عادت زوجتي وبناتي الثلاث من القاهرة، بعد أن قضوا فيها فترة الإجازة الصيفية، وزاروا الأهل والأقارب، كما زارهم الأهل والأقارب، وبعدوا عن جو الدوحة اللاهب في فصل الصيف، وإن قالوا هم: إن وجودنا في حر الصيف خير من افتراقنا، ولكني كنت أحسب حساب الأطفال، وحقهم في الاستمتاع بجو أفضل وأروح، لأبدانهم ونفوسهم.

وبعد شهر من عودة الأسرة إلى الدوحة؛ جاءنا رزق جديد، وأشرق في بيتنا نور جديد؛ فقد ولدت ابنتي الرابعة: أسماء، في منتصف أكتوبر 1963م.

كنا قد سمّينا بناتنا الأول: أسماء حديثة: إلهام، سهام، علا، لا أسماء تراثية. وقلت لزوجتي: لا بد أن نسمي بنتنا اسمًا من التراث: من أسماء أمهات المؤمنين أو الصحابة، وكان أمامنا اسمان محببان إلينا: سمية أو أسماء، ولكن بعض أقاربي كان عندهم سمية، فآثرنا «أسماء» تيمنًا بـ «ذات النطاقين» رضي الله عنها. وكان لها والله فرحة في قلوبنا لا تقل عن الفرحة بأخواتها، وإن لاحظت أن بعض الناس حين علم أن المولود الرابع أثنى كأنما أشفقوا عليَّ أن أكون: أبا البنات!

والحق أن البنات كالذكور هبة من الله تعالى لأهليهم، ومنحة من فضله لهم، وقد قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (الشورى:49-50).

وقد مضى زمن الجاهلية، الذي كان الناس فيه يضيقون بالإناث ذرعًا، ويقول أحدهم، وقد وضعت امرأته أنثى: والله، ما هي بنعم الولد! ويقول القرآن في وصف حالهم: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} (النحل:58-59)، وقد ذهبت هذه الجاهلية الجهلاء برؤيتها القاتمة، ونظرتها الآثمة للأنثى، وقد قال تعالى في كل من الذكر والأنثى: {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} (آل عمران: 195).

وقد رأينا في العهد الإسلامي نظرة أخرى إلى البنت تفيض رقة وحنوًا. يقول الشاعر:
لولا بنيات كزغب القطا  **  رددن من بعض إلى بعض

لكان لي مضطرب واسع  **  في الأرض ذات الطول والعرض

وإنما أولادنا بيننا  **  أكبادنا تمشي على الأرض

لو هبت الريح على بعضهم  **  لامتنعت عيني من الغمض

وكم من بنات كن لآبائهن وأمهاتهن أنفع من كثير من الأبناء، ورُبَّ أنثى تفوقت على كثير من الرجال، كما حكى لنا القرآن قصة ملكة سبأ التي قال لها الرجال: {نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} (النمل:33)، ومثل مريم التي وضعتها أمها أنثى، وكانت تحلم بذكر نذرته لخدمة المعبد. ولكن هذه الأنثى كانت خيرًا من أعداد من الرجال، فقد اصطفاها الله وطهرها واصطفاها على نساء العالمين، وكانت أمًّا للمسيح عليه السلام.

وقد قال أبو الطيب في رثاء بعض النساء:
ولو كان النساء كمثل هذي  **  لفضّلت النساء على الرجال

وما التأنيث لاسم الشمس عيب  **  ولا التذكير فخرٌ للهلال

ومع هذا: لم أيأس أبدًا أن يكون لهؤلاء البنات الأربع، إخوة ذكور، يهبهم الله لنا، كما وهب لنا أخواتهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

أول سيارة أقتنيها في حياتي

وفي هذه السنة الدراسية (1963 - 1964م) اقتنيت أول سيارة في حياتي، وهي سيارة «مرسيدس» من طراز (190) كحلية اللون، وكان هذا تطورًا مهمًّا، فقد كانت أدوات التنقل في قريتنا - بالنسبة إلينا - تنحصر في اثنتين: 1- الأرجل   2- الحمير.

فكانت أقدامنا هي وسائلنا، وأسرع أدواتنا في التنقل داخل القرية، أو بين القرى بعضها وبعض، كنا نذهب إلى القرشية - حوالي سبعة كيلو مترات - لنأخذ في مستشفاها: الإبر أو الحقن، لمعالجة البلهارسيا.

وكان الحمار وسيلتنا الثانية في التنقل، نركبه عريانًا في الحقل، ونركبه مُحلّى بالبردعة، وهي للحمار، كالسرج للفرس، والبرادع درجات ومستويات حسب مستويات الحمير ودرجاتها. فهناك حمار يسمونه «الحساوي»، وكأن أصله من «الحسا» في المملكة العربية السعودية. وهو أطول قامة، وأحسن شكلًا، وأكثر سرعة، من الأنواع البلدية الأخرى، ولا يستعمله إلا الأثرياء، وبردعته من القطيفة أو ما يشبهها، وهم يركبونه ليمروا به على مزارعهم، أو ليوصلهم إلى محطة القطار. يركض الحمار، وخادمه يلهث خلفه!

وبعضهم أعلى من ذلك مقامًا، يستخدم الحصان بدل الحمار، وأرفع من ذلك: من يستخدم العربة ذات الحصان الواحد أو الحصانين، وهي التي يسمّونها: الحنطور أو الكرتّة، وفوق هذا كله: من يمتلك السيارة الخاصة، ويسمونها في مصر: «الملّاكي»، تنهب الأرض، وتختصر المسافات اختصارًا، فتقرب البعيد، وتسهل الصعب، وهذه لم يكن يملكها في قريتنا إلا كبار الأعيان من «آل خضر» خاصة.

أما سائر الناس، فيركبون القطار، كل في الدرجة التي تناسبه: الأولى «البريمو»، والثانية «السكندو»، والثالثة «الترسو»، قال أحد الظرفاء، وقد سُئل: لماذا تركب الدرجة الثالثة؟ قال: لأني لم أجد في القطار درجة رابعة! وكنا بالطبع من ركاب «الترسو»! أما سيارات الأجرة، فكانت قليلة، ولم تكن ظهرت الحافلات «الباصات أو الأوتوبيسات»، فلما ظهرت كان لها رواج كبير، وغطت حاجات لا تغطيها القطارات.

وهكذا ركبناها حينما ذهبنا إلى طنطا للدراسة الابتدائية والثانوية. فكنا نستعمل الأوتوبيس أو القطار، كما كنا في أحيان كثيرة نستعمل أرجلنا، بين طنطا وصفط (21) كيلو، نذهب إلى القرية ماشين، ونعود منها راكبين؛ لأننا نكون محملين بالزوادة والفلوس.

وحين انتقلنا إلى القاهرة للدراسة في الجامعة: وجدنا في القاهرة وسيلة جديدة رخيصة، هي «الترام»، وثمن تذكرته خمسة مليمات، لكنا لم نكن نستعمله إلا في المسافات الطويلة: من شبرا إلى العباسية، (ترام 21)، أو إلى السيدة (ترام 5)، أو إلى الجيزة (ترام 13) ونحوها؛ لأن ميزانيتنا المحدودة لا تحتمل التوسع في نفقات الركوب.

ولهذا كنا حريصين على استخدام الترام المجاني، الذي سميناه (رقم 8)، ونعني به: رجلينا، فهي على شكل الثمانية (8) بالعربي، وبعضهم كان يسميه: (رقم 11) على اعتبار أن كل رجل تمثل (رقم 1) فإذا تجاورتا كانتا (11)، أما في قطر، فالمشي فيها لا يتيسر؛ لشدة الحر معظم العام، وليس فيها حافلات للنقل بالأجرة «باصات»، إلا ما ينقل الطلاب والطالبات إلى مدارسهم أو مدارسهن.

لهذا كانت وزارة المعارف تتكفل بنقل المدرسين والمدرسات إلى مدارسهم، وتعيدهم إلى بيوتهم، بل كانت تسمح باستخدام المدرس لسيارات المدرسة لتذهب امرأته إلى المستشفى إذا كانت حاملًا، أو نحو ذلك، بل كانت بعض ربات البيوت يذهبن بسيارات المدرسة إلى السوق، وتسامح الجميع في ذلك، وبعض المدرسين أرادوا التحرر من ذلك، فاشتروا سيارات لحسابهم، وهي في الغالب سيارات مستعملة، تشترى بثمن معقول، مقدور على دفعه.

ولما عزمت على شراء سيارة، لم أرد أن تكون سيارة قديمة، أهلكها سوء الاستعمال، فإن هذه تحتاج إلى عَمْرة بعد عَمْرة، وإصلاح بعد إصلاح، وهي كالثوب البالي، كلما خطته من جانب تمزق من جوانب، وأنا امرؤ لا علم لي بالسيارات وميكانيكيتها، وبحسبي أن يوفقني الله إلى قيادتها، أما أن أعرف ماذا في الموتور، وماذا في الماكينة، وماذا في الكهرباء، وماذا في الريداتير، إلى آخره، فما أنا في هذا الأمر بخبير، ولا نصف خبير.

ولذلك يهمني أن أشتري سيارة جديدة أو قريبة من الجديدة، حتى تريحني من التصليح وأعبائه. ووفقت في العثور على سيارة مرسيدي (190) اشتراها صاحبها من سنة واحدة، ويريد أن يبيعها لظروف خاصة به، ودفعت فيها حوالي (11000) أحد عشر ألف روبية. وهو مبلغ كبير نسبيًّا، ولكن وعدت بأني سآخذ سلفة من الحكومة بمثل هذا المبلغ، أو بأكثر منه، وقد كان.

كان بعض الزملاء يحسبون أني أطلب المباهاة بهذه السيارة التي تعتبر نسبيًّا فارهة، ولم أكن يومًا في حياتي من طلاب المباهاة، أو الاختيال، والله لا يحب كل مختال فخور. بقي عليَّ واجب التعلم للقيادة، حتى أحصل على رخصة، أستطيع أن أسوق بها السيارة حيثما شئت. وقطعت شوطًا طيبًا في أيام معدودة بمساعدة بعض الإخوة مثل: الشيخ العسال، والشيخ محمد العوضي العجرودي رحمه الله، الذي كان يعد كأنه «مهندس» في تصليح السيارات، وهو شيخ أزهري مدرس للعلوم الشرعية.

وهذا التقدم الذي أحرزته بسرعة؛ أغرى الإخوة أن يمكنوني من عجلة القيادة قبل الأوان، فخرجنا في يوم جمعة كالعادة، في طريق الخور، وكنت أقود السيارة مدة طويلة لم يحدث فيها أي شيء، ولكن سرعان ما حدثت مفاجأة، وهي أن السيارة التي كانت أمامي - وكنا سربًا من السيارات - وقفت فجأة، وهنا ارتبكت، ولم أستطع أن أتحكم في السيارة، ولم يسعفني جاري الأستاذ العسال بعمل شيء كتحويل مسار السيارة. فوقع المحظور، واصطدمت سيارتي بالسيارة التي أمامها: بسيارة العوضي من الخلف «أي في شنطتها». وتعطل الريداتير، وتحطم مقدم السيارة عندي، كما أصيبت شنطة سيارة العوضي.

وقال بعض الإخوة: إنها «عين» أصابت سيارة الشيخ، فقد كانت هي عروس هذا السرب من السيارات. ونحن نؤمن أن «العين حق»، كما جاء في الحديث، ولكنا لا نبالغ في إحالة الحوادث إلى العين، وننسى قضية الأسباب والمسببات. كانت هذه غرامة كلفتني حوالي خمسمائة روبية لإصلاح سيارتي، وثلاثمائة روبية لإصلاح سيارة العوضي. والحمد لله أولًا وآخرًا.

وأعجب من ذلك: أنه لم تكد تمر عدة أيام على هذا الحادث؛ حتى حدث لي حادث آخر أمام المستشفى، لم أصدم فيه سيارة، ولكن صدمت الأخ الشيخ مصطفى جبر رحمه الله، فوقع على الأرض، ولكن الله سَلَّم، فلم يصب بجراح، وفي هذا أنشد الأخ الشيخ عليوة مصطفى، وكيل المعهد قصيدة لطيفة، أنشدها في حفل بالمعهد، ونشرت في «مجلة الحق» التي يصدرها المعهد كل عام. قال فيها مخاطبًا لي:
خفف الرِّجل لا تدسْ «بنزينًا»  **  وابدأ السير هادئًا ورزينا

لا تغامر إذا الإشارة أبدت  **  حمرة العين لو وقفت سنينا

الحج مع العائلة سنة 1384هـ

وبعد سنتين من حجي الأول بمفردي: اجتهدت أن أحج أنا والعائلة، وقد فكرتْ مجموعة من المدرسين وموظفي وزارة المعارف في قطر، أن نخرج باعتبارنا بعثة من وزارة معارف قطر، وترسل الوزارة إلى وزارة معارف السعودية لتؤدي لنا بعض الخدمات، مثل: إعطائنا مدرسة في مكة، وأخرى في المدينة. وكلمنا الوزارة في ذلك، فرحبت بالفكرة، وكلفتني برئاسة البعثة، وخاطبت الجهات المسئولة في معارف السعودية، ورحبوا بنا ووعدوا أن يقدموا لنا من التسهيلات ما يساعدنا على أداء مناسكنا بيسر وسهولة.

وكنا عددًا من المدرسين والموظفين الإداريين بالوزارة، كل واحد مع عائلته، أذكر منهم الإخوة: عبد اللطيف زايد، وعلي جمّاز، وعبد الرحمن الجبالي، ويوسف السطري، ومحمد عبد الظاهر، وغيرهم.

وقد استأجرنا طيارة خاصة «شارتر» لتقوم بنقلنا إلى جدة، ثم تعود بنا من جدة إلى الدوحة، بعد الفراغ من أداء الفريضة، وكانت طائرة قديمة من طائرات الخليج العتيقة، تعمل بالمراوح، وأذكر أنها أخذت منا أكثر من أربع ساعات، وكانت معظم وقت الرحلة تهتز وتتأرجح، حتى وجدت أكثر ركاب الطائرة - وخصوصًا من النساء - يتقايأن، ولا سيما أن للإيحاء والمحاكاة والمشاركة الوجدانية أثرها في مثل هذا الأمر.

وقد نزلنا هناك في مدرسة قريبة نسبيًّا من الحرم، واقتسمناها بالسوية، كل حسب عياله وحاجته، وكثيرًا ما تشترك عائلتان في حجرة واحدة، ينام الرجال متجاورين، والنساء متجاورات. وفق منطق الضرورات التي تبيح المحظورات.

وكانت معي زوجتي وبناتي الأربع الصغيرات، وأصغرهن: أسماء التي كان عمرها نحو ستة أشهر، وكانت أمها تحملها على عاتقها في الطواف وفي السعي، وكان الأخ الشهم الكريم محمد عبد الظاهر - وهو رياضي فارع الجسم - كلما رآها خطفها منها، وحملها على عاتقه، رحمه الله وغفر له، وجزاه خيرًا.

كان هذا هو الحج الوحيد الذي عانيت فيه كما يعاني الناس، وربما أكثر من الناس في بعض الأحيان، فقد نمنا على البلاط في هذه المدرسة، وعانينا أحيانًا من قلة الماء، وفي منى وعرفات، كنا مع أحد المطوفين ونزلنا في الخيام، ونمنا على الحصى، وشعرنا بمشقة الحج، كما يشعر الآخرون. وهذا من الحِكم التي شُرعت لها هذه العبادة العظيمة {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} (الحج:28).

وفي المدينة نزلنا في إحدى المدارس عدة أيام ثم رأينا أن نرفّه أنفسنا، فانتقلت أنا وأولادي إلى فندق التيسير القديم، لعدة أيام أحسسنا فيها بالرفاهية والراحة.