مع رجال الإعلام والصحافة:

في هذه المرحلة لقيتُ كثيرين من رجال الإعلام والصحافة من عرب وغربيين، أوربيين وأمريكان، بعضهم جاء إلى الدوحة لمجرَّد لقائي وسؤالي، وخصوصًا عن الصحوة الإسلامية، وصعودها الذي لفت إليه الأنظار في العالم، حتى قال لي صحفي أمريكي باندهاش: إنَّ الشباب في العالم كله يبتعد عن الدين، وشباب العالم الإسلامي يلتفُّ حول الدين، ودعاة الدين، ما سر ذلك؟

ومعظم إجاباتي عن هذه الحوارات كانت مرتجلة، ولكنها كانت واضحة في ذهني تمامًا، وبعضها كتبتها... وقد جمع بعضها ونشر في كتب ... وبعضها أوصيتُ بجمعه ونشره، وصدر منه: كتاب «قضايا معاصرة على بساط البحث»، وكتاب «حوارات ولقاءات حول الإسلام والعصر» في جزأين، وكتاب «نحن والغرب: أسئلة شائكة وأجوبة حاسمة».

حوار الأستاذ عمر عبيد حسنة:

ومن هذ الحوارات المهمة التي تستحق التسجيل في هذه المذكرات: حوار الكاتب الإسلامي المعروف الأستاذ عمر عبيد حسنة، مدير مجلة «الأمة» القطرية الشهيرة، الذين أجرى معي حوارًا معمّقًا ومطولًا في رمضان 1408هـ إبريل 1988م، نشره في «كتاب الأمة» بعنوان «فقه الدعوة: ملامح وآفاق» الذي جمع فيه مجموعة حوارات «الأمة» مع كبار العلماء والمفكرين المسلمين، وكان حواره معي حول: «الاجتهاد والتجديد بين الضوابط الشرعية وحاجات العصر».

خلاصة آرائي في الإصلاح والتجديد:

وقد قدّم الأستاذ عمر لهذا الحوار بتعريف مركّز، تضمن خلاصة آرائي في الإصلاح والتجديد الإسلامي. وممّا جاء فيه:

ولعل نظرة سريعة على عناوين الكتب التي قدَّمها للمكتبة الإسلامية، تعطي صورة واضحة عن شمولية اهتماماته، والقدر الهام الذي ساهم به في تشكيل العقل الإسلامي المعاصر، وما منحه من الفقه الضروري للتعامل مع الحياة، وتصويب المسار للعمل الإسلامي، وترشيد الصحوة لتلتزم المنهج الصحيح، وتأمن منزلقات الطريق.

فهو يرى أن الحركة الإسلامية تعني مجموع العمل الإسلامي الجماعي الشعبي المحتسب المنبثق من ضمير الأمة، والمعبِّر بصدق عن شخصيتها وآلامها وآمالها وعقيدتها وأفكارها وقيمها الثابتة وطموحاتها المتجدِّدة وسعيها إلى الوحدة.

كما يرى أنه ليس من العدل تحميل الحركة الإسلامية مسئولية كل ما عليه مسلمو اليوم من ضياع وتمزُّق وتخلُّف، بل إن ذلك هو حصيلة عصور الجمود وعهود الاستعمار، وإن كان عليها بلا شك قدر من المسئولية يوازي ما لديها من أسباب وإمكانات مادية ومعنوية هيأها الله لها، استخدمت بعضها، وأهملت بعضًا آخر، وأساءت استعمال بعض ثالث.

ويرى ضرورة أن تقف الحركة الإسلامية مع نفسها للتقويم والمراجعة، وأن تشجِّع أبناءها على تقديم النصح وإن كان مُرًّا، والنقد وإن كان موجعًا. ولا يجوز الخلط بين الحركات الإسلامية والإسلام ذاته، فنقد الحركة لا يعني نقد الإسلام وأحكامه وشرائعه. ولقد عصم الله الأمة أن تجتمع على ضلالة، ولكنه لم يعصم أي جماعة، أن تخطئ أو تضل خصوصًا في القضايا الاجتهادية التي تتعدد فيها وجهات النظر.

ويقول: إن بعض المخلصين يخافون من فتح باب النقد أن يلجه من يحسنه ومن لا يحسنه، وهذا هو العذر نفسه الذي جعل بعض العلماء يتواصون بسد باب الاجتهاد، والواجب أن يفتح الباب لأهله، ولا يبقى في النهاية إلا النافع، ولا يصح إلا الصحيح.

وهو لا ينكر تعدُّد الجماعات العاملة للإسلام، ولا يرى مانعًا من التعدد إذا كان تعدد تنوع وتخصُّص: فجماعة تختص بتحرير العقيدة من الخرافة والشرك، وأخرى تختص في تحرير العبادات وتطهيرها من البدع، وثالثة تُعني بمشكلات الأسرة، ورابعة تعني بالعمل التربوي. ويمكن أن تعمل بعض الجماعات مع الجماهير وبعضها الآخر مع المثقفين، على شرط أن يُحسن الجميع الظن بعضهم ببعض، وأن يتسامحوا في مواطن الخلاف، وأن يقفوا صفًّا واحدًا في القضايا الكبرى.

ويرى أنَّ على الحركة الإسلامية أن تنتقل من مرحلة الكلام إلى مرحلة العمل على مستوى الإسلام ومستوى العصر - ولا يعفيها من سؤال التاريخ أن تقول: إنها كانت ضحية لمخطَّطات دبَّرتها قوى جهنمية معادية للإسلام من الخارج - وأن تعمل في إطار النخبة والجماعير معًا. وسوف تنجح الحركة الإسلامية عندما تصبح حركة كل المسلمين لا حركة فئة من المسلمين.

ويأخذ على بعض العالمين للإسلام حرمان أنفسهم من العمل لخير الناس أو مساعدتهم حتى تقوم الدولة الإسلامية المرجوة. فهو يرى أن كل مهمة هؤلاء «الانتظار» فهم واقفون في طابور الانتظار دون عمل يذكر حتى يتحقق موعودهم.

ويرى ضرورة التخطيط القائم على الإحصاء ودراسة الواقع، وأن من آفات الحركة الإسلامية المعاصرة غلبة الناحية العاطفية على الاتجاه العقلي والعلمي، كما أن الاستعجال جعل الحركة الإسلامية تخوض معارك قبل أوانها، وأكبر من طاقتها.

ويأخذ على بعض العاملين للإسلام النفور من الأفكار الحرة والنزعات التجديدية التي تخالف المألوف والمستقر من الأفكار، وضيقهم بالمفكرين، وربما أصدروا بشأنهم قرارات أشبه بقرارات الحرمان.

ويقول: إن اتباع أهواء العامة أشدّ خطرًا من اتباع هوى السلطان، لأن الذين يتبعون هوى السلطان يكشفون ويرفضون.

ويرى أنَّ الاستبداد السياسي ليس مفسدًا للسياسة فحسب، بل هو مفسد للإدارة والاقتصاد والأخلاق والدين، فهو مفسد للحياة كلها.

ويرى أن الصحوة الإسلامية تمثِّل فصائل وتيارات متعدِّدة كلها تتفق في حبها للإسلام، واعتزازها برسالته، وإيمانها بضرورة الرجعة إليه، والدعوة إلى تحكيم شريعته، وتحرير أوطانه، وتوحيد أمته.

ويعتبر أهم تيارات الصحوة وأعظمها هو التيار الذي أسماه تيار «الوسطية الإسلامية» لأنه التيار الصحيح القادر على الاستمرار، ذلك أن الغلو دائمًا قصير العمر وفقًا لسنة الله.

ويرى أن أهم المحاور التي يقوم عليها هذا التيار، والمعالم التي تميزه:

- الجمع بين السلفية والتجديد.

- الموازنة بين الثوابت والمتغيرات.

- التحذير من التجميد والتجزئة والتمييع للإسلام.

- الفهم الشمولي للإسلام(1).

وينصح الحركة الإسلامية أن تعمل على ترشيد الصحوة، ولا تحاول احتواءها أو السيطرة عليها، فمن الخير أن تبقى الصحوة حرة غير منسوبة إلى جماعة أو هيئة أو حزب.

ويرى أنه ليس من العدل ولا من الأمانة أن نحمّل الشباب وحدهم مسئولية ما تورطوا فيه، أو تورط فيه بعضهم من غلو في الفكر أو تطرف في السلوك ... والعجب أننا ننكر على الشباب التطرف ولا ننكر على أنفسنا التسيّب، ونطالب الشباب بالاعتدال والحكمة ولا نطالب الشيوخ والكبار أن يطهروا أنفسهم من النفاق.

ويرى أن الشباب ضاق ذرعًا بنفاقنا وتناقضنا فمضى وحده في الطريق إلى الإسلام دون عون ما.

ويرى أن المؤسسات الدينية الرسمية - على أهميتها وعراقتها - لم تعد قادرة على القيام بمهمة ترشيد الصحوة الشبابية، وعلاج ظاهرة الغلو، ما لم ترفع السلطات السياسية يديها عنها، وأن الذي يعيش مجرَّد متفرج على الصحوة الإسلامية، أو مجرَّد ناقد لها وهو بعيد عنها، لا يستطيع أن يقوم بدور إيجابي في تسديدها وترشيدها، فلا بدَّ لمن يتصدَّى لنُصح الشباب من أن يعايشهم ويشاركهم همومهم، ويتعرَّف على حقيقة حالهم.

ويرى أن أسباب الخلاف قائمة في طبيعة البشر، وطبيعة الحياة، وطبيعة اللغة، وطبيعة التكليف، فمن أراد أن يزيل الخلاف بالكلية فإنما يكلف الناس والحياة واللغة والشرائع ضد طبائعها، وأن الخلاف العلمي لا خطر فيه إذا اقترن بالتسامح وسعة الأفق، وتحرر من التعصب وضيق النظر.

ويرى أن الأمة المسلمة اليوم ابتدعت في دين الله، والابتداع في الدين ضلالة، وجمدت في شئون الدنيا، والجمود في الدنيا جهالة، وكان الأجدر بها أن تعكس الوضع فتتبع في أمر الدين، وتبتدع في أمر الدنيا.

ويرى أن من العلماء من قصَّر في واجب البلا المبين، ومنهم من مشى في ركاب السلاطين، ومنهم من جعل من نفسه جهازًا لتفريخ الفتاوى حسب الطلب.

والحكام في الغالب أشبه بشعوبهم، وهم إفراز مجتمعهم.

ولا شك في أن الأخ الدكتور يوسف القرضاوي يعتبر من أبرز الفقهاء المعاصرين الذين يتمتعون بقدرة متميزة على النظر الدقيق من خلال كسبه المتعمق للعلوم الشرعية، وتجربته الميدانية في مجال العمل الإسلامي، كما يعتبر من المفكرين الذين يمتازون بالاعتدال، ويجمعون بين محكمات الشرع ومقتضيات العصر، وتجمع مؤلفاته بين دقة العالم، وإشراقة الأديب، وحرارة الداعية(2).

....................

(1) وقد بلغت ثلاثين معلمًا في كتابي «فقه الوسطية والتجديد في الإسلام» الذي يصدر قريبًا من مركز القرضاوي للوسطية الإسلامية والتجديد في مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع.

(2) من كتاب «الأمة» التاسع عشر «فقه الدعوة: ملامح وآفاق» (ص 148 - 151).