د. يوسف القرضاوي
كتب بعض المفكرين المسلمين كتابًا وأسماه «الظاهرة القرآنيَّة»، وذكر فيه أن إخناتون - الفرعون المصري الَّذي عرف بالدعوة إلى التوحيد، وترك الشمس وآلهة المصريين القدماء «رع، وآمون، وغيرها»، ودعا إلى إله واحد وإلى التوحيد - هو فرعون موسى، وقال: «إنَّه وجد في تاريخ هذه الدعوة أنَّها كانت انقلابًا مفاجئًا في حياته لم يسبقه إرهاصات تدلُّ عليه، وفي رأيه أن فرعون موسى نجا وبعد نجاته - وكان قد آمن في اللحظة الأخيرة من حياته - بدأ يدعو إلى التوحيد، واستدلَّ على ذلك بما جاء في سورة يونس: {.. حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً..} (يونس:90-92). فقال: القرآن يقول: إنَّ فرعون نجا.
وقد قابلتُ هذا المفكر، وذكرتُ له ما قاله في كتابه، وقلت له: إن هذا مخالف لما في القرآن، فالقرآن قال: {نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ}، وأراد الله سبحانه وتعالى أن تظهر جثَّته ويراها النَّاس بأعينهم حتَّى لا يقولوا: إنَّ الآلهة قد رفعته إلى السماء أو أنه ذهب إلى أبيه الإله أو نحو ذلك، ولذلك قال الله تعالى: {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً}.
أما إيمانه فقد رُفِضَ: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}؛ لأنَّ الإيمان الَّذي يُعتدُّ به لابدَّ أن يكون في حالة الاختيار. أما الإيمان في حالة الاضطرار فلا يقبل كما جاء في سورة غافر: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} (غافر:84-85).
وإيمانُ فرعون من هذا النوع المرفوض؛ لأنَّه جاء حينما أدركه الغرق، يقول الله عزَّ وجلَّ: { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ..} (النساء:18). فهذه ليست توبة، ولا تصلح لكافر أن يؤمن، أو لعاص أن يتوب، ثم إنَّ القرآن يقول عن فرعون: {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا} (الإسراء:103)، ويقول أيضًا: {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} (الأنبياء:77،الزخرف: 55)، فهو في الغرقى الهلكى، وقد ذمَّه القرآن وجعله من أهل النار، قال تعالى عنه: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} (القصص:39)، وقال: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ} (القصص:41، 42)..
ففرعون يقينًا من أئمة أهل النار، وأتْبعه الله اللعنة في الدنيا وفي الآخرة؛ فكيف يقال أنه عاد ودعا إلى التوحيد؟! فهذا الخطأ لابدَّ أنه جاء من أخذ آية دون النظر إلى الآيات الأخرى في نفس الموضوع.