وصلتني رسـالة من بعـض الإخـوة في أوربا يســألون عن حكـم كتابة القـرآن الكريم بالحرف اللاتيني للذين يدخلون الإسلام من الأجناس التي لا تعرف العربية ولا يسهل عليهم قراءتها.

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فالأصل في الفتوى: هو عدم جواز كتابة النص القرآني بغير الحرف العربي، حيث لا يقوم مقام الحرف العربي حرف آخر في التعبير عن القرآن الكريم، وإذا ترخصنا في كتابة الفاتحة أو بعض الآيات القصار، فيجب أن يكون في حدود الضرورة القصوى، وما أُبيح للضرورة، يقدر بقدرها، كما هو مقرر في القواعد الشرعية.

يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي:

فقد أنزل الله تعالى القرآن عربيًا، كما نصت على ذلك آياته الكثيرة، مثل قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف:2)، {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} (الرعد:37).

{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) (الشعراء:192 - 195)، {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} (الزمر:28)، {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (فصلت:3)، {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الزخرف:3).

وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يكتب هذا القرآن الكريم منذ أنزل على رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالحرف العربي المعبر عن اللسان العربي، فهو قرآن وكتاب، ومن حيث هو قرآن: يتلى باللسان العربي، ومن حيث هو كتاب: يكتب بالحرف العربي المعبر عن الأصوات التي تميزت بها العربية.

وعلى هذا أجمعت الأمة منذ عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعهد خلفائه الراشدين المهديين الذين أمرنا أن نتمسك بسنتهم، ونعض عليها بالنواجذ. وقد تميز هذا القرآن عن الكتب السماوية التي سبقته بأن الله تعالى تولى حفظه بنفسه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:9).

ومن دلائل هذا الحفظ أن قيض الله تعالى له من استظهره وحفظه في صدره، وهو ما لم يعرف لأي كتاب مقدس آخر، وحفاظ القرآن كله يعدون بعشرات الألوف، ومنهم صبيان لا يتجاوزون السابعة من العمر، بل منهم أعاجم لا يحسنون فهم كلمة من العربية، ولكنهم يحفظون القرآن لا يخرمون منه حرفًا، وقد شاهدت ذلك لدى الباكستانيين والهنود والأتراك... وغيرهم.

ومن دلائل هذا الحفظ أن الأمة الإسلامية منذ عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان -أي بعد وفاة النبي الكريم- ببضعة عشر عامًا، تلقت بالقبول المصاحف التي كتبت في ذلك الوقت بإشراف لجنة علمية على رأسها زيد بن ثابت -رضي الله عنه- وأجمعت على أن تبقى هذه المصاحف كما رسمت، لا تغيِّر فيها ولا تبدِّل، رغم تطـور طرائق الرسـم والإملاء، إلا ما اقتضته الضرورة في أضيق الحدود التي لا تغير من صورة الكلمة المكتوبة، وفي هذه الحدود زادوا النقط والشكل.

وبقي المصحف برسمه العثماني إلى يومنا هذا، ولم يقبل أحد من المسلمين أن يغير رسمه إلى الرسم الإملائي المعتاد، وإن كان أيسر على الناس، مبالغة في الحفاظ على النص القرآني من أي تغيير قد يحدث في المستقبل خطأ أو عمدًا.

وإذا كان هذا هو موقف المسلمين الإجماعي من الرسم العثماني للنص القرآني وحرصهم عليه، ورفضهم لأي تغيير في صورته مع بقاء الحرف العربي كما هو، فكيف نجيز كتابة النص القرآني بحرف آخر غير الحرف العربي، مثل الحرف اللاتيني، مع أن هذا الحرف لا يوجد به ما يعبر عن كل الأصوات العربية التي لها أحرف خاصة في لغة العرب، مثل الصاد والضاد، والطاء والظاء، والعين والحاء، ونحوها.

وربما قيل: إن ذلك يمكن أن يعالج بوضع علامات خاصة كالتي وضعها المستشرقون لتمييز الصوت الذي لا يوجد له حرف خاص يعبر عنه في الحروف اللاتينية، ولكن هذا يفيد من يعرف اللغة العربية وأصوات الحروف فيها. أما غيره فلا يستفيد منها إلا بعد دراسة وتدريب.

ثم هناك أشياء مثل همزة الوصل ومتى ينطق بها ومتى لا ينطق، وكذلك التنوين في حالة الوصل، وحالة الوقف، واختلاف ذلك في حالة النصب عن حالتي الرفع والجر، وأيضًا التنوين في التاء المربوطة واختلافه عن التاء المفتوحة في حالة الوقف. وغير ذلك، مما يمكن أن يظهر بالممارسة، ولا يصلح معه إلا التلقي الشفهي.

على أنه قد يمكن في حالة الضرورة القصوى أن يرخص لبعض الناس الذين يصعب عليهم التلقي بالمشافهة، أن يكتب لهم سورة الفاتحة مثلاً، وبعض الآيات، أو السور القصار، من أجل القراءة في الصلاة، على أن توضع كل العلامات اللازمة والموضحة لسلامة النطق، وعلى أن يكون ذلك للعون على حفظ الكلمات منطوقة بالعربية، وأن يراجع نطقه على من يعرف العربية حتى يطمئن إلى سلامته.. وبعد الحفظ التام لا داعي لإبقاء النص بالحرف اللاتيني، فقد أدى مهمته، ولم يعد له حاجة.

ولعل مما يؤيد هذه الرخصة بهذه الشروط وفي هذه الحدود، ما اتفق عليه رأي المسلمين من جواز كتابة النص القرآني بالحرف العربي، بغير الرسم العثماني، بل بالرسم الإملائي المعتاد وذلك في غير المصحف، كما في الكتب التعليمية والمجلات الدينية وغيرها بقصد التسهيل والتيسير على جمهور الناس الذين لم يتمرسوا بقراءة الرسم العثماني الموروث.

أما ما عدا ذلك، فيجب أن يبقى النص القرآني مكتوبًا بالحرف العربي، وفي هذا فوائد كثيرة أهمها: أن يحرص المسلم على تعلم العربية، باعتبارها لغة القرآن والحديث، ولغة العبادة ولغة الثقافة الإسلامية، وقد ذهب بعض الأئمة كالشافعي -رضي الله عنه- إلى وجوب تعلم العربية لمثل هذا الاعتبار، وأيد ذلك شيخ الإسلام ابن تيميـة في كتابه: "اقتضاء الصراط المستقيم".

وبهذا يستقي المسلم معرفته بدينه مباشرة من منابعها الصافية دون كثرة الوسائط. كما أن اللغة العربية تربطه بالمصحف الشريف من ناحية، وبإخوانه المسلمين الناطقين بالعربية من ناحية أخرى.

وقد كان الإسلام والعربية يسيران جنبًا إلى جنب في عهد الصحابة ومن تبعهم بإحسـان من خير القرون، ولو مضى الأمر على هذا المنهـاج ما كان عندنا عالمَان: أحدهـما عربي والآخر إسلامي، بل كان هنـاك عالَم واحد: عـربي إسلامي أو إسلامي عربي لا غير.

ومن هنا ينبغي أن يفهم أن الأصل في الفتوى: هو عدم جواز كتابة النص القرآني بغير الحرف العربي. وإذا ترخصنا في كتابة الفاتحة أو بعض الآيات القصار، فيجب أن يكون في حدود الضرورة القصوى، وما أُبيح للضرورة، يقدر بقدرها، كما هو مقرر في القواعد الشرعية.

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

والله أعلم

- المصدر: إسلام أون لاين