صفحة من مذكرات سماحة الشيخ القرضاوي:
في الثانية من عمري مرض والدي، أحسبه كان مرضًا من أمراض البول، ومن مضاعفات البلهارسيا، ونظرًا لقصور الطبِّ في تلك الأيام، وقلَّة ذات اليد، فقد كان الكثيرون يموتون بأمراض نجد علاجها اليوم يسيرًا.
وبعد موت أبي كفلني عَمِّي أحمد، وهو الوحيد الباقي من أعمامي الخمسة. وكان فلاحًا أُمِّيًّا لا يقرأ ولا يكتب، ولكنَّه كان حكيمًا عاقلًا غير مُتَهَوِّر، وكان عطوفًا رقيق القلب، وكان محترَمًا بين الناس، برغم أنَّه لم يكن يملك أطيانًا، وهي الَّتي تجعل للإنسان قيمة في الريف.
كان طويل القامة، قمحي اللون، حسنَ الصورة، يلبس جلبابًا وعمامة على رأسه، غير عمامة العلماء والقُرَّاء، فعمامتهم لفة على طربوش أحمر ذي زرٍّ أسود أو أزرق، أمَّا عمامته وعمائم أمثاله فكانت لفَّة على «لبدة» بيضاء.
وكان قوي الجسم، متين البنيان، برغم أنَّه كان فوق الخمسين في أوائل طفولتي، وكان يساهم في العمل الزراعي مع ابنَي عمِّي، لم أره يشكو من مرض من الأمراض الشائعة بين الناس، فقد كانت الحركة له بركة، وكان سعيه وكدحه في سبيل عيشه من أسباب تمتُّعه بالصحَّة. وكان يُصَلِّي الصلوات - حتَّى الفجر - في المسجد، وتلك سُنَّة حسنة توارثها الخلف عن السلف.
وكان قنوعًا بعِيشتنا المتواضعة، وهي عيشة الفلَّاحين في مصْر في ذلك العهد، يزرعون ويكدحون طَوَال اليوم، وطَوَال العام، لا يعرفون إجازة ولا راحة؛ لأنَّ الأرض والبهائم تحتاج إلى خدمة دائمة، ومع هذا العناء لا يجنون إلَّا القليل من الثمرة. ولكنَّه كان يأكل الخبز الجاف - ومعظمه من الذرة - ويأدمه بالجبن القريش، أو الجبن القديم بالمشِّ يتناثر منه الدود، ثمَّ يشرب من القُلَّة المصنوعة من الفُخَّار، ويقول: الحمد لله، اللهمَّ أدمها نعمة، واحفظها من الزوال.
وهكذا كان عموم أهل القرية، أو قُلْ: عموم أهل مصر، قانعين بما رزقهم الله، مؤمنين بالحديث النبوي القائل: «ارضَ بما قسم الله لك؛ تكُنْ أغنى النَّاس»، ومُرَدِّدين أحيانًا قول الشاعر:
إذا ما كنتَ ذا قَلْبٍ قَنُوعٍ فأَنْتَ ومالِكُ الدُّنْيا سَوَاءُ!
وكان عَمِّي برغم أمِّيَّته يحكي لنا بعض القصص المسلِّيَة، ويمتحنني ببعض الألغاز، مثل قوله: عمَّتُك أخت أبيك، خال ابنها يقرب لك إيه؟ ففكرت سريعًا في عَمَّتي وخال ابنها، وقلتُ له: أبي أو عمِّي.
ثم يحكي لي نكاتِ «جُحا» وحكمه ومواقفه المضحكة، ومنها: أنَّه جمع مبلغًا من المال، وذهب إلى سوق الحمير، ليشتري حمارًا، فسأله بعضهم، إلى أين تذهب يا جُحا؟ قال: إلى السوق لأشتري حمارًا. وقال له السائل: قل: إن شاء الله. قال: ولماذا «إن شاء الله»؟! الفلوس في جيبي، والحَمِير في السوق! فذهب إلى السوق، وترصده بعض اللصوص، فسرقوا منه الفلوس! فلما رجع، سأله نفس السائل: اشتريت الحمار يا جحا؟ قال: إن شاء الله الفلوس سُرقت!
كان «جحا» فيلسوف الشعب، وحكيم المجتمع، ومن حكاياته وكلماته يأخذ النَّاس مواقفهم، أو يسُوغونها على الأقل.
رعاية أمي:
مات أبي وأنا في الثانية من عمري، وبقيت أُمِّي في بيت العائلة، حيث لها ابن له مِلْك في الدار، في حارتنا المشتهرة بحارة «أبو سمك». وكان لنا من الدار حجرتان إحداهما شتويَّة، في الدور الأوَّل، ويسمُّونها: القاعة، وفيها فرن يوضع فيه بعض الحطب في الشتاء لتدفئة المكان، وحجرة في الدور الثاني في الصيف.
ومن حسن تفكير والدتي: أنَّها وجدت القاعة الَّتي نعيش فيها في الشتاء ليس لها نوافذ إلَّا الباب، فإذا أُغلق الباب كانت مظلمة تمامًا في عز النهار. ولا تدخلها أشعَّة الشمس ولا الهواء. وكانت هذه الحجرة ليس عليها أي بنيان فوقها، فجاءت بنجار وصنع لها نافذة في السقف يدخل منها الضوء والهواء.
أسرة والدتي:
وعلى ذكر والدتي، أعطي لمحةً عن أسرتها، فهي من «أسرة الحَجَر»، وهي أسرة تشتغل بالتجارة، وتشتهر بالذكاء. وكانت أُمِّي وخالاتي ماهرات في الحساب بدون كتابة، وكانت ابنة عمِّ أُمَّي فاطمة الحَجَر كأن رأسها آلة حاسبة، تجمع الأرقام الكبيرة والمعقَّدة وتخرج نتائجها بسرعة مذهلة.
وكان جَدِّي واسمه: عليّ أيضًا، على اسم جَدِّي لأبي، يعمل تاجرًا، يتاجر في الفواكه في فصل الصيف، وهو تاجر جملة وقطاعي، وفي فصل الشتاء يتحوَّل إلى تاجر حبوب، حيث لا توجد فواكه في الشتاء. وكانت عمَّتُه متزوِّجة من آل زغلول، وهم من وجهاء البلد من الطبقة الوسطى الَّتي تحدَّثنا عنها.
وقد غلط جَدِّي لأُمِّي غلطة جَدِّي لأبي، فلم يشدَّ أزره بشِراء بعض الأرض الَّتي تسنده إذا تغيَّر الزمان ودارت الأيام. بل أشير عليه بذلك في بعض الأوقات، فقال: الجنيه في يدي أفضل من فدَّان في يد غيري.
وكان يمكنه أن يكون تاجرًا كبيرًا ذا شأن لو تنبَّه للتغيُّر الَّذي طرأ على المنطقة وغيَّر موقعه، فبعد أن أنشئت مصانع شركة الغزل والنسيج بالمحلَّة الكبرى أصبحت المحلَّة مركزًا تجاريًّا له شأنه، وبدأ ينمو بسرعة وقوَّة، فلو تنبَّه جدي لهذا التغيُّر، وأخذ بالمحلَّة - ولو دكانًا صغيرًا بالإيجار - لتغيَّر حاله، ولكنَّه بقي في حدود صفط، ولم يعد قادرًا على توزيع الفاكهة من صفط إلى البلاد الَّتي حولها، كما كان من قبل.
كان جَدِّي تاجرًا مستقيمًا، لا يكذب، ولا يغشُّ، ولا يحلف، ولا يبيع إلا البضاعة السليمة والطيِّبة. وكان له أخت تزوَّجت من آل عجوة بصفط، وأخرى تزوجت في «شبشير» بالقرب من صفط في طريق طنطا، وكان ابنها من التُّجَّار الناجحين الصالحين، الحاج حسنين الدواخلي، وقد رأيته مرارًا، وعزيت فيه عند موته، وألقيت كلمة في عزائه.
وقد أنجب جَدِّي من جَدَّتي - واسمها: عائشة أيضًا، كاسم جَدَّتي لأبي - وهي من آل اليزيدي، ابنين وخمس بنات، مات أحد الابنين في طفولته وبقي الآخر، وهو خالي الوحيد عبد الحميد.
وكان خالي هذا آية في الذكاء، وحضور البديهة، وقوة الذاكرة، وله حضور وفصاحة وجرأة وشخصيَّة، ولو قُدِّر له أن يكمل تعليمه لكان له شأن إذا ساعده القدر. وكان يدرس في المدرسة الأولية بـ«محلة روح»، المجاورة لنا، على بُعد حوالي أربعة أو خمسة كيلو مترات يذهب إليها يوميًّا على حمار. ولكن جدي أخرج خالي من تعليمه الموفَّق فيه، لحاجته إليه ليساعده في تجارته، ولم يكن له ابن غيره.
وقد ورث خالي التجارة من أبيه، وظل يعمل بها جُلَّ عمره، ولكنَّه - برغم فرط ذكائه - لم يكن له فيها حظ، ظل «محلك سر»، لا يتقدم خطوة إلى الأمام، ممَّا يدل على أن الرزق لا يأتي بالذكاء وحده، ولكن هناك أشياء تتحكَّم في مجرى حياة الإنسان، لا يعرفها، ولا يستطيع أن يتحكَّم في سيرها، إنَّما يحكمها القدر الإلهي وحده.
وهذا ما جعل النَّاس يشكون قديمًا من فقر الأذكياء والعلماء، وثراء الأغبياء والجهال. وفي هذا يقول أبو تمَّام:
يَنَالُ الفَتَى طِيبَ الغِنَى وهْوَ جَاهِلُ ويَشْقَى الْفَتَى فِي فَقْرِهِ وهْوَ عَالِمُ
وَلَوْ كَانَتِ الْأَرْزَاقُ تَأْتِي عَلَى الحِجَا هَلَكْنَ إِذَنْ مِنْ جَهْلِهِنَّ البَهَائِمُ!
كان جَدِّي رجل أسرة، يحب أن يجمع بناته حوله كلَّما تيسر ذلك، وخصوصًا في الأعياد والمواسم والمناسبات، فكنا نلتقي أنا وأولاد خالاتي في بيت جدي الَّذي يجمعنا، وكان لعبنا في دار جدي أكثر منه في «دار القرضاوي»؛ لأن أولاد عمي ليس فيهم أحد قريب من سِنِّي، بخلاف أولاد خالتي.
وكان جَدِّي يُحِبُّنا جدًّا (أولاد بناته)، ويعزني بشكل خاص، لعلَّ ذلك لظروف يُتمي المبكِّر، ولكنَّه كان رجلًا جادًّا، وكان إذا غضب صاح صيحة تكاد تهتزُّ لها جدران المنزل، وقد غلطت أنا وابن خالتي محمَّد مراد مرَّة، فأصرَّ على ضربنا، ثمَّ شفعت لنا جدتي، على ألَّا نعود إلى ذلك مرَّة أخرى، فصفح عنا على هذا الشرط.
وقد تُوفِّيَ جدي وأنا في السابعة من عمري تقريبًا، وحضرت جنازته، وسمعتُ النَّاس يثنون عليه، ويقولون: كان رجلًا صالحًا، لم يُعرف عنه موقف سوء. وجاء النَّاس من البلاد الَّتي حولنا يعزُّون فيه.
وكانت جدَّتي تحبُّنا نحن أولاد بناتها، وتخصني بمزيد من الحب والعناية، وكانت تخبِّئ لي الأشياء الطيبة، لآكلها عند حضوري عندها.
وكانت خالاتي يحبِبْنَني حبًّا جمًّا، كأنِّي ابنٌ لكل واحدة منهن، وزاد ذلك الحب والاهتمام بعد موت أمي وأنا في الخامسة عشرة من عمري، فأصبحْنَ جميعًا أمهاتٍ لي بعد أمي، وازدادت عناية جدتي بي.