وكانت فلسفة الأزهر ألَّا يبقى مذهب من المذاهب الأربعة دون أن يكون له طلَّاب - وإن قلَّ عددهم - يَدْرُسُونه.

وكان الوجه البحري ينتشر فيه مذهب الشافعي، كما كان الصعيد ينتشِرُ فيه مذهب مالك. أمَّا المذهب الحنفي، فكان له أتباع منذ عهد الدولة العثمانيَّة، وكان القضاء الشرعي يعتمد مذهبه في الحكم.

وذهبنا لإحضار شهادة إداريَّة، ممضاة من نائب العمدة وشيخ البلد، وكان نائب العمدة رجلًا فاضلًا، اسمه: الشيخ خضر أبو شادي، وقد أمضى لنا الشهادة، وقال لعَمِّي: «يا عم أحمد، أنا شايف ان ابن أخيك هذا سيكون له شأن في مديريَّة الغربيَّة». فقال له عمِّي: ربُّنا يسمع منك.

وأذكر أنَّه بعد سنوات، وأنا طالب في الثانوي، وقد طفِق النَّاس في القرية وفي طنطا يتحدَّثون عنِّي، كنتُ أخطب في المساجد، وأتحدَّث في المناسبات، ولا سيَّما في المآتم. قابلني الشيخ خضر، وقال لي: لعلَّك تذكر ما قلته لعمِّك من قبل: إنَّه سيكون لك شأن في مديريَّة الغربيَّة، وأنا الآن أقول: إنَّه سيكون لك شأن في بَرِّ مصر كلِّه.

وقدمت الانتساب، وتحدد امتحان القبول، وكنَّا نُمتحن في القرآن شفهيًّا، وفي الحساب والإملاء تحريريًّا. والحمد لله، فقد تم الامتحان بنجاح، وأرسلت إدارة المعهد كتابًا إلى وليِّ أمري تقول له فيه: الطالب المذكور نجح في امتحان القبول، وعليه الحضور إلى المعهد يوم ... مرتديًا الزي الأزهري، وهو: العمامة، والجبَّة ذات الطوق (الكاكولة).

وكنَّا ثمانية من أبناء صفط تقدمنا إلى المعهد، وأذكر أنَّ أكثرهم نجح في امتحان القبول، وأن بعضهم قد تخلَّف بعد سنة واحدة، أو أكثر.

كان أهل القرية في هذه الفترة كثيرًا ما يُقَدِّمونني لأؤمَّهم في الصلوات الجهريَّة، وخصوصًا صلاة الفجر في رمضان، وعلى الأخصِّ في فجر الجمعة، فقد كنتُ أقرأ سورة السجدة كاملة، على حين تعوَّد كثيرٌ من الأئمَّة أن يقرأ جملة آيات تشتمل على آية السجدة.

وكنتُ في هذا الوقت عميقَ التأثُّر بالقرآن الكريم، شديدَ التجاوب مع وعده ووعيده، يكاد البكاءُ يغلبني، وتسبقني الدموع، ويتأثَّر النَّاس خلفي بتأثُّري، ويظهر نحيبُهم في الصفوف؛ ممَّا يذكِّرنا بمن وصفهم الله في كتابه: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىٰٓ أَعۡيُنَهُمۡ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمۡعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلۡحَقِّۖ يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَٱكۡتُبۡنَا مَعَ ٱلشَّٰهِدِينَ} (المائدة:83).