د. يوسف القرضاوي

كان من آثار التصوُّف في قريتنا: الاهتمام بـ «موالد الأولياء». وأهمُّها وأبرزها: مولد السيِّد «أحمد البدوي» بمدينة طنطا القريبة منَّا، «على بُعد نحو عشْرين كيلو مترًا» من القرية، والَّتي هي عاصمة مديريَّتنا، والَّذي كان يُحتفل به كلَّ سنة لمدَّة أسبوع كامل، تحتشد فيه عشرات الألوف بل مئات الألوف من مديريَّة الغربيَّة وغيرها من مديريَّات الوجه البحري، بل يأتي إليه ألوف من الصعيد. وتنصب الخيام في ضواحي طنطا (قرية سيجر وما حولها)، ويأتي النَّاس محمَّلين بالزاد معهم، مصطحبين معهم الخِراف الَّتي نذروها للمولد أو للسيِّد.

وتكون هذه فرصة سنويَّة لأهل القرية، ليخرجوا في إجازة إجباريَّة من أعمالهم المُنْهِكة، ومن قريتهم ليعيشوا في المدينة، وقد تبهرجت وتزيَّنت، ولبست أبهى حُلَلِها، وجاء أصحاب الألعاب المختلفة ليعرضوا ألعابهم، وكثير من «النصَّابين» كذلك، ليستغلُّوا سذاجتهم، ويسلبوا منهم أموالهم.

وفي آخر ليلة من الأسبوع (ليلة الجمعة) تطلق الصواريخ إيذانًا باستكمال الاحتفال، وتُسَمَّى: «الليلة الكبيرة». وفي يوم الجمعة وبعد الصلاة تكون «رَكْبة الخليفة». والخليفة هذا هو أحد ورثة المحتفَى بمولده، وهو يركب حصانًا، ويلبس ثيابًا تاريخيَّة خاصَّة، وعليه عمامة كبيرة، ويطاف به في الشوارع الكبرى بالمدينة، وأمامه أصحاب المهن والصناعات المختلفة في عربات مزوَّقة ومزخرفة. وفي الطريق على الجانبين: النَّاس الَّذين اصطفُّوا بكثافة وغزارة، وفي ازدحامٍ شديد، حيث يختلط الرجال بالنساء، متماسِّين متلاصقين، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله.

وبانتهاء «زفَّة الخليفة» ينتهي المولد، ويعود النَّاس إلى قراهم وبلدانهم، وقد حملوا معهم «الحِمَّص والحلاوة» من ذكريات المولد. ومن لم يستطع أن يعود بشَيْء من ذلك قال النَّاس عنه: رجع من المولد بلا حمص! وهي كلمة أصبحت مثلًا شائعًا.

وبعد مولد السيِّد البدوي بقليل يبدأ مولد آخر لولي شهير آخر، في مدينة دسوق، الَّتي كانت تتبع مديريَّة الغربيَّة أيضًا. وهو مولد سيِّدي «إبراهيم الدسوقي»، دفين مدينة دُسُوق، وهو أحد الأولياء المشهورين عند العوامِّ، ويقول عنه الناس: إنَّه أحد «الأقطاب الأربعة» الَّذي وَكَلَ الله إليهم التصَرُّف في هذه الأرض، كل منهم له ربعها. فأحدهم: أحمد البدوي، والثاني: إبراهيم الدسوقي، والثالث: عبد القادر الجيلاني، والرابع: أحمد الرفاعي!

وهي بالقطع خرافة لا أساس لها من دين الإسلام، وهي تنافي عقيدة التوحيد، الَّتي جعلت الأمرَ كلَّه لله، فلا يملك نبيٌّ ولا وليٌّ أن يتصَرَّف في الكون في حياته، فما بالك بعد مماته؟! ولقد قال الله تعالى لخاتم رسله وصفوة خلقه: {قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:188].

وفي قريتنا كان يقام مولدان، أحدهما: مولد سيِّدي عبد الله بن الحارث الصحابي، والثاني: مولد سيِّدي سليمان، وكلاهما صورة مصغَّرة من الموالد الكبرى. أي هو مولد على مستوى القرية، وإن كان مولد سيِّدي عبد الله أهم وأكبر.

وكل ما كان يُهِمُّني من هذه الموالد في صباي هو اللهو واللعب، والتمتُّع بشِراء الأشياء من المولد، إذا استطعت ذلك، فكثيرًا ما كان ضِيقُ ذات اليد، وقلَّة النقود تحول بيني وبين ما أشتهي، والله تعالى يقول: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7].

رأيي في الموالد:

ولي رأي في هذه الموالد، أقوله بعد تأمُّل طويل وتحليل لهذه الظاهرة الشعبيَّة المنتشرة في أكثر العالم الإسلامي، وأرجو ألا يُغضب هذا الرأي إخواننا المتشددين في أمر الموالد.

الَّذي أراه: أنَّ هذه الموالد ليست إلَّا «مهرجانات شعبيَّة» وأفراحًا عامَّة للجماهير، تنفِّس بها عن ذاتها، وتعبِّر بها عن مشاعرها، وتعطي أنفسها إجازة من عملها المُضْنِي طَوَال العام، الَّذي تَكِدُّ فيه اليمين، ويعرق الجبين، لتمرح وتلهو مدَّةَ أسبوع من الزمان. ونظرًا لأن مجتمعاتنا مجتمعات دينيَّة، وكل شيء في حياتها موصول بالدين، فقد مزجت هذه المهرجانات بالدِّين، وأضفت عليها طابعًا دينيًّا، أو شكلًا دينيًّا، أو عنوانًا دينيًّا. وهي - في الحقيقة - مهرجانات دنيويَّة محضة، وكل ما فيها دُنْيا مرح ولهو ولعب وأسواق وبيع وشراء.

فلو قيل عن «مولد السيِّد البدوي»: مهرجان طنطا السنوي الشعبي، لكان هذا القول حقًّا، ولعبَّر عن واقع الحال بصدق.

وكذلك يقال عن «مولد الدسوقي»: مهرجان دسوق السنوي.

وكذلك مولد قريتنا: «مهرجان صفط تراب» السنوي الأوَّل، والثاني.

واعتقادي أن (99%) من الَّذين يذهبون إلى هذه الموالد لا يخطر في بالهم فكرة التعبُّد لله تعالى بالذهاب إلى المولد، ولكن الدافع لهم هو: الفسحة، والترويح، والترفيه.

وفي هذه الحالة ينبغي أن نضبط هذه الموالد بما نضبط به كل المهرجانات الشعبيَّة الكبرى، من حيث: الإعداد، وحسن التنظيم، والمحافظة على الصحة والنظافة، ورعاية الآداب العامَّة، وحماية عوامّ النَّاس من النصَّابين، إلى غير ذلك ممَّا لا بدَّ منه في مثل هذه التجمعات الكبيرة درءًا للمفاسد، وجلبًا للمصالح. كما لا بدَّ من تهيئة توعية دينيَّة نيِّرة لهذه الجماهير الغفيرة المحتشدة في هذا المهرجان، لتصحيح عقائدهم وعباداتهم، وضبط سلوكهم وفق معايير الشرع، وتحرير معتقداتهم من الشركيَّات، وعباداتهم من المبتدَعات، وأخلاقهم من السلبيَّات.   

.....

- المصدر: "ابن القرية والكتاب.. ملامح سيرة ومسيرة".