فترة ما بعد الاعتقال

بعد صدور قرار الإفراج عنا - آخر فوج كان في السجن الحربي - وخروجنا من سجن القلعة، آخر محطة في اعتقالنا، نُقل كل منا إلى بلده، فمن كان من أهل القاهرة سُلِّم إلى مباحث القاهرة، ومن كان من أهل الأقاليم في الوجه البحري أو الصعيد، نُقل إلى بلده، وتتسلمه المباحث العامة في هذا البلد.

ونظرًا لأن الذي تسلمني من منزل خالتي في طنطا، وسلمني إلى السجن الحربي هو: تفتيش مباحث المحلة الكبرى؛ فقد سُلِّمت إلى طنطا أولًا، ومنها إلى مباحث المحلة، ليؤخذ علينا التعهد اللازم بأن لا نمارس نشاطًا سياسيًّا، ولم يكن محمد شديد مفتش مباحث المحلة - الذي قام باعتقالي وإيذائي - موجودًا، ربما كان في إجازة، فأراحني الله من رؤية وجهه.

وفرغت من إجراءات المباحث، وكان بعض الأقارب ينتظرونني، فذهبت إلى قريتنا «صفط تراب» التي استقبلتني بالفرحة من الرجال، والزغاريد من النساء، وكان الناس ينظرون إليَّ كأنما ولدت من جديد. ألسنا راجعين من السجن الحربي، الذي قيل فيه: الذاهب إليه مفقود، والراجع منه مولود؟ وبقيت أيامًا في القرية، كل يوم في بيت من بيوت الأقارب والأحباب الذين أولموا لي كل يوم بما لذ وطاب، من الطعام والشراب، كأنما يريدون أن يعوضوني عن حرمان مدة الاعتقال.

معارك - أو رحلات بحث - يتحتم عليَّ خوضها

وكان عليَّ في تلك الفترة أن أخوض عدة معارك ضرورية لحياتي ومستقبلي، لا يسعني أن أدعها، ولعل تسميتها: «رحلات بحث» أولى من تسميتها: «معارك»؛ فنحن في حاجة إلى أن نغير «لغة الصراع» إلى «لغة المسالمة». وكانت الرحلة الأولى: رحلة البحث عن الدراسات العليا، فما ينبغي لمثلي أن يكتفي بالشهادة العالمية وتخصص التدريس، وهو قادر على أن يرتقي إلى ما هو أعلى منها، وقد قال أبو الطيب:    ولم أر في عيوب الناس عيبًا  **  كنقص القادرين على التمام

وينبغي أن يكون المسلم طامحًا إلى المعالي أبدًا، ولا يرضى بالدون، وفي الحديث الصحيح: «إذا سألتم الله الجنة، فاسألوه الفردوس الأعلى».  ويقول المتنبي أيضًا:

إذا غامرت في شرف مروم  **  فلا تقنع بما دون النجوم

فطعم الموت في أمر حقير  **  كطعم الموت في أمر عظيم

وإذا كان هناك رجال يعشقون المال والثروة، وآخرون يعشقون الجاه والمنصب؛ فأنا رجل أعشق العلم والفكر. ربما يقال: ولماذا لا تحصّل العلم عن طريق القراءة الخاصة والاطلاع؟ وأنا أقول: لا بد للإنسان من القراءة الخاصة طوال حياته، ولكن الدراسة المنهجية مطلوبة أيضًا لمن تيسرت له؛ لتعينه على تنظيم قراءته وتركيزها.

وكان عليَّ رحلة أخرى تعتبر من «الضروريات» كما يقول الأصوليون في تقسيم المصالح التي جاء بها الشرع إلى: ضروريات، وحاجيات، وتحسينات. إنها رحلة البحث عن عمل أتعيش منه، فالله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلۡنَٰهُمۡ جَسَدٗا لَّا يَأۡكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَٰلِدِينَ} (الأنبياء:8)، وقال عز شأنه: {وَمَآ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّآ إِنَّهُمۡ لَيَأۡكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمۡشُونَ فِي ٱلۡأَسۡوَاقِ} (الفرقان:20).

وما دام الإنسان جسدًا يأكل الطعام؛ فلا بد من السعي لإشباعه، وإذا تم مقصود هذه الرحلة؛ فلا بد من رحلة بحث أخرى، وهي رحلة البحث عن بنت الحلال، التي أجد فيها السكن والمودة والرحمة. وهذا اقتضاني ألا أمكث في القرية طويلًا، وإن كان المكث فيها مريحًا ولذيذًا، وبعيدًا عن ضوضاء المدينة ومشكلاتها، فالإقامة فيها إقامة بين أهل وأقارب تحبهم ويحبونك؛ لهذا توكلت على الله تعالى، وعدت إلى القاهرة، لأبحث فيها - أول ما أبحث - عن مسكن يؤويني، وإن لم يكن معي من المال ما أستأجر به هذه السكن، ولكن الثقة بالله قوية {وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُ} (الطلاق:3).

وقد عشت فترة مع بعض إخواني وتلاميذي من أبناء المحلة: الأخ مدحت البسيوني وإخوانه، وقد كانوا يسكنون في شبرا، فقد نزلت ضيفًا عليهم حتى أجد السكن الملائم، وقد وجدته في حدائق شبرا، شقة في البلكونة الثالثة، ثلاث حجرات نوم وصالة، بها حجرة بحرية، تطل على ميدان. وقد استأجرتها بمبلغ ستة جنيهات، ثم خفضت بعد، على أن يسكن معي فيها أخي العسال، الذي لم يسكن في شبرا من قبل، إذ كان يسكن بالقرب من كلية الشريعة بالدرَّاسة.

مساءلة من المباحث حول النونية

وبعد نحو شهرين أو ثلاثة من خروجنا من المعتقل؛ استدعيت من المباحث العامة، والاستدعاء من المباحث العامة لا يحمل وراءه خيرًا في العادة؛ ولذا كنا نتوقع الشر أبدًا من هؤلاء كما عودونا، وصدق الله إذ يقول: {وَٱلۡبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخۡرُجُ نَبَاتُهُۥ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦۖ وَٱلَّذِي خَبُثَ لَا يَخۡرُجُ إِلَّا نَكِدٗا} (الأعراف:58)؛ لهذا حين استدعوني لم أملك إلا أن أقول: يا رب سلم.

وذهبت إلى وزارة الداخلية في «لاظوغلي»، وهناك أوصلوني إلى إدارة المباحث العامة، وإلى الضابط المسئول عن الإخوان، والمعروف لهم، وهو: أحمد صالح داود، والحق أنه كان رقيقًا معي، وقابلني مقابلة فيها كثير من اللطف، وقال لي: لقد جاءتنا تقارير عنك تقول: إنك ألّفت في السجن الحربي قصيدة طويلة تهاجم فيها الثورة، وتحرض عليها، وكنت تلقيها على الإخوان، وقد حفظوها أو حفظها الكثيرون منهم، وإن هذه القصيدة بمثابة «منشور ثوري» ضد الرئيس عبد الناصر ورجال الثورة، فما قولك في هذا يا شيخ يوسف؟

قلت له: وهل يعقل مثل هذا الكلام؟ وهل كان أمامنا في السجن الحربي فرصة لقول الشعر؟! وهل كان معنا أوراق أو أقلام نكتب بها وفيها هذا الشعر؟! إن أي شاعر ينشئ شعرًا: يحتاج إلى قرطاس وقلم، حتى يقيد خواطره، قبل أن تتبخر، فكيف إذا كانت قصيدة طويلة كما تصفها؟! وأنت تعلم ماذا كانت عليه حالنا في السجن الحربي.

قال: لعل هذا كان في فترة البحبحة الأخيرة!

قلت له: هذه الفترة كنا فيها في غاية الاسترواح والانبساط، ولا توجد حوافز لأي شاعر في مثل هذه الحالة أن يكتب شعرًا من النوع الذي تتحدث عنه.

قال: يعني: أنفي حدوث ذلك.

قلت له: انف، ولا حرج عليك.

وخرجت من عنده، وأنا أحمد الله على السلامة، ولكني ساءلت نفسي: هل ما رددت به على ضابط المباحث جائز شرعًا أوْ لا؟ إن الرسول صلى الله عليه وسلم رخَّص في الكذب في مواضع معينة؛ لضرورات وحاجات خاصة، ومنها: الكذب في الحرب، فإن الحرب خدعة.

ونحن في حالة أشبه ما نكون بحالة الحرب مع رجال الثورة، وإن كانت حربًا من جانب واحد، فهم الذين يحاربوننا ويطاردوننا في كل مكان. على أني لم أستعمل الكذب صراحة في ردي، ولكني استخدمت المعاريض، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب. فكل ردي كان بصيغة الاستفهام: هل يعقل كذا؟ وهل كان معنا ورق وقلم ... إلخ؟ وماذا يصنع الإنسان أمام هؤلاء الجبابرة المستكبرين إلا أن يلوذ بالإنكار؟ فإن كنت معذورًا، فالحمد لله، وإن كنت مخطئًا، فأستغفر الله.

وأود أن أقول هنا: إن النونية بدأت تنتشر بين المهتمين بهذا اللون من الشعر، والذي نشرها بعض الإخوة من رواة القصيدة، الذين أفرج عنهم، وكانوا يروونها لمن يثقون به. حتى إن الأخ الصديق، الشاعر الأديب، ابن دار العلوم: عبد الحفيظ صقر، أخبرني أن الشاعر الذي ذاع صيته في الآفاق هاشم الرفاعي، وكان زميلًا له وقريبًا منه، كان يحفظ كثيرًا من أبياتها ويرددها. وممن كانوا يحفظونها ويستشهدون بها في خطبهم من الخطباء المرموقين قبل نشرها في ديواني «نفحات ولفحات»: الخطيب المفوّه: الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله.

تأميم شركة قناة السويس

وكان أهم حدث وقع في هذه الفترة من صيف 1956م، وهز أركان العالَم؛ هو: إعلان الرئيس عبد الناصر - في 23 يوليو - تأميم شركة قناة السويس، والاستيلاء على كل أملاكها، والبدء في تسيير قناة السويس بمرشدين مصريين بدل الفرنسيين والإنجليز وغيرهم، الذين تخلوا في الحال عن معاونة السفن وإرشادها، ولم يتعاون مع المصريين في ذلك غير اليونانيين.

لقد شد هذا الإعلان انتباه الشرق والغرب، وصفق المصريون والعرب طويلًا لعبد الناصر، وكسب تأييدًا ساحقًا لموقفه هذا الشجاع، حتى الإخوان الذين خرجوا من المعتقلات منذ أسابيع قليلة، والذين لا يزال بعضهم قابعًا في سجون الواحات وغيرها؛ أيدوا عبد الناصر.

وكنت أنا ممن أيده بصدق، وقد علمنا الله أن نكون عدولًا حتى مع خصومنا، كما قال تعالى: {وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَ‍َٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰ} (المائدة:8)، وباتت مصر - وبات العرب معها - ينتظرون: ماذا سيفعل الغرب ممثلًا في بريطانيا وفرنسا في مواجهة عبد الناصر؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام المقبلة، وإن مع اليوم غدًا، وإن غدًا لناظره قريب.