وبدأت السنة الثالثة الابتدائية بالمعهد، وذهبنا قبلها بيومين أو ثلاثة لنبحث عن مسكن جديد، بعد الإجازة.

وكانت المساكن متوافرة تعرف أحيانا بكتابة لافتة "حجرة للإيجار" وأحيانا بالسؤال. وبعض الناس تكون عندهم حجرات، ولكنهم لا يرضون بسكنى الطلبة عندهم، إما لأنهم اشتهروا ـ أو كثير منهم ـ بالفوضى وسوء استخدام بيوت السكنى. وإما لأن عندهم بنات بالغات، ولا يريدون لهن أن يحتكوا بالشباب، أو لغير ذلك.

وبعض هؤلاء كان إذا تكلم معنا استراح إلينا، وقال: يبدو أنكم مستقيمون، والكتاب يقرأ من عنوانه.

على كل حال، وفقنا إلى سكن في شارع "الحلو" وهو شارع مشهور في كفر "علي أغا" في طنطا، وقد تطور في هذه السنة الأثاث الداخلي، فاشتريت "كنبة إستانبولي" (أريكة من الخشب توضع عليها وسائد ومراتب من القطن تستعمل في مصر للجلوس أو النوم كما نسميها)، لأنام عليها، وأذاكر عليها. وكانت هذه خطوة تقدمية كبيرة في طريق الرفاهية، ولكني اشتريت الكنبة مستعملة، فلم تكلفني كثيرا، كما أنها ليست لها تكاليف أخرى بعد شرائها.

وقد سكن معي في هذه السنة طالب يدرس في المدارس المدنية من أهل القرية، ومن أسرة طيبة من الطبقة الوسطى، هو فؤاد حامد ضيف، الذي أراد والده أن يسكن معي، ليتعلم الدين، ويحافظ على الصلاة. وقد كان فؤاد مثالا طيبا في الدماثة وحسن الخلق وطيب المعاشرة، وقد تقدم بعد ذلك إلى الطيران، وانقطعت عني أخباره.

علم النحو والصرف:

وكانت الدراسة ماضية في طريقها المعتاد، لا جديد فيها، إلا ما أضيف إلينا من "علم الصرف" الذي هو شقيق "علم النحو"، وكان يدرسهما لنا مدرس مجتهد نشيط يشد الطلاب إليه بحسن طريقته، وسهولة إيضاحه، وهو الشيخ "مصطفى غبارة"، من أبناء مركز طنطا، وكان يحبني ويعتز بي.

ولقد سهل الله جل شأنه علي علم النحو والصرف منذ السنة الأولى الابتدائية، فهضمت النحو ووعيته بيسر وسهولة، لم أحس معه بأي عنت، وكان زملاؤنا يشكون من صعوبة النحو، ثم اشتكوا بعد ذلك من صعوبة الصرف، وأنا أجدهما عندي كشربة الماء العذب البارد على الظمأ. ومن يوم درست النحو إلى اليوم، وأنا لا أخطئ فيه إذا قرأت أو إذا تكلمت، من غير تعب ولا تكلف، كأنها فطرة أو طبيعة.

ولذا كان مدرسو النحو من أحب المدرسين إلى قلبي، ابتداء من الشيخ "محمد شعت" مدرس السنة الأولى، إلى صهره الشيخ "رجب زبادي" مدرسي في السنة الثانية، إلى الشيخ "مصطفى غبارة"، فمن بعده.

السنة الرابعة الابتدائية :

وانتقلت إلى السنة الرابعة الابتدائية، وهي السنة التي تتم بها هذه المرحلة ليتهيأ الطالب للقسم الثانوي، ولم يكن ثم شيء جديد فيما يتعلق بالدراسة، إلا أننا كنا ندرس فيها الرياضيات والهندسة والجبر، وكان يدرسها لنا أحد الشيوخ، وهو نابغة في الرياضيات وهو الشيخ "عبد الوهاب غانم".

كما كان يدرسنا علم الجغرافيا الأستاذ البهي الخولي، وكان شديدا جدا في المحاسبة على ما يكلفنا به، ولم أكن أحب علم الجغرافيا لسببين: الأول: أني لا أحسن رسم الخرائط، والثاني: أنه يقوم على حفظ أسماء البلدان والمواقع ونحوها، ولم أكن أحسن حفظ ما لا أشعر بحاجة إلى حفظه.

وكان بعض زملائنا يحفظ هذه المفردات وإن كان لا يفهمها، حتى إن بعض زملائنا ضبطناه مرة، وهو يكرر مرة بعد مرة " صحراء كلّها ريّ، صحراء كلها ري " وتعجبنا وقلنا له: يا فلان كيف تكون صحراء وكلها ري؟ قال: الكتاب يقول ذلك. قلنا: الكتاب لم يشكلها، ولكن أنت الذي شكلتها بما تنطق به. والحقيقة أنها "صحراء كلَهَارِي"!‍

وفي هذه السنة حدثت عدة أحداث مهمة.

قصيدتي في دار الإخوان:

فقد دعاني بعض شباب الإخوان المسلمين إلى إلقاء قصيدة في افتتاح الموسم الثقافي بدارهم قرب ميدان الساعة، بعد أن ذاع صيتي بين طلاب المعهد بقول الشعر.

وفعلا أعددت قصيدة قافيّة القافية، وألقيتها بالدار، وكان لها وقع طيب في نفوس الإخوان، ولا سيما بين الشباب. ومطلعها :

قلبي يحس برحمة تتدفق  **  ويرى الملائك حولنا قد أحدقوا

وكأن أحمد والصحابة أقبلوا  **  ويرى الملائكة حولنا قد أحدقوا

وقد سألني الإخوان في هذه الليلة: لماذا لا تنضم إلى الإخوان؟

قلت لهم: وكيف ينضم المرء إلى الإخوان؟

قالوا: تملأ استمارة انضمام إليهم، فتصبح بذلك واحدا منهم.

فقلت لهم: هاتوا لي استمارة وأنا أملؤها في الحال، فالواقع أني أعتبر نفسي واحدا من الإخوان، وإن لم أكتب هذه الاستمارة، منذ سمعت المرشد العام الأستاذ "حسن البنا" رحمه الله في السنة الأولى.

وملأت الاستمارة، وأصبحت من ذلك الوقت عضوا رسميا في الإخوان، وقالوا لي: يمكن أن تمارس نشاطك في قسم الطلاب باعتبارك طالبا في المعهد. وكان رئيس قسم الطلاب شابا ذكيا نشيطا، اسمه "إبراهيم مصطفى"، وقد بدأت ألتقي به، وأتلقى التعليمات منه.

أول خطبة منبرية في حياتي:

وفي هذه السنة كانت أول خطبة منبرية في حياتي، فقد ذهبنا إلى القرية، لا أذكر بأي مناسبة، وطلب إلي أن أخطب الجمعة، فرحبت بذلك، وألقيت خطبة كان موضوعها "الشكر لله".

وقد لاقت قبولا حسنا من الناس، وأثنى عليها العلماء وطلاب الأزهر، وقالوا: إنها فريدة في مضمونها وفي طريقتها وفي إلقائها. فلم أحاول أن أقلد فيها زيدا أو عمرا من الخطباء الذين كانوا قبلي. وهذا هو ديدني دائما وأبدا: ألا أحاول تقمص شخصية غيري، بل أنطلق من ذاتي وحدها، تاركا نفسي على سجيتها.

كان ذلك في مسجدنا الجامع مسجد المتولي، الذي بدأت به أول درس ديني. وكنت ألبس جلابية أقرب إلى أن تكون بيضاء، وطاقية على رأسي، ولم أتقيد بحمل السيف الخشبي الذي تعود خطباء البلدة أن يحملوه كلما ارتقوا المنبر؛ لأني لم أشأ أن أكون موضع سخرية للأدباء الناقدين الذين يقولون: سيوف كل الناس من حديد، وسيوف خطبائنا من خشب!

حادثة تكسير المعهد:

كما حدث في هذه السنة حادث خطير، قام به طلاب المعهد الديني الثانوي. وهو القيام بعملية تخريب وتكسير في نوافذ المعهد وزجاجه، انتقاما من الإدارة الجديدة المفروضة على معهد طنطا وغيره من المعاهد.

ولهذا الحادث قصة، فقد كانت حكومة الوفد هي التي تحكم مصر منذ فرضها الإنجليز على الملك في 4 فبراير سنة 1942م، وكان الشيخ الإمام "محمد مصطفى المراغي" هو شيخ الأزهر، وكانت بينه وبين الوفد خصومة أو عداوة متوارثة من قديم، فلا الوفد يحب الشيخ، ولا الشيخ يحب الوفد، وكان طلاب الأزهر في غالبهم على هوى شيخهم.

وقد فرضت حكومة الوفد إدارات جديدة على المعاهد، تتمثل في تعيين شيوخ للمعاهد أو وكلاء لها ممن يدينون للوفد بالولاء؛ وقد رفض الطلاب ذلك، وسكتوا مدة على مضض، ثم دبروا أمر تكسير المعهد بليل، ونفذوه بنهار، وترتب على ذلك اعتقال عدد من طلاب القسم الثانوي بالأزهر، ودخولهم السجن، كما صدر أمر بتعطيل الدراسة، حتى تستقر الأمور.

وعدنا إلى القرية، وقد بقي من السنة نحو شهرين أو أكثر، ولم نكن أكملنا المقررات، وبقينا في البلدة حتى جاءت الامتحانات، وكنا في الشهادة الابتدائية، ودخلنا الامتحان، ولم نكن على أتم الاستعداد؛ ولهذا لم أحصل على الترتيب الذي كنت أحلم به، ضمن معاهد المملكة المصرية، وإن لم تفتني أوَّلية الفصل، وما يلزمها من صرف الجنيهات الثلاثة التي أصبحت جزءا ثابتا من إيرادي السنوي.

وكان الطلاب الذي اعتقلوا متهمين بتكسير المعهد قد قدموا إلى المحاكمة، وحضر جملة محامين للدفاع عنهم، على رأسهم المحامي والزعيم القبطي الشهير "مكرم عبيد"، الذي قدم إلى طنطا من أجل هذه القضية. وقد كان عبيد أمينا عاما لحزب الوفد سنوات طويلة، ثم اختلف مع زعامة الوفد (النحاس باشا وأعوانه) وخرج منه، وألف كتابا في فضائح الوفد سماه "الكتاب الأسود" ثم أنشأ حزبا جديدا سماه "الكتلة الوفدية". فكان هذا انشقاقا جديدا في الوفد، أضيف إلى انشقاق "السعديين" من قبل.

ولقد قدر الأزهريون هذا الموقف لمكرم عبيد، فبعد أن سقطت حكومة الوفد، وجاءت السنة الدراسية الجديدة، دعوا مكرما إلى طنطا، وأقاموا له احتفالا كبيرا بقاعة سينما البلدية في طنطا، تحدث فيه الشعراء والخطباء، ومنهم شاعر المعهد المعروف الشيخ "إبراهيم البديوي"، الذي أنشأ قصيدة شن فيها هجوما عنيفا على حكومة الوفد. أذكر من مطلعها:

زالت عهود الظلم والـظلمات  **  ومضى زمان العسف والإعنات

وتقشعت عن مصر شر حكومة  **  قـد كـان فيها الحكم للشهوات

كما ألقى صديقنا الطالب الأديب الشاعر "كامل علي سعفان" قصيدة كان مطلعها: آمنت بالحق لما استصبح الفلق.

وقفة للمراجعة والنقد الذاتي:

ولا بد من وقفة أمام حادثة تكسير المعهد من طلابه: هل هذا عمل محمود أم مذموم؟

لقد كانت عواطفي وأنا طالب متحمس مع الطلبة الذين قاموا بهذا العمل الذي يعتبر لونا من التخريب والتدمير لمؤسسة تعليمية؛ ولهذا المشاعر المتوقدة أسبابها وبواعثها في ذلك الوقت؛ فقد كنا ـ نحن طلاب الأزهر ـ مشغوفين بحب الشيخ الأكبر محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر، وكنا نعتقد أنه مثال مشرف للشيخ الأزهري المؤمن برسالته، المعتز بكرامته، الفاقه لدينه، الواعي لعصره، وكنا نوالي من يواليه، ونعادي من يعاديه.

وكانت حكومة الوفد ـ في رأي الطلبة ـ تعادي الشيخ المراغي، وتحاول أن تشل إرادته، وأن تعطل قراره، وكانت حكومة الوفد متهمة بأنها جاءت على أسنة رماح الإنجليز في 4 فبراير 1942م، كما أنها استغلت ظروف الحرب العالمية القائمة، لفرض الأحكام العرفية، واتخاذها تكأة لإنفاذ ما تريده ضد خصومها السياسيين، وإسكات صوت الطلبة الذين يعبرون عن الرأي العام، ويحركون الشارع المصري، لمقاومة الإنجليز، والمطالبة بالجلاء، ووحدة وادي النيل، وفي مقدمة هؤلاء طلبة الأزهر.

ولا غرو أن الطلبة عندما ضيق عليهم الخناق، وحرموا التعبير عن أنفسهم، واشتعلت مشاعر الغضب في صدورهم، وغلا المرجل واشتد غليانه، ولم يسمح له بأدنى درجات التنفيس، كان لا بد لهذا المرجل أن ينفجر. ومن المقرر في علم الفيزياء: أن الضغط إذا اشتد ولد الانفجار، لا محالة.

وأعتقد أن مثل هذا التعليل أو التحليل هو الذي اعتمد عليه محامو الطلاب عند محاكمتهم، وهو الذي جعل المحكمة تحكم لهم بالبراءة، مع مراعاة الظروف المخففة.

ولكن يبقى أن مثل هذا العمل لا ينبغي أن يلجأ إليه الطلبة العقلاء الذين يقودون الرأي العام ويحركونه، ولا يجوز الانتقام من المؤسسة التي تتعلم فيها، وتخرب مرافقها، كما لا يليق بالزعماء والقادة الكبار أن يستغلوا حماس الطلاب، وحرارة الشباب، لتحريكهم وجرهم إلى أهداف حزبية، ومصالح سياسية خاصة، بغض النظر عن مصلحة الأمة الكبرى.

العيش على "الفرافيت"

ومن الوقائع التي حدثت في هذه السنة، وما زلت أذكرها ولا أنساها: هو ما حدث لنا من نفاد الزاد، ونفاد النقود كليهما، وكنا مجموعة من الزملاء والأصدقاء، نعيش متجاورين، أو متقاربين، متعاونين في السراء والضراء.

وقد حدث أننا جميعا نفد ما نحمله معنا من قرانا من خبز وكعك وخلافه، كما نفد ما كان معنا من النقود المخصصة للمصروفات، وكانت إجازة العيد بعد أيام، ولم يبق معنا كلنا إلا بقايا "الزوادة" أو ما يعرف بـ "الفرافيت".

قررنا جميعا أن نقنع بهذه الفرافيت مع الملح أو "الدُّقَّة" كما يقول المصريون. وكنا نأكل هذه الفرافيت بالملح، ونحن في غاية الرضا عن حياتنا وعن أنفسنا، دون سخط ولا تبرم. وهذا ما فهمناه من الحديث الشريف "ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس". لقد ذكرت الفلاحين في قريتنا، وهم يأكلون الخبز والمش، ويشربون بعدها الماء، ثم يقولون: اللهم أدمها نعمة، واحفظها من الزوال.

ومن اللطائف: أن بعض هؤلاء الإخوة كتب إليّ بعد أن عملت في قطر عدة سنوات، يطلب مني أن أسعى له في عقد عمل في قطر، ويقول لي: أنسيت عهد الفرافيت؟ أنسيت قول الشاعر:

إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا * من كان يألفهم في المنزل الخشن

قتل أحمد ماهر:

وفي هذه الآونة سنة 1945 فوجئ الناس بقتل رئيس الحكومة "أحمد ماهر" باشا رئيس حزب السعديين، تحت قبة مجلس النواب المصري. حين أراد أن يعلن دخول مصر في الحرب.

قتله شاب محام اسمه "محمود العيسوي"، وقبض عليه في الحال، وحاول التحقيق أن يعرف له شركاء في حادثة الاغتيال، فلم يجدوا، وعندما كرروا عليه السؤال: من كان معك؟ كان جوابه الفذ والدائم: ضميري ومسدسي ويدي.

وقيل في ذلك الحين: إنه ينتمي للحزب الوطني، وسمعنا في السنوات الأخيرة، أنه ينتمي للإخوان، ولكنه لم يقل ذلك، ولم يعترف به الإخوان، ولم تثبته المحكمة ولا التحقيق، فالله أعلم إلى أي فئة كان ينتمي؟

تولي النقراشي رئاسة الوزراء:

وقد خلف "أحمد ماهر" في رئاسة الحكومة ورئاسة الحزب نائبه ورفيقه "محمود فهمي النقراشي" باشا. الذي كان له دور سلبي خطير في القضية الوطنية، وفي مقاومة طلاب الجامعة وفتح "كوبري عباس" عليهم، حتى غرق منهم من غرق، وقتل منهم من قتل، واشتهر بين الطلبة بأنه بطل كوبري عباس.

كما كان له دوره في القضية الفلسطينية؛ حيث كان من أبطال قبول "هدنة رودس" التي كانت فرصة ذهبية لتمكين العصابات الصهيونية من تأمين دولتهم، وكانت في مهب الريح.

وكذلك كان له دوره الخطير في إنهاء "الوجود الرسمي" والعلني للإخوان المسلمين، وإصدار الأمر العسكري بحلهم وتصفيتهم؛ استجابة لطلبات بريطانيا وفرنسا وأمريكا، كما سنشير بعد.

وقفة لتقييم الدراسة في المرحلة الابتدائية:

قسم الأزهر الدراسة في معاهده إلى مرحلتين ابتدائية وثانوية. قياسا على تقسيم وزارة التربية والتعليم ـ وزارة المعارف كما كانت تسمى يومئذ ـ وإن كان التعليم الابتدائي في الأزهر لا يبدأ إلا بعد أن يكون الطالب قد حفظ القرآن الكريم، وأجاد قدرا من الحساب.

والذي لاحظته على مناهج المرحلة الابتدائية:

أولا: أنها خلت من تعليم أي لغة أجنبية كالإنجليزية، مع حاجة الطالب الأزهري إليها في مستقبله.

ثانيا: أنها اهتمت بالجغرافيا والتاريخ والحساب والرياضيات، ولم تهتم بإعطاء قدر من العلوم في الفيزياء (الطبيعة) أو الكيمياء أو الأحياء (الحيوان والنبات).

ثالثا: أنها اهتمت بالنحو والصرف اهتماما بالغا، حتى إننا درسنا النحو كله أربع مرات في المرحلة الابتدائية: درسناه في السنة الأولي في شرح الأجرومية، وفي السنة الثانية في شرح الأزهرية، وفي السنة الثالثة في شرح قطر الندى لابن هشام، وفي السنة الرابعة في شرح شذور الذهب له أيضا. ولا شك أن هذا أفادنا كثيرا في معرفة قواعد النحو، ولكنه لم يفد كثيرين في التطبيق.

على أن المناهج لم تعط أي عناية للأدب العربي، ولا "للقراءة" المنظمة التي يمكن أن تقاس ويمتحن فيها. واختيار قطع أدبية رائعة من الأدب القديم والحديث لقراءتها.

ومثل ذلك يقال عن "النصوص" أو "المحفوظات" فلم يكن لها منهاج معلوم، ولا برنامج مرسوم، وإنما تترك للأستاذ يختار ما يشاء أو يتخذها للراحة والترفيه. وكان الامتحان فيها شفهيا، يسأل الطالب: هل تحفظ شيئا من الشعر؟ فيقول: نعم. فيقال له: قل لنا شيئا مما تحفظ.

وأذكر أن بعض زملائنا كان يحفظ أبياتا من قصيدة لـ "صفي الدين الحلي"، يقول فيها:

لا يمتطي المجد من لم يركب الخطرا  **  ولا ينـال العـلا من قـدم الحـذرا

لا بـد للـشهـد مـن نحـل يمنّعـه  **  لا يجتني النفع من لم يحمل الضـررا

وزميل آخر من قريتنا، كان يتمثل بأبيات من قصيدة:

إذا نام غر في دجى الليل فاسهر  **  وقم للمعالي والعوالي وشمر!

وكان كل منهما إذا سئل في امتحان أي سنة: ماذا يحفظ؟ يردد هذه الأبيات لا يزيد عليها.

قصور في العلوم الدينية:

وعلى أن الشيء العجيب هو قصور المناهج في العلوم الدينية ذاتها، التي هي روح الأزهر، ومحور وجوده.

علم الفقه:

أما "علم الفقه" فرغم أني كنت أحصل فيه على أعلى الدرجات، فلم أكن مرتاحا إليه، وإلى الكتب المؤلفة فيه، وإلى طريقة تدريسه.

في السنة الأولى كان يدرس لنا الفقه شيخ حسن الطريقة، جيد الشرح، يحاول أن يصل الفقه بالحياة، وأن يضرب المثل من الواقع، وكان يجذبنا بطريقته إلى فهم الموضوع جذبا. وبخاصة أنه كان يدرس لنا "فقه العبادات"، أي فقه الطهارة، وفقه الصلاة، وفقه الصيام، من كتاب "نور الإيضاح" في الفقه الحنفي. وموضوع العبادات متصل بحياة الناس وواقعهم المعيش. ذلكم هو الشيخ "محمد الشناوي" من "محلة روح" بجوار قريتنا.

أما في السنوات الثلاث بعد ذلك (الثانية والثالثة والرابعة) فقد كانت تدرس في كتاب "اللباب في شرح الكتاب"، أو كما يسميه الأحناف "الميداني على القدوري"، وكان التركيز فيه على المعاملات، وهذه المعاملات لا صلة لها بما يجري في الحياة، وما يحدث في واقع الناس من أحداث.

فهي تتحدث عن "البيوع" من الوجهة النظرية، ولا تربط هنا أدنى ربط بما يحدث في أسواق الناس، وتتحدث عن "الإجارة" ولا علاقة لها بما تدور به عجلة الحياة من إجارات مختلفة. ويتحدث عن الشركة وأنواعها من المفاوضة والعنان والوجوه وغيرها، ولا ندري شيئا عن أنواع الشركات التي يمور بها الواقع مورا.

كان الفقه في أبواب المعاملات "ميتا" لا روح فيه ولا حياة، لا في الكتاب، ولا في عقلية الأستاذ وطريقته، بل بعض العبادات أديت إلينا "ميتة" أيضا، مثل الزكاة والحج. ولقد درست الحج، فلم أستطع أن أهضم فيه شيئا، مما يذكر عن الإفراد والتمتع والقران. ويظهر أن مدرسنا لم يحج، فلم يمكنه أن يلقي على هذا المفاهيم أي شعاع من ضوء.

الشيء الذي فهمته من غير العبادات، هو "الميراث"؛ إذ كانت أصوله في القرآن الكريم، وكان موصولا بحياة الناس، وكان الناس يسألون فيه دائما، ففهمته وهضمته، وكنت أفتي فيه منذ السنة الرابعة الابتدائية.

علم التوحيد:

ومن العلوم التي لم يتفتح لها عقلي، ولم يطمئن بها قلبي: ما يسمى "علم التوحيد" وهو ما كان يسمى "علم الكلام"، وهو العلم الذي يتولى تقديم العقيدة وشرحها والتدليل عليها، والدفاع عنها.

وكان علم التوحيد يقدم لنا طوال سنوات القسم الابتدائي في صورة "مذكرات" يكتبها الأساتذة، وهي مذكرات مختصرة، ولكنها معقدة، تعتمد على "علم الكلام الأشعري" ومقدماته العقلية المتأثرة بفلسفة اليونان، وقصور نظرتها إلى الوجود والوحي والآخرة، وغموض عباراتها في تقديم هذه الأمور، بخلاف طريقة القرآن التي تقوم على مقدمات فطرية، تقتنع بها العقول، وتطمئن بها القلوب، كما تقدم في أسلوب يجمع بين إقناع العقل، وتحريك العاطفة معا.

وكنا نذكر آيات القرآن في علم التوحيد على أنها مجرد "أدلة نقلية" ولا ننظر إلى ما تحمله من دلالات عقلية، مثل الدلالة على وجود الله تعالى، في مثل قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ* أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ} (الطور:35-36)

ومثل الدلالة على وحدانية الله، كما قي قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الأنبياء: 22)، {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (المؤمنون: 91)

ومثل الدلالة على البعث والجزاء بعد الموت، وضرورة الثواب والعقاب لإثبات عدل الله تعالى وحكمته، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ* أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: 27-82)

لم نكن ندرس من علوم الدين في المعهد غير الفقه والتوحيد، والفقه يدرس على الطريقة المذهبية بعيدا عن الاستدلال بالقرآن والسنة، وعن مقاصد الشريعة، وعن واقع الحياة. كما يدرس التوحيد على طريقة الأشعرية المتأخرين، وفيه نفس فلسفي وجدلي، لا ينشئ عقيدة ولا ينميها ولا يثبتها. ولم نكن ندرس في هذه المرحلة حديثا ولا تفسيرا، ولو بصورة ميسرة تناسب الطالب في هذه المرحلة من طلب العلم.