بعد أن انتهت السنة الدراسية (1961، 1962م) كان لا بد من العودة إلى القاهرة، بعد عناء سنة دراسية، وبعد رحلة الحج، وكنت في شوق إلى مصر لأمرين:

الأول: أن ألحق بزوجتي وبناتي، فقد سافروا إلى مصر، قبل رحلتي إلى الحج، وهم يعيشون وحدهم في القاهرة، إذ كان أهلي في قريتي صفط تراب، وأهل زوجتي في سمنود، ولا غرو أن أقلق عليهم، وأريد أن أطمئن على أحوالهم.

الثاني: أن حر صيف قطر، قد أصابنا ببعض لفحاته الساخنة، فغدونا في اشتياق إلى نفحات مصر، ونسائم مصر التي ترد الروح في ذلك الوقت من السنة، وكان جو مصر في منتصف الشهر السادس من «يونيو» أقرب إلى الربيع منه إلى الصيف، وكان في شقتنا «بلكونة» شمالية «بحرية» نبرد إذا جلسنا فيها بعد العشاء، وهو ما تغير في هذا الزمن تمامًا.

وصلت إلى القاهرة، والتقيت زوجتي وبناتي، وقد وجدتهم بخير وعافية في دينهم ودنياهم، فحمدت الله تعالى، وعلمت أن الأخ «سامي» شقيق زوجتي يطل عليهم، ويبيت معهم بين الحين والآخر، ولكن الشاعر يقول:

والليالي من الزمان حبالى  **  مثقلات يلدن كل عجيب!

مرض الأخ محمد الدمرداش ووفاته:

ومما ولدته الليالي من عجائب الزمان، وكانت مفاجأة قاسية بالنسبة لي؛ حين سألت زوجتي: ألم يسأل عني أحد في هذه الفترة من الأقارب أو الأصدقاء؟

قالت زوجتي وهي مرتبكة ومتألمة: لم يعرف أكثر الناس أني والأولاد هنا، فلم يزرنا إلا القليل، ولم يسأل عنا أيضًا إلا القليل؛ لاعتقاد الجميع أننا في قطر، لكن الذي سأل عنك منذ يومين هو عبد اللطيف مراد شقيق محمد الدمرداش مراد، وقد جاء وأنا خارج البيت، وترك ورقة يقول فيها: إن شقيقه الدمرداش، يعاني مرضًا شديدًا، وهو شبه مشلول، ويرقد في مستشفى الدمرداش بالقاهرة.

كان وقع هذا الخبر عليَّ كوقع الصاعقة، فهو خبر لم أكن أتوقعه بحال، ولم تكن له عندي أية مقدمات، وقد تركت الدمرداش حين سافرت إلى قطر: أنضر ما يكون شبابًا، وأصح ما كان جسمًا، وأقوى ما كان عزمًا، وكنت أتخيله يترقب وصولي على أحر من الجمر، لنكثف اللقاءات، ونجدد الذكريات، فإذا بهذه الأحلام تتبخر أمام هذا الواقع المرير.

وفي صباح اليوم التالي، كان أول ما عنيت به الذهاب إلى مستشفى الدمرداش؛ لأرى أخي وصديق عمري على سرير مرضه، وهالني ما رأيت: هذا الجسد القوي النشيط لا يتحرك، وهذا اللسان الفصيح لا ينبس ببنت شفة، وهذا العقل المتوقد، وكأنه انطفأ. أقبلت عليه، وحاولت أن أضمه إليَّ، وأن أناجيه أو أكلمه، فلم يجبني، ليس فيه إلا عينان تبرقان، وأما هو فقد أصبح في الحقيقة بقية إنسان!

رقيته بالرقى المأثورة، ودعوت الله العظيم رب العرش العظيم - سبع مرات - أن يشفيه، وقرأت عليه المعوذات، وآية الكرسي والفاتحة، وسألتُ اللهَ أرحمَ الراحمين: أن يكشف عنه الضر، كما كشفه عن عبده أيوب، وأن يرد عليه العافية والصحة، كما رد البصر إلى عبده يعقوب.

وعدت من عنده إلى منزلي، وأنا أجر رجلي جرًّا، لا تكاد رجلاي تحملانني، وأحست زوجتي بهول ما رأيت، وشدة ما صدمت. قالت زوجتي: ألا يوجد بصيص من أمل؟ قلت: المؤمن لا يعرف اليأس، وإن اشتد الأمر، وادلهمّ الكرب، {إِنَّهُۥ لَا يَاْيۡ‍َٔسُ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ} (يوسف:87)، والأمر كله بيد الله، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وقد قال إبراهيم الخليل في الثناء على ربه: {ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهۡدِينِ * وَٱلَّذِي هُوَ يُطۡعِمُنِي وَيَسۡقِينِ * وَإِذَا مَرِضۡتُ فَهُوَ يَشۡفِينِ} (الشعراء: 78 – 80).

وترددت عليه مرتين بعد ذلك، وهو على حاله لا يتقدم ولا يتأخر، واعتقدت أن أمره سيطول؛ لهذا رأيت أن أقضي واجبًا فوريًّا عليَّ، لا يحتمل التأخير، وهو السفر إلى قريتنا، للسلام على الأهل والأقارب، لأطمئن عليهم، ويطمئنوا علينا، بعد غيبة استمرت نحو تسعة أشهر خارج مصر، ولا سيما أني أديت فيها فريضة الحج، فكل هذا يقضي بالتعجيل بأداء هذا الواجب، لثلاثة أيام أو أربعة على الأكثر، ثم نسرع بالعودة إلى القاهرة؛ لأكون قريبًا من أخي الدمرداش، ونتباحث مع أهله فيما ينبغي عمله بالنسبة لعلاجه.

ولكن القدر كان أسرع مني، فقد تركت الدمرداش مساء اليوم، وفي صباح الغد سافرت إلى القرية، لألتقي بأبناء العم والعمة، والخال والخالات، وأولاد الخال والخالات والأقارب كلهم، وقد فرحوا بقدومي فرحة الظمآن بالماء العذب البارد، وبخاصة: أن زوجتي وبناتي كن معي جميعًا، ولكن ساعات الصفاء والسرور لا تدوم كثيرًا، فما كدنا نبيت ليلة في منزل الحاج إبراهيم ابن عمي، ونلتقي الأقارب، ونقضي يومًا معهم طاعمين ناعمين مبتهجين؛ إلا وقد جاءني ما كنت أحسه وأخافه، وإن لم أصرح به.

ففي اليوم التالي، جاء الأخ الحبيب الشيخ مصباح محمد عبده، من محلة أبو علي إلى صفط؛ ليخبرني بوفاة الدمرداش، ونقله إلى بلده بالسملاوية، في مركز زفتى، ودفنه فيها صباح هذا اليوم، قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلفنا خيرًا منها. اللهم ألهم أهله الصبر، وأجزل لهم الأجر، وعوضهم خيرًا. اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله. وكأنما أصبح نهاري ليلًا، وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت.

قال مصباح: نريد منك كلمة ننشرها في صحيفة «الأخبار» نعيًا منك لأخيك وصديقك. وأمليت عليه كلمات بعث بها من يسلمها مكتب الأخبار في المحلة.

ثم ذهبت أنا ومصباح - ولا أذكر أكان معنا ثالث أم لا - إلى السملاوية، لنشارك عزاء حبيبنا الدمرداش. ونحن ننشد قول أبي الحسن التهامي:

حكم المنية في البرية جار  **  ما هذه الدنيا بدار قرار

بينا يرى الإنسان فيها مخبرًا  **  حتى يرى خبرًا من الأخبار

جُبلت على كدرٍ وأنت تريدها  **  صفوًا من الآلام والأكدار

ومكلف الأيام ضد طباعها  **  متطلب في الماء جذوة نار

الأخ الحبيب محمد الدمرداش مراد:

كانت وفاة أخي محمد الدمرداش صدمة هائلة لي، وكان فقده من أشد المصائب قسوة على نفسي. وقد فقدت أمي وعمي وابن عمي وكثيرًا من الأقارب، فلم أحزن عليهم كما حزنت على الدمرداش.

بل أشهد أني جزعت عليه أكثر مما ينبغي من مثلي، ممن يعلّم الناس أن الموت حق، وأنه قدر الله الذي لا يُقابل بغير الرضا والتسليم، وأن الجزع لا يرد فائتًا، ولا يحيي ميتًا، وأن الصبر عند الصدمة الأولى، وأن الموت ليس نهاية المطاف، بل هو بداية سفر جديد إلى دار أخرى هي خير وأبقى للمؤمنين.

وما الموت إلا رحلة، غير أنها  **  من المنزل الفاني إلى المنزل الباقي!

وقد سافرت من قريتنا «صفط تراب» أنا وأخي مصباح عبده رحمه الله، ولحقنا بعض الإخوة إلى السملاوية، ولكنا لم ندرك دفن الفقيد ولا الصلاة عليه، فقد تم ذلك منذ الصباح، ونحن لم نصل إلا في المساء، وكان الناس يكلمونني فلا أرد عليهم إلا بالبكاء.

وحضر بعض الإخوة من المحلة مثل: الأخ مصطفى الغنيمي، والأخ حسين عتيبة رحمهما الله، وطلبوا مني أن ألقي كلمة عن الفقيد بما أعرفه عنه ولكن لم يكن عندي قابلية للكلام، ولا قدرة عليه. ما عندي غير البكاء، ولغة الدموع.

لم أتذرع بالصبر الذي يتسلح به المؤمنون في مواجهة عوادي الدهر، وهو ما أمرنا به الله في كتابه حين قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة: 153 - 157).

وكان ينبغي أن أتصبر، وأتكلف الصبر؛ حتى يصبرني الله على ما ابتلاني، كما وعدنا الرسول الكريم بقوله: «ومن يتصبر يصبره الله» متفق عليه، ولكن الواقع أن مصيبتي في أخي هزتني وهزمتني، فقد كان الدمرداش هو الأخ الذي قال فيه المثل العربي: رُبَّ أخ لك لم تلده أمك. وكان الصديق الذي قال فيه الشاعر:

حسبي من الدنيا صديق صادق  **  فرد، فكُنْه، ولا احتياج لثان

كان أكثر الأصدقاء قربًا مني، ورضا عني، واعتزازًا بي، وحبًّا لي، وتوقًا إليَّ، ورجاء فيَّ، وكان يعرف مدخلي ومخرجي، وظاهري وباطني، وسري وعلانيتي، وأفضي إليه بما لا أفضي إلى غيره من الإخوة والأصدقاء، وقد اقترب كلانا من صاحبه حتى أوشكنا أن نكون شخصًا واحدًا.

وقد عرفته وعرفت أسرته جميعًا: أباه وأمه وأخويه عبد العزيز وعبد اللطيف وأخته وزوجها الشيخ حامد عمر، وأصهارهم وكل من يتصل بهم، ومن دارهم وقريتهم اعتقلت سنة 1949م. كما عرف هو كذلك أهلي وأسرتي وعمي وخالي وكثيرًا من أقاربي، ربما كان عيبه أنه ينظر إليَّ بعين الرضا والحب، فلا يكاد يرى عيوبي ونواقصي وما أكثرها، وإنما يرى محاسني بمنظار مكبر، يجعل من القط جملًا، ومن الحبة قبة، كما يقول المثل، أو كما قال الإمام الشافعي: وعين الرضا عن كل عيب كليلة   كما أن عين السخط تبدي المساويا!

كان الدمرداش مثلي في نشأته الريفية، معتزًّا بأخلاق القرية المصرية الأصيلة، قبل أن تفسدها تقاليد المدينة التي غزتها من بعد، ونقلت إليها كثيرًا من أمراضها التي انتقلت إليها بالعدوى من الخواجات والأجانب، كانت فيه شهامة أهل القرية ونجدتهم وكرمهم وصفاء طويتهم، وفيها أحيانًا لون من الشدة أو الصراحة الفطرية، قال لي يومًا عن سببها: إن أصلنا من الصعيد، فهم يقولون: المرايدة صعايدة.

وكان الدمرداش يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها، ويطمح إلى أن يجعل من نفسه شيئًا مذكورًا، فهو ينظر إلى من حوله، ويتأمل المواقف، ويتدبر السير، ويستمع إلى الكلمات، ويختزن هذا كله ويتمثله، ليأخذ أحسن ما فيه، قولًا وعملًا، وفكرًا وشعورًا وسلوكًا. وكان يملك وعيًا بصيرًا، ويملك إرادة قوية، وإذا اجتمع الوعي والإرادة صنعًا الكثير.

كان يحب أن يكون أديبًا، وقد أخذ نفسه بالقراءة والمطالعة ما أسعفه وقته وجهده، حتى وصل إلى مرتبة يحسن أن يقول فيها فيُسمع، وأن يكتب فيبدع. رأيت معه مرة مذكرات يكتب فيها خواطره، فقرأت فيها فقرات تنبئ عن ارتقائه إلى درجة عالية من تذوق الأدب، وروعة البيان، وجمال الأسلوب، وأحسب لو أمهله القدر، لكان له شأن في عالم الأدب.

ولقد عُيّن مدرسًا للغة العربية والدين في مدينة «ملوي» بصعيد مصر، فكان خطابه في طابور الصباح يهز المشاعر، ويأخذ بالألباب، كما كان محببًا إلى طلابه لحسن طريقته معهم، وحدبه عليهم، ورعايته لهم، كما كان موضع حب وثناء من أهل البلد جميعًا .

قابلني بعد أن صدرت الطبعة الأولى من كتابي «الحلال والحرام في الإسلام» فكان حفيًّا به، ومزهوًّا بظهوره، كأنما هو مصنفه، وكان يقول: إنه باكورة طيبة، نرجو أن ينهمر بعدها الغيث.

ولم تمهله المنون حتى يرى بشائر الغيث، فقد اختطفه الموت، وهو في ريعان الشباب، أرجى ما كان قربًا من النضج والعطاء، فما أقسى الموت، وهو يأخذ منا أحبابنا، ويعجل بخيارنا.

الناس للموت كحبل الطراد  **  فالسابق السابق منها الجواد

والموت نقَّاد على كفه  **  جواهر يختار منها الجياد

لم يكن المرض الذي أصاب الدمرداش بالعضال ولا بالقتال، ولكن يبدو أن الطبيب الذي عالجه في أول الأمر أخطأ تشخيص المرض، فأعطاه أدوية مرض آخر، وهي أدوية ذات تأثير كبير على الجسم، فهدت البنيان القوي، وظل يعاني مدة طويلة ولا يتقدم، حتى اضطر أن يترك «ملّوي»، ويذهب إلى قريته، ليبحث عن علاج آخر، وطبيب آخر.

وقد أخبرني أخي د. عبد العظيم الديب، الذي كان زميلًا له في ملوي، مساكنًا له في المنزل الذي يقيم فيه، فكل منهما يحتل أحد الطوابق: أنه حين غادر ملوي، لم يكن بالحالة المتردية التي يخشى عليه فيها، ولكن سرعان ما اشتد عليه الداء، ونقل إلى مستشفى الدمرداش في القاهرة، التي وافاه فيها الأجل المحتوم، الذي لا يستأخر عنه ساعة ولا يستقدم. وإن أجل الله إذا جاء لا يؤخر.

وما أصدق ما قاله ابن الرومي، وقد مرض، فغلط الطبيب في تشخيص دائه، ووصف دوائه، وكان في ذلك منيته، وقد قال في ذلك:

غلط الطبيب عليَّ غلطة مُورد    عجزت موارده عن الإصدار!

والناس يلحَوْن الطبيب، وإنما   غلط الطبيب إصابة الأقدار!

وقد رثيته بقصيدة كتبتها، وأنا رهين محبس المخابرات المصرية في حي سراي القبة بعد وفاته، والعجيب أن هذه القصيدة تاهت مني مع قصائد وأوراق أخرى، ثم عثرت عليها مصادفة بعد (38) ثمانية وثلاثين عامًا، ومما جاء فيها:

الفراق الطويل: كان يومًا مقطب    الجبين أسود يوم قالوا: مات الحبيب محمد

غرق الوجه بالدموع، وكاد الـ      ـقلب من فرط ما به يتجمد

وتهاويت مثخنًا مثل طير    هاض منه الجناح سهم مسدد

غلبت روعة المصيبة صبري     ويقيني، ما استطعت أن أتجلد

كيف لا؟ والحبيب قد ودعْتُه اليـ     ـوم وداعًا لا يعرف "العود أحمد"

فرق الموت بيننا، يا أسى قلـ       ـب لطول الفراق لم يتعود

يا لحظي!! أأفقد الأم والوا       لد حتى أخو شبابي يُفقد!

يا لحظي!! أخي الذي كان درعي     في خطوبي، وكان سيفي المهند

رب عفوًّا! ما منك أشكو، ولكن     غلب الصدر حزنُه فتنهد

حكمة الله فوق أوهام عقلي       ولسان السماء والأرض يشهد

رب، آمنت بالقضاء، فهب لي    من لدنك الرضا، لأقوى وأصمد

حاش لي أسخط القضاء، ولكن    ما خلقتَ الذي بصدري جلمد

أنت عوضتني به عن أخ الد       م فكان الأخ الشقيق وأزيد

كان مستودعًا لسري من آ    لام أمس مضى، ومن حلم الغد

إنها لم تكن صداقة أعوا       م ولكنه إخاء تجسد

ما رآني يومًا سعيدًا فيأسى      أو رآني يومًا، حزينًا، فيسعد

يبسم الدهر لي، فيطرب كا      لبلبل فوق الأغصان غنى وغرد

ويصيب الزمان قلبي بسهم   فكأن الرامي إليه تعمد

كنت منه وكان مني كشخص     قد تسمى بـ "يوسف" و "محمد"

فهو يبدو في صورتين وباسميـ   ـن وخلف الرسمين روح مفرد

لهف نفسي على فتى عاش لله     وللدين صارمًا ليس يغمد

عاش للخير ساعيًا غير وان    عاش للحق جمرة ليس تخمد

عاش للمجد والمعالي طموحًا     ودّلو يمتطي السحاب فيصعد

عاش في ساحة الفضيلة جنديـ      ـا وفي حلبة الشهامة أوحد

خُلق القرية الأصيلة فيه      قبل غزو القرى بما ليس يحمد

يا عضالًا حار الأطباء فيه      أرقد الفارس الفتى شر مرقد

ليس فيه من الحياة سوى قلـ     ـب بصدر أنفاسه تتردد

وفم قبل كان يهدر بالفصـ      ـحى تراه ما عاد يرغي ويزيد

ثم عين فيها بريق، ولكن      قبل كانت شرارة تتوقد

أين باقي الفتى؟ لقد مات منه!    بدن هامد، وحس تبلد

قدر الله أعجز الطب فارتد    حسيرًا يقول: ما لي من يد

قل لذاك المغرور بالعلم: ماذا     يفعل العلم، والردى لك مرصد؟

فجِّر الذَّر شامخًا، ثم طأطئ    عند سر الحياة هذا المعقد

كان الدمرداش قد وفق إلى الزواج والإصهار إلى أكرم عائلات قريته، فتزوج ابنة الأستاذ إبراهيم أبو سعدة، وهو من خيرة رجال التربية والتعليم، وقد ترك القرية، وأقام في مدينة زفتى، وكان موفقًا في زواجه، سعيدًا به، وقد رزق من زوجه ابنتين هما: ناهد ونجوى، كانتا قرة عينه، ومهجة فؤاده، وكبديه تمشيان على الأرض، وقد شاء القدر الأعلى أن يودعهما ويتركهما زهرتين لم تتفتحا بعد، واستودعهما عند من لا تضيع عنده الودائع.

وقد نشأت الفتاتان الكريمتان في حضانة جدهما وخالهما، ورعاية أمهما التي تأيمت عليهما. وسرعان ما توفي الجد رحمه الله، وبعد سنين توفيت الأم رحمه الله، على صغر سنها، وتوفي الخال أيضًا، وتخرجت الفتاتان وتزوجتا.

ومنذ سنوات جاءتني الحبيبة ناهد الكبرى، وقالت لي: إنها مقدمة للعمل في وزارة التربية في قطر، مدرسة للتربية الرياضية، وفرحت بلقائها، واستعدت بعض الذكريات العطرة برؤيتها، وسألتها عن أحوالها وأحوال شقيقتها التي لم يقدر لي أن أراها منذ صباها، ووجدتها فرصة أن أقوم ببعض حقها عليَّ، فأوصيت عليها اللجنة المختصة باختبار المدرسات، ولكن يبدو أنها لم يكن لها نصيب.

والحقيقة أني مقصر في حقها وحق أختها، حتى إني لا أعرف عنوانهما، ولا كيفية الاتصال بهما، صحيح أني مهموم ومزحوم بما لا ينتهي من الواجبات، التي هي أكثر من الأوقات، ولكن هذا لا يرفع عني وزر التقصير، الذي أسأل الله أن يسامحني فيه.

وشكر الله للأخ الصديق الأستاذ عبد الله العقيل، الذي يسألني كثيرًا عن أسرة الدمرداش، فجزاه الله خيرًا عن وفائه وصدق أخوته.

العودة إلى القرية:

ودعت «السملاوية» بعد أن أودعت في ثراها: أخي ورفيق دربي، وصديق عمري محمد الدمرداش، بعد أن بتُّ فيها ليلة لم يكد يغمض لي فيها جفن، أو يستقر لي فيها جنب، ودعت هذه القرية التي أحببتها وأحبتني، ولي فيها ذكريات عزيزة، وألقيت النظرة الأخيرة عليها، وأنا أحسب أنها آخر زيارة لي فيها.

لقد كان موت الدمرداش صدمة كبيرة لي، ومما زاد من صدمتي: إني لم أدرك جنازة صديقي، ولا الصلاة عليه، وكان عليَّ أن أذهب إلى قبره لأصلي عليه هناك، ولكن هول الصدمة أذهلني عن ذلك. لقد كنت أحفظ من الشعر القديم الذي ينسب إلى سيدنا عليّ رضي الله عنه قوله:

شيئان لو بكت الدماء عليهما     عيناي حتى يؤذنا بذهاب

لم يبلغا المعشار من حقيهما:      فقد الشباب وفرقة الأحباب!

فكيف إذا كان فراق الحبيب فراقًا لا يُرجى معه لقاء في هذه الدار؛ لأنه فراق بالموت، هادم اللذات، ومفرّق الجماعات؟

وعدت إلى قريتي، وقد تركت فيها زوجي وصغيراتي الثلاث: إلهام، وسهام، وعلا، وهن فراخ لم ينبت لهن ريش.

كنت أريد أن تظل بيني وبين القرية صلة، لا تنسيها المدينة، ولا تقطعها الغربة، وأردت أن تعرف زوجي البيئة التي نشأت فيها، والدار التي درجت بها، والناس الذين عايشتهم في صباي وشبابي، وأن تعرف بناتي هذه القرية، ويرتبطن عاطفيًّا بأهلها، فهم مني، وأنا منهم.

والحق أني سعدت بموقف امرأتي، حيث لم تضق ذرعًا بعيشة القرية، على ما فيها من ضيق وعسر، وعدم تيسر أسباب الراحة الموفورة في المدينة. واستقبلت الحياة في القرية بهدوء وطمأنينة، ظهر أثرها في بناتها اللاتي لم يتعودن مثل هذه الحياة الخشنة، لا في القاهرة، ولا في الدوحة.

ولكن شاء الله أن تحدث أكثر من مفاجأة في زيارتنا للقرية..

كانت المفاجأة الأولى: موت صديق الدمرداش.

أما المفاجأة الأخرى، فكانت أمَرّ وأقسى.

بعد عودتي من السملاوية، بتُّ ليلةً في دارنا، دار العائلة، التي يعيش فيها إبراهيم ابن عمي وأولاده، ثم أصر خالي رحمه الله أن يكون لمنزله حظ مني ومن زوجي وبناتي، فانتقلنا صبيحة اليوم التالي، إلى منزل خالي، وهو المنزل الذي ولدت فيه، وكان ساحة للعبي، أنا وأبناء خالتي، ورأت زوجتي «المنضرة» التي شهدت ولادتي.

وبعد أن تناولنا الغداء الذي أعدته خالتي «طاهرة» مما لذ وطاب من البط والدجاج والحمام البلدي مما يربى في منازل الريف من الدواجن والطيور، ويعيش وينمو على الغذاء الطبيعي، قبل أن يعرف الناس دواجن المزارع الجماعية، التي تُغذى على الأعلاف الصناعية، التي أمست مثار شكوى كثير من الناس في أنحاء العالم، نعمنا بهذه اللحوم البلدية وما يصحبها عادة من الرقاق والثريد والحساء «الشوربة» والملوخية، وغيرها.

اجتمع على هذه المائدة الخال والخالات وأولادهن، وكانت جلسة عائلية ممتعة، كان خالي فيها نجم الحفل، بما يروي من قصص ونوادر وحكايات، تستفرغ منا الضحك إلى حد القهقهة أحيانًا.

ومن عادة المصريين إذا جلسوا مثل هذه الجلسات التي يغلب فيها الأنس والفرح والابتهاج والضحك ملء الفم؛ أن يقولوا: اللهم اجعله خيرًا. كأنما خبر الناس بطول التجارب والمعاناة: أن ساعات الأنس والبهجة لا تطول، ويتوقعون بعدها مفاجآت من الزمان الغدار، تحيل الفرح إلى حزن والضحك إلى بكاء.

وما كدنا نصلي العصر، حتى حدثت المفاجأة التي كان الناس يخشونها بأحاسيسهم، وإن لم يتوقعوها بعقولهم.