في هذه الفترة -ما بين حادثة المنشية واعتقالي- كانت المحكمة التي شكلها عبد الناصر لمحاكمة الأستاذ الهضيبي وقادة الإخوان، والتي سماها "محكمة الشعب" فهل الشعب هو المحاكِم أو المحاكَم؟! الحق أنها كانت محاكمة للشعب المقهور الذين يمثله الإخوان، أو يمثلون طلائعه التي تعيش همومه وآلامه وآماله.

وكانت هذه المحكمة الغريبة الأطوار، العجيبة الأدوار، تعقد جلساتها لمحاكمة الإخوان، وكانت تذاع مساء على الهواء من إذاعة القاهرة، فلم يكن أنشئ التلفزيون بعد. وكنت أسمعها كلما أتيحت لي الفرصة، فكنت أجد فيها العجب العجاب من رئيس المحكمة قائد الجناح جمال سالم الذي لا يصلح أن يكون قاضيًا مدنيًا ولا عسكريًا، فهو يتصرف في المحاكمة تصرفات لا تصدر عن إنسان عاقل سوي، ناهيك بقاض يحاكم مستشارًا من أكبر مستشاري مصر مثل حسن الهضيبي، وقاضيًا فقيهًا من أفقه قضاة مصر والعرب مثل عبد القادر عودة، وأديبًا وداعية ومفكرًا من أعظم دعاة العصر مثل سيد قطب، وغيرهم.

لقد سمعته يقول للأخ المؤمن الصادق يوسف طلعت: تقدر تقرأ الفاتحة بالمقلوب؟ أهذا يقوله امرؤ عاقل؟! ويطلب منه أن يفسر سورة الزيتون كنوع من السخرية، وما دخل هذا بموضوع المحاكمة؟! لقد كان بعض رفقاء جمال سالم يسمونه "المجنون". ويبدو أن هذا الوصف صحيح إلى حد كبير. يقول أنور السادات: كان جمال سالم رحمه الله حاد المزاج عصبيًا إلى حد غير طبيعي، غير متزن في جميع نواحي شخصيته، فلما وجد الناس منصرفة عنه لسوء معاملته بدأ يثير المعارك هنا وهناك وفي كل مجال.(1)

وكان السادات هو عضو اليمين في محكمة الشعب، وكان لا يتكلم، المتكلم الوحيد هو جمال سالم. وقال رفاقه: كان جمال سالم لا يهاب الدم ويهدد بالقتل ويحث عليه، وقد اندفع مرة متأثرًا بجمال عبد الناصر ضد نجيب، فأعلن جمال سالم: أنه سيقوم بقتل محمد نجيب، وتخليص المجلس منه، وعلى المجلس أن يقوم بمحاكمته على فعلته. وعندما اعترض ضباط المدفعية على تصرفات مجلس الثورة في يناير سنة 1953 اقترح جمال سالم أن يحاكموا محاكمة صورية ويتم إعدامهم فورًا.(2)

ولقد شهد بمهزلة هذه المحاكمات أو مأساتها كل من شاهدها أو حتى قرأها، مع أنهم ربما حذفوا من المكتوب شيئًا أو أشياء. ومن هؤلاء الكاتب الأمريكي دكتور ريتشار. د. ميتشل، الأستاذ بجامعة "متشجان – آن آربر" الذي ألف كتاب "الإخوان المسلمون" وترجمه إلى العربية الدكتور محمود أبو السعود، وعلق عليه الأستاذ صالح أبو رقيق.

يقول ميتشل:

"أما المحاكمات نفسها فكانت نموذجًا لا يُنسى لما تملكه الحكومة الثورية وما تضفيه على نفسها من حقوق تتعلق أصلًا بحكم القانون؛ إذ اتضح منذ البداية أن آخر شيء ترمي إليه الحكومة هو إيضاح القضية، وتقدير مدى إدانة كل فرد فيها، بل إنه في الحالات التي عيَّنت فيها المحكمة المحامين؛ طرح هؤلاء أسئلة وأبدوا ملاحظات كان من الأخلق أن تُترك لممثل الاتهام، أما رئيس المحكمة جمال سالم فقد كان تصرفه أقرب إلى تصرف المدعي العام: كان يقاطع دون تحرج إجابات الشهود إذا لم تعجبه الإجابة، وكان يضع الكلمات في أفواههم، فيتقول عليهم ما لم يقولوا، وكان أحيانًا يستعمل التهديد ليفرض عليهم الإجابة التي يريدها..

وكانت الأسئلة تصاغ بحيث تستبعد أي رد إلا ما تريده المحكمة، وكان يوقف كل محاول للتخفيف من توتر الموقف، بل إنه كان يتبادل مع الشهود في بعض الأحايين الشتائم الوضيعة، وفي غالبية هذه الحالات كانت الشتائم تنهال من جانب المحكمة وحدها. وكانت تواجه شاهدًا بآخر، وقد زُيفت شهادة أحدهما لتثير الشاهد الآخر، وسُمح للحضور أن يشاركوا في الضحك على الشهود والهزء والسخرية بهم وسبِّهم، وكانت أكثر الأسئلة في مثل هذه المواقف غير متعلقة بالجريمة، وتضمنت فيما تضمنته أسئلة تتعلق بإعراب القرآن وتفسيره بقصد إحراج الشهود وإرباكهم.

أما الشهود أنفسهم فقد كانوا مشوشين، وبطبيعة الحال خائفين، وفي أغلبية الأحوال غير صريحين ولا صادقين، وطفحت الأدلة بالتناقض؛ وذلك لأن المحكمة من ناحية كانت توجه الشهود ولأن الشهود أنفسهم كانوا غير راغبين في الكلام من ناحية أخرى". انتهى (3)

فترة ما قبل الاعتقال

تركت الشقة التي كنت أسكن فيها بشارع راتب باشا في حدائق شبرا، حين عرفت أنهم يسألون عني؛ لأنها أمست مصيدة لرجال المباحث، فمن دخل إليها فقد ذهب إلى المعتقل برجله، وكنت حريصًا على ألا أُعتقل في ذلك الوقت حتى تظهر نتيجة امتحان تخصص التدريس، وأُعين مدرسًا بالمعاهد الدينية، وأُثبت حقي في ذلك، ثم لا مانع أن أُعتقل بعدها.

هكذا كنت أتصور الأمر، وقد ظهرت النتيجة بالفعل، وكان ترتيبي الأول بفضل الله تعالى وتوفيقه على طلاب الكليات الثلاث: أصول الدين والشريعة واللغة العربية، وكان عددهم في تلك السنة 500 طالب. وبقي انتظار التعيين. وكنت في هذه الفترة أبيت عند الأصدقاء من الإخوان الذين أحسب أنهم غير مطلوبين للاعتقال، وأقيم في بيت أحدهم عدة ليالٍ ثم أغادره، ولا أكاد أغادره حتى يداهمه البوليس ويقبض على من فيه. وضاقت القاهرة عليَّ بما رحبت، وفكرت في الاختباء بعيدًا عن القاهرة حتى يتم التعيين من ناحية، وحتى تخف وطأة الإيذاء والتعذيب، حيث تكون على أشدها في الفترة الأولى، ثم يحدث الاسترخاء شيئًا فشيئًا.

إلى منزل خالتي في طنطا

ولهذا فكرت أن أدع القاهرة وأذهب إلى منزل خالتي بطنطا لمدة من الزمن، على أن أقبع داخل البيت ولا أخرج منه، حتى لا ينتشر خبر وجودي هناك. وهذا ما حدث، رغم ما في ذلك من خطر على خالتي وعلى زوجها، فإن إيواء أي مطلوب للاعتقال جريمة يعاقب عليها بكذا وكذا سنة، بتهمة التستر على مجرم! ولكن خالتي -رحمها الله- لم تبالِ بالعقوبة لا هي ولا زوجها، فقد كانت تعتبرني بمثابة ابنها، وهل رأيت أمًّا تغلق بابها في وجه ابنها؟

والحقيقة أن فكرة الاختباء لم تكن موفقة، وقد جربتها من قبل سنة 1949 في عهد الملكية، حين اختبأت أنا وأخي وصديقي محمد الدمرداش، ثم اضطررنا لتسليم أنفسنا حينما أخذوا والدته، والوضع الآن أشد وأقسى بما لا يوصف من ذلك العهد، فلماذا أُعرض خالتي للأذى والبلاء؟

على أني في الواقع كنت معتقلًا، اعتقلت أنا نفسي في المنزل، مع الخوف والقلق على نفسي وعلى من حولي، وقديمًا قالوا: وقوع البلاء ولا انتظاره. ولكني كنت أنتظر التعيين بالأزهر الذي أعتبره باب مستقبلي، وقد عرفت من الأخ الصديق الشيخ مصباح عبده الذي كان يعرف مكاني وزارني فيه أني عُيِّنت بالفعل في معهد بنها الديني، وأنه مكتوب أمام اسمي: إذا حضر ليتسلم العمل يُسلَّم إلى المباحث!

كما اقترح الشيخ مصباح عليَّ أن أحلق لحيتي، وكنت أطلقتها منذ مدة، وقال: إنه سمع أن زبانية التعذيب في السجن الحربي أجبروا بعض المشايخ أن ينتفوا لحاهم بأيديهم، من باب التنكيل والإهانة وشدة الإيلام والعذاب. وفعلًا طلبنا حلاقًا مأمونًا، وحلق لحيتي بالموسى.

كما أن بعض أقاربي في القرية -صفط تراب- بدءوا يزورونني عند خالتي، زارني خالي وابن عمي، وخالتان لي، وآخرون من أقاربي يذهبون إلى محطة القرية يومًا بعد آخر؛ فهذا مما يثير الانتباه. ولا سيما عند السلطة المحلية المكلَّفة بتبليغ أي شيء يتعلق بي.

ولهذا سرعان ما تنبه شيخ خفراء القرية للحركة غير العادية لأقاربي، وعرف أنهم يذهبون إلى خالتي في طنطا، فأبلغ رجال المباحث بالأمر. وفي إحدى الليالي وجدنا من يقرع باب المنزل الخارجي بشدة، وينادي: يا بدوية، وهو اسم خالتي، الذي يعرفه أهل قريتنا، أما أهل طنطا فينادونها: أم عبده، على اسم خالي عبد الحميد شقيقها. وهذا عرَّفني أن دليل الحملة التي جاءت في جنح الليل كان من صفط. فكان الناس يُسمُّون هؤلاء "زوار الفجر"، وأنا أضن عليهم أن يُنسبوا إلى الفجر والنور، بل ينبغي أن يُسموا زوار الظلام.

اعتقالي وتسليمي إلى مباحث المحلة الكبرى

كان الذين جاءوا للقبض عليَّ هم مباحث المحلة الكبرى، وسرعان ما استاقوني إلى تفتيش المباحث العامة بالمحلة، وكان على رأسه ضابط شرس، كأنه وحش مفترس، اسمه محمد شديد، وكان له من لقبه نصيب أي نصيب، فهو شديد فظ غليظ، ولكن على أهل الإيمان والدين، وليس كما وصف الله أصحاب محمد بقوله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح:29).

وكان يعيش في المحلة، ويعرف نشاطي بها، ورصيدي فيها، وإقبال الناس عليّ من كل الطبقات؛ وهو ما يغيظه ويضيق به صدره، وآن الأوان ليشفي غليله مني، وقد أصبحت سجينًا لديه، وهو الآمر الناهي، وعنده من السلطات ما لا حد له، فلا يُسأل عمّا يفعل.

وقد استقبلني بالحفاوة اللائقة بمثلي: التعليق في الفلكة (آلة تعذيب بدائية للضرب على الأقدام)، والضرب بالسياط قبل أن يسألني سؤالًا واحدًا، ولكنه التشفي. ثم بدأ يحقق معي بتهمة الانضمام إلى الجهاز السري، وليس عنده من الوقائع أو الأدلة ما يثبت عضويتي في هذا الجهاز إلا دعوى رئيس الجهاز بالمحلة عبد الحميد الرفاعي، واتخذ من أساليب الإيذاء والتهديد كل ما في وسعه، فيجعل مني عنصرًا فعالًا في هذا الجهاز، ولم أكن كذلك.

بل بلغ هذا الرجل من سوء الأدب والجبروت أن طلب مني أن أضع حذائي فوق عمامتي، فلما قلت له: إن العمامة رمز العلم الإسلامي، وإهانتها إهانة للإسلام؛ سخر مني، وقال كلامًا أستحيي أن أذكره، وأمر أحد مخبريه أن يضع حذائي فوق عمامتي. قلت له: أكنت تصنع ذلك لو كانت عمامة سوداء؟! فلم يرد عليَّ.

وكان معي في حجز المباحث الأخ الداعية الكريم الأستاذ محمد كمال إبراهيم من إخوان زفتى، وكان يعمل في نيابة سمنود، ولما رآني أُظهر الاعتزاز والشموخ، قال لي: هؤلاء إذا رأوك شامخًا معتزًا بنفسك؛ افترسوك، وحاولوا أن يذلوك ما استطاعوا، وأن يقهروك بكل ما يقدرون عليه، وأحسن طريقة معهم أن تظهر "التمسكن" حتى يكفوا عنك.

وقال: هذا ما حاولت أن أفعله معهم، قلت لهم: أنا رجل مقرئ، صوتي جميل بالقرآن، وكانت كل مهمتي في الإخوان أن أفتتح حفلاتهم بقراءة القرآن بصوتي.

قلت للأخ كمال: ألم نكن ننكر على الناس قولهم: "إذا كان لك عند الكلب حاجة قل له: يا سيدي"! وقولهم: "دارهم ما دمت في دارهم، وأرضهم ما دمت في أرضهم"، ونسمي هذه: أخلاق العبيد.. فكيف تنصحني اليوم أن أتخلق بأخلاق العبيد؟!

قال: كلامك صحيح في الظروف العادية، أما في الظروف الاستثنائية فلها سلوكها الخاص بها. ألم تحدثونا أنتم علماء الشرع عن أحكام الضرورات، وأنها تبيح المحظورات، وعن أحكام الإكراه وما يترتب عليه، وأن من الصحابة الأخيار من اضطرته الظروف الاستثنائية أن ينطق بكلمة الكفر مكرهًا، وظل خائفًا مشفقًا على نفسه ودينه من هذه الكلمة حتى نزل قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} (النحل: 106)، وقال تعالى في موالاة الكفار من دون المؤمنين: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} (آل عمران:28).

قلت: صدقت، ولكن هناك خيوطًا دقيقة بين المشروع والممنوع في هذا التعامل، فالعلماء قالوا: المداراة للسفهاء ونحوهم مشروعة، أما المداهنة فمحظورة.

قال: وأنت لا يُطلب منك أكثر من المداراة لهؤلاء السفهاء القساة، لا المداهنة لهم. كل ما أطلبه منك أن تتظاهر بالضعف وإن كنت قويًا؛ حتى لا يتجبروا عليك، ويحاولوا أن يكسروا أنفك بما لديهم من وسائل إيذاء.

قلت: وهذه محنة أخرى داخل المحنة، أسأل الله تعالى أن يعيننا عليها. وتذكرت قول حكيم الشعراء أبي الطيب:

يقضى على المرء في أيام محنته ** حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن!

واجتهدت أن أنتصح بنصيحة الأخ كمال، وإن كانت صعبة على نفسي. وعلى المرء في زمن كهذا أن يُروِّض نفسه على تحمل الصعاب، مادية كانت أو نفسية، وقد قلت في "النونية":   هون عليك الأمر لا تعبأ به  **  إن الصعاب تهون بالتهوين!

ويبدو أن نصيحة الأخ كمال قد آتت أكلها؛ فكفوا الأذى عني، أو لعلهم ملوا من كثرة ما صدر منهم من أذى، أليس يمل المؤذي كما يمل غيره من الناس؟ إن العقارب لا تلدغ إلا في ظرف معين، والأفاعي لا تعض إلا لسبب خاص، والوحوش لا تفترس إلا لحاجة تدعوها.. فلماذا نرى الإنسان يؤذي أخاه الإنسان في الإصباح والإمساء، وبسبب وبغير سبب، وكأنما يتلذذ بهذا الإيذاء؟!

إن الإنسان إذا تجرَّد عن الإيمان أمسى شرًا من السبُع الضاري؛ لأن السبُع لا يبحث عن فريسته إلا إذا جاع، وإذا وجد الفريسة لم يبحث عن غيرها حتى يجوع، ولكن الإنسان -إذا حُرم من الإيمان- لا يشبعه فريسة ولا فرائس؛ فقد يقتل الألوف، بل الملايين وهو لا يشبع ولا يرتوي، بل هو أشبه بجهنم التي يقول الله لها: هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد؟

على أن بعض هؤلاء المتجبرين الذين رأيتهم يمدون أيديهم إلي بالأذى ليسوا أشرارًا في حقيقتهم، ولكنهم قهروا على الشر قهرًا بحكم عملهم ووظيفتهم، والعامة في مصر يقولون: "أكل العيش مُرّ". وأكل عيشهم يضطرهم أن يفعلوا ما لا يحبون، وأن ينفذوا ما يؤمرون، وأن يسارعوا إلى تنفيذه، ويظهروا تجاوبهم معه وتلذذهم به، حتى لا تلحق بهم تهمة قد تحرمهم من عملهم.

وقد عرض أخونا الشاعر المبدع هاشم الرفاعي في رائعته الشهيرة "رسالة في ليلة التنفيذ" للسجان الذي يحرسه وما يدور بخاطره، عرضًا يتضمن لمسة إنسانية، يقول فيها:

هو طيب الأخلاق مثلك يا أبي  **  لم يُبد في ظمأ إلى العدوان

لكنه إن نام عـني لـحـظة  **  ذاق العيال مرارة الحرمان   

أنا لا أحس بأي حقد نحـوه  **  ماذا جنى فتمسه أضغاني؟

على أية حال بقيت في حجز المحلة أيامًا لا أذكر عددها، لم يستطع أحد من الأهل والأقارب أن يصل إلي أو يعرف عني شيئًا، رغم أنهم يمرون على تفتيش المباحث غادين ورائحين، ولكنهم لا يدرون ما يدور فيه؛ فهو أشبه بما وصفه ابن الرومي من قبر ابنه القريب منه، الذي أصبح كما قال: بعيدًا على قرب، قريبًا على بعد !

ثم انتهت مهمتنا في مباحث المحلة، بعد أن انتهى التحقيق معنا، وآن الأوان لنرحل إلى طنطا، ومنها إلى القاهرة لندخل مع إخواننا هناك في الأتون الكبير الذي ينتظرنا، وهو "السجن الحربي" وما أدراك ما الحربي!!

خالتي تواجه السجن بسببي!!

وقبل أن أحدثك -قارئي- عن الحربي وما فيه؛ أحب أن أذكر لك ما جرى لخالتي التي آوتني في بيتها تلك الأيام؛ فما طلع النهار حتى قبضوا عليها هي وزوجها، ثم أفرجوا عن زوجها؛ لأن البيت بيتها هي، وبقيت هي حبيسة على ذمة قضية إيواء مجرم مطلوب للاعتقال، ووقفت أمام القاضي، الذي سألها: كيف فعلت ذلك، وأنت تعلمين ما في هذا الفعل من عقوبة قاسية؟

قالت له: يا سيادة القاضي، إنه ليس شخصًا غريبًا آويته. إنه ابني، ماتت أمه وتركته لي، أفتطرد الأم ابنها إذا أوى إليها؟! ثم إنه بريء لم يرتكب جرمًا .وتأثر القاضي بكلامها، ولكن الجو كان مشحونًا ضدها وضد أمثالها؛ فما كان من القاضي إلا أن أجل القضية، وظل يؤجلها حتى هدأ الجو، وبدأ الإفراج عن بعض المعتقلين، ثم حكم لها في النهاية بالبراءة.

مع كل قَدَرٍ لُطفٌ

يقول ابن عطاء الله في حِكمه الشهيرة متحدثًا عن لطائف أقدار الله: "مَن ظن انفكاك لطفه عن قدره؛ فذلك لقصور نظره {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ} (يوسف:100). يعني أن في كل محنة منحة، وفي كل قدر لطفًا، علمه من علمه، وجهله من جهله، وكثيرًا ما لا يعلمه الناس إلا بعد مدة، كما في محنة يوسف وبيعه لعزيز مصر، واتهامه ودخوله السجن؛ لأن الله تعالى يدخره ليقوم بمهمة فيها إنقاذ مصر وما حولها من مجاعة مهلكة؛ لولا ما هيأه الله له ليقوم به من تخطيط زراعي لمدة 15 عامًا.

لقد كنت ضيق الصدر، شديد التأذي بما جرى لي في مباحث المحلة من إيذاء وإيلام وتعذيب، ولكن بعد ذلك تبين لي أن هذا كان فيه خير كثير لي من حيث لا أدري. أولًا: أعفاني التحقيق الذي حدث في المحلة من إعادة التحقيق معي مرة أخرى في السجن الحربي، حيث تسلموا الملف كاملًا مستوفًى، والتحقيق في المحلة على ما فيه لا يداني ما يجري في السجن الحربي من أهوال تشيب لها الولدان، وتقشعر من ذكرها الأبدان.

ثانيًا: التحقيق الذي جرى في المحلة كان محصورًا في قضية واحدة: قضية الجهاز السري في المحلة، فلم يسألني عن نشاطي الآخر في القاهرة وهو متعدد النواحي؛ ولهذا لم يسألني عن نشاطي في قسم نشر الدعوة ورحلاتي في الصعيد والوجه البحري، ولا عن نشاطي في قسم الطلاب، وخصوصًا طلاب جامعة الأزهر بكلياتها المختلفة، وقد كنت المسؤول الإخواني عنهم، ولم يسألني عن نشاطي في قسم الاتصال بالعالم الإسلامي ورحلاتي إلى لبنان وسورية والأردن، وصلاتي بطلاب البعوث الإسلامية وغيرهم ممن يدرسون في مصر.

مِن لطف الله أنه كان هناك انفصال بين الجهات المختلفة، فكل جهة تبحث فيما يخصها، ولا صلة لها بغيرها. أذكر أننا كنا في إحدى الخرجات التي يُخرجوننا فيها نركض أمام السجن، وقد فوجئت بالأخ الأستاذ أحمد عادل كمال ينتقل من مكان إلى مكان، حتى وصل إلى جواري، وقال لي: هل سألوك عن رحلة سوريا؟ قلت: لا، لم يذكروا لي أي شيء عنها. قال: لو سُئلت عنها فلا تذكر عني شيئًا. قلت: إن شاء الله. وقد كنا التقينا هناك في مدينة حماة. ولكن من رحمة الله أني لم أُسأل على الإطلاق عن أيِّ شيء حول هذه الرحلة.

.....

(1) البحث عن الذات ص 180.

(2) مذكرات عبد اللطيف البغدادي ص 94. انظر: موسوعة التاريخ الإسلامي (9/366) للدكتور أحمد شلبي.

(3) قويت إشاعات التعذيب في السجون حتى إن الحكومة نشرت تكذيبًا رسميًا في إحدى المجلات الموالية لها م أ س (15 ديسمبر 1954) ص 3-6 كما شجعت الصحافة على أن تُبدد من عقول الناس فكرة التعذيب، وذلك بنشر صور وتقارير تُظهر الأحوال الطيبة للسجون والمسجونين أنظر مجلة المصور (26 نوفمبر 1954) 10-21 ، (3 ديسمبر 1954) 11- 15، حيث نشرت صورًا للمسجونين يشربون الشاي ويتجولون في الحدائق، كما نشرت صورة المتهم بمحاولة القتل وهو يستمتع بالشمس وقد أدلى بيده في حوض مائي. وبغض النظر عما حُكي من قصص مفزعة عن التعذيب، فالظاهر أنه ما من شك في استعمال العنف لاستخلاص المعلومات.