صفحة من مذكرات سماحة الشيخ القرضاوي: 

كنت أقضي الوقت أحيانًا مع خالي في رحلاته التجاريَّة، ولكنِّي لا أحبُّ أن أكون تاجرًا، وأحيانًا مع عمِّي وابن عمي في الأعمال الزراعيَّة، وهي مهنة لا أٌحسِنها ولا أحبُّها أيضًا.

وقد قضيتُ منذ ختمت القرآن عدَّة سنوات من حياتي في فراغ، لا أجد ما يملؤه، إذ لم يكن في القرية ما يملؤه.

لو وجدت من يُعَلِّمني لغة أجنبيَّة لخطوتُ فيها خطوات سريعة، فقد كانت قدرتي اللغوية فائقة، ولكن لم يكن في قريتنا ما يُعين على ذلك، وما يدفع إليه.

أو لو وجدت من يُحَفِّظُني كُتُب الحديث كالبخاري ومسلم وغيرها، لوجدتُ عندي استعدادًا غير عادي، ربَّما يُعيد بعضَ عهد السابقين.

ولو وجدتُ مَن يُيَسِّر لي كتب الأدب العربي لالتهمتُها. ولكنِّي جلستُ أقرأ بعض سيرة بني هلال أو غيرها من الملاحم الشعبيَّة، الَّتي كانت ميسورة للناس في ذلك الوقت.

وبقيتُ هكذا منتظرًا متربِّصًا، سائلًا الله تعالى أن يختار لي الخير، داعيًا بما دعا به نبي الله موسى حين آوى إلى الظلِّ في مَدْيَن، فقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلۡتَ إِلَيَّ مِنۡ خَيۡرٖ فَقِيرٞ} (القصص:24).

وشاءت إرادة الله جل شأنه أن يُحَرِّك هذا الأمر الساكن. وإذا أراد الله أمرًا هيَّأ له الأسباب، وأزال من طريقه الموانع. فقد كنتُ في يوم من أيَّام الصيف مع عمِّي وابنَيْ عمِّي في الحقل، وفي وقت القيلولة. وتحت شجرة من أشجار الجُمَّيز ذات الظل الوارف الثقيل، جلسنا نتناول الغداء، وبجوارنا قُلَّةٌ فخارية اعتاد الفلَّاحون أن يصطحبوها معهم مليئة بالماء، تهبُّ عليها نسمات الهواء، فتمنحها شيئًا من البرودة الَّتي تترطب بها الحلوق في هذا الجو الحار.

في هذا الوقت مرَّ شيخٌ يلبس جبة وعمامة من قرية «الهياتم» المجاورة لنا، والَّتي تشاركنا في محطة القطار، جاء في زيارة إلى مسجد سيِّدي عبد الله بن الحارث، وزيارة بعض من يعرفهم من أهل صفط. ومال الشيخ إلى مجلسنا، وجلس بجوارنا، وقال: هل عندكم من شربة ماء؟

فقلنا له: نعم، وأعطيناه القُلَّة ليشرب منها.

ثم قال له عمي: يا سيِّدنا الشيخ، نريد أن تختبر هذا الشيخ الصغير، ابننا.

فقال له: هل هو ابنك؟

قال: نعم.

ثم توجه إليَّ قائلًا: هل تحفظ القرآن؟

قلت: نعم والحمد لله، ولا أُسقط منه حرفًا.

فسألني عدة أسئلة من القرآن من أوائله وأواسطه وأواخره، فوجدني أحفظه حفظًا كاملًا، كما رآني أحسن تجويده وتلاوته.

فوجه الحديث إلى عمي وقال له: ما اسمك؟ قال: أحمد.

قال: يا عمُّ أحمد، هذا الولد يجب أن يذهب إلى الأزهر؛ حرام ألا يتعلَّم في الأزهر، لماذا لا تقدم له في الأزهر؟

قال عَمِّي: يا سيِّدنا الشيخ، نحن أناس فقراء، والأزهر طريقه طويل، ومع هذا يتخرَّج علماء الأزهر منه فلا يجدون عملًا، وها هم أولاء علماء بلدنا قاعدون بلا عمل.

قال الشيخ: يا عمُّ أحمد، أنت رجل فلَّاح، وإذا بذرت في الأرض بذرة، هل تضمن أن تنمو البذرة حتَّى تخرج الثمرة؟

قال: لا.

قال: ألم يحدث في بعض السنوات أنْ أكلتِ الدودةُ زرعَكَ؟

قال: حدث.

قال الشيخ: هلِ امتنعتَ بعدها عن الزرع؟

قال عَمِّي: لا. أنا أؤدِّي واجبي، والباقي على الله.

قال الشيخ: أحسنتَ، أنت عليك أن تُؤدِّي واجبَكَ، والباقي على الله.

يا عمُّ أحمد، هل تعرف ما يحدث لك بعد أسبوع، أو غدًا؟

قال عمي: لا. المستقبل بيد الله.

قال الشيخ: فإذا كنتَ لا تعرف ماذا يحدث غدًا؛ لأن المستقبل بيد الله، فكيف تتحكم فيما سيحدث بعد خمسة عشر عامًا تتغير فيها أحوال، وتزول دول، وتقوم دول؟! أدِّ الواجبَ عليك يا عم أحمد، واتركِ المستقبلَ لمن يدبِّره!

ثم توجه الشيخ إليَّ، وقال لي: هل يكفيكَ عشرة قروش في الشهر؟

قلتُ له: يكفيني خمسة، بل أنا أستطيع أن أعيش على العيش والدُّقَّة.

قال ابنا عمِّي: نحن نكري أنفسنا ونوفِّر له ما يحتاج إليه.

هذا خلاصة ما جرى من حوار بين الشيخ وبين الأسرة، عبَّرتُ عنه بأسلوبي.

وكأنَّما كان هذا الشيخ الَّذي لم نسأله عن اسمه، ولم ألقَه بعد ذلك، كان رسولًا من السماء لتحريك هذا الأمر. ولو كنتُ ممَّن يبالغون في إثبات الخوارق والكرامات - شأن الكثيرين ممَّن ينتسبون إلى الدين - لقلتُ: إن هذا الرجل كان ملَكًا تصوَّر بصورة رجل، ليحل الله على يديه مشكلتي ثمَّ اختفى!

ولكن الواقع أنه رجل من بني آدم من قرية الهياتم، وهو سبب من الأسباب ساقه الله ليصنع به قدره، وفق سننه الَّتي لا تتبدَّل.