د. يوسف القرضاوي

لم يُعرف في تاريخ المسلمين خلال أربعة عشر قرنًا: أن امرأة خطبت الجمعة وأمَّت الرجال، حتى في بعض العصور التي حكمتهم امرأة مثل "شجرة الدر" في مصر المملوكية، لم تكن تخطب الجمعة، أو تؤم الرجال. وهذا إجماع يقيني.

والأصل في الإمامة في الصلاة: أنَّها للرجال؛ لأن الإمام إنما جُعل ليُؤْتم به، فإذا ركع ركع المأمومون خلفه، وإذا سجد سجدوا، وإذا قرأ أنصتوا.

والصلاة في الإسلام لها مقوماتها وخصائصها، فليست مجرد ابتهال ودعاء كالصلاة في النصرانية، بل فيها: حركات وقيام وقعود، وركوع وسجود، وهذه الحركات لا يحسن أن تقوم بها امرأة بين يدي الرجال، في عبادة يتطلب فيها خشوع القلب، وسكينة النفس، وتركيز الفكر في مناجاة الرب.

وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يخلق جسم المرأة على نحو يخالف جسم الرجل، وجعل فيه من الخصائص ما يثير الرجل، ويحرك غريزته، حتى يتم الزواج الذي يحدث به النسل، ويستمر به النوع، وتتحقق إرادة الله في عمارة الأرض.

فتجنبًا لأي فتنة، وسدًّا للذريعة: جعل الشرع الإمامة والأذان والإقامة للرجال. وجعل صفوف النساء خلف صفوف الرجال، وجعل خير صفوف الرجال أولها، وجعل خير صفوف النساء آخرها -إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "خير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها، وخير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها"- بُعدًا عن أي فتنة تثار أو تحتمل.

وحتى يركِّز الرجل في صلاته فكره ووجدانه في توثيق صلته بربه، ولا يشطح به الخيال خارج الدائرة الإيمانية، إذا تحركت غريزته البشرية التي لا دافع لها.

وهذه الأحكام شرعية ثابتة بأحاديث صحيحة، ومستقرة بإجماع المسلمين، المتصل بعملهم خلال القرون الماضية، في جميع المدارس والمذاهب، وليس مجرد عادات وتقاليد كما قيل.

والإسلام دين واقعي، لا يُحلِّق في أجواء مثالية مجنحة، بعيدًا عن الواقع الذي يحياه الناس ويعانونه، وهو لا يعامل الناس على أنهم ملائكة أولو أجنحة، بل على أنهم بشر لهم غرائز تحركهم، ودوافع تثيرهم، ومن الحكمة أن يحرص الشارع الحكيم على حمايتهم من الافتتان، والإثارة، بمنع أسبابها وبواعثها ما أمكن ذلك. وخصوصًا في أوقات التعبُّد والمناجاة والوقوف بين يدي الله.

وقد اتفقت المذاهب الإسلامية الأربعة؛ بل الثمانية على أنَّ المرأة لا تؤم الرجل في الفرائض. وإن أجاز بعضهم أن تصلي المرأة القارئة للقرآن بأهل دارها، باعتبارهم محارم لها.

ولم يقل فقيه مسلم واحد من المذاهب المتبوعة أو خارجها بجواز أن تخطب المرأة الجمعة أو تؤم المسلمين.

وإذا نظرنا في النصوص: لم نجد نصًّا صحيحًا مباشرًا ينهى أن تقوم المرأة بخطبة الجمعة، أو بإمامة المصلين.

كل ما ورد هنا: حديث رواه ابن ماجه بسنده عن جابر بن عبد الله مرفوعًا، يقول: "لا تؤمّن امرأة رجلاً، ولا يؤم أعرابي مهاجرًا، ولا يؤم فاجر مؤمنًا". ولكن أئمة الحديث قالوا عن إسناد هذا الحديث: إنه ضعيف جدًّا. فلا يحتج بمثله في هذه القضية.

وقد روي ما ينافي هذا الحديث، وهو ما رواه أحمد وأبو داود وغيرهما: عن أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لها مؤذنًا يؤذن لها، وأمرها أن تَؤم أهل دارها. وقد كان منهم الرجال والنساء.

وهذا الحديث ضعَّف العلماء إسناده، ومع هذا، فهو خاص بامرأة قارئة للقرآن تؤم أهل دارها، من زوج وأبناء وبنات، وهم محارم لها، ولا تخشى فتنة منها عليهم. وقد روى الدارقطني: أنه أمرها أن تؤم نساء أهل دارها.

قال ابن قدامة في "المغني": وهذه زيادة يجب قبولها، ولو لم يذكر ذلك لتعين حمل الخبر (أي الحديث) عليه؛ لأنه أذن لها أن تؤم في الفرائض؛ بدليل أنه جعل لها مؤذنًا، والأذان إنما يشرع في الفرائض. ولا خلاف في أنها لا تؤمهم (أي الرجال) في الفرائض.

ثم قال: ولو قدر ثبوت ذلك لأم ورقة لكان خاصًّا لها، بدليل أنه لا يشرع لغيرها من النساء أذان ولا إقامة، فتختص بالإمامة، لاختصاصها بالأذان والإقامة. وقد أيَّد ابن قدامة قوله بأنها لا تؤذن للرجال، فلم يجز أن تؤمهم.

ولا أوافق الإمام ابن قدامة في جعل هذا الإذن النبوي خاصًّا بأم ورقة، فمن كان في مثل حالها، من النساء، بأن تكون قارئة مجيدة للقرآن، ولها من الأبناء والمحارم من يصلي خلفها: جاز لها أن تؤمهم في الفرائض والنوافل. ولا سيما صلاة التراويح.

وعند الحنابلة قول معتبر منصوص عليه بجواز إمامتها للرجال في صلاة التراويح، وهو الأشهر عند المتقدمين، قال الزركشي: منصوص أحمد واختيار عامة الأصحاب: يجوز أن تؤمهم في صلاة التراويح. انتهى. وهو الذي ذكره ابن هبيرة عن أحمد [الإفصاح عن معاني الصحاح (1/145)].

وهذا محمول على المرأة القارئة التي تصلي بأهل دارها وأقاربها. وقد قيَّدها بعضهم بالمرأة العجوز. قال في الإنصاف: حيث قلنا: تصح إمامتها بهم، فإنها تقف خلفهم؛ لأنه أستر. ويقتدون بها. هذا الصحيح. وهذا على خلاف الأصل في الإمامة: أن يكون الإمام أمام المأمومين، طلبًا للستر، ومنعًا للفتنة بقدر الإمكان.

إمامة المرأة للنساء:

أما إمامة المرأة بالنساء وحدهن، ففيها أكثر من حديث. من ذلك:

حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، فقد روى عبد الرزاق (5086)، والدارقطني (1/404)، والبيهقي (3/131) من حديث أبي حازم ميسرة بن حبيب، عن رائطة الحنفية، عن عائشة أنهما أمتهن، فكانت بينهن في صلاة مكتوبة. وروى ابن أبي شيبة (2/89)، من طريق ابن أبي ليلى، والحاكم (1/203 ـ 204) من طريق ليث بن أبي سليم كلاهما عن عطاء، عن عائشة: أنها كانت تؤم النساء، فتقوم معهن في الصف. لفظ ابن أبي شيبة. ولفظ الحاكم عن عائشة: أنها كانت تؤذن وتقيم، وتؤم النساء، وتقوم وسطهن.

وروى الشافعي (315)، وابن أبي شيبة (2/88) وعبد الرزاق (5082) من طريقين، عن عمار الدهني، عن امرأة من قومه يقال لها حجيرة، عن أم سلمة: أنها أمتهن، فقامت وسطًا. ولفظ عبد الرزاق: أمتنا أم سلمة في صلاة العصر، فقامت بيننا.

وقال الحافظ ابن حجر في الدراية (1/169): وأخرج محمد بن الحصين من رواية إبراهيم النخعي عن عائشة: أنها كانت تؤم النساء في شهر رمضان، فتقوم وسطًا. وروى عبد الرزاق (5083) عن إبراهيم بن محمد، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: تؤم المرأة النساء تقوم في وسطهن.

فليت أخواتنا المتحمسات لحقوق المرأة: يحيين السنة التي ماتت -من صلاة المرأة بالنساء- بدل إحداث هذه البدعة المنكرة: صلاة المرأة بالرجال.

قال في (المغني): اختلفت الرواية: هل يستحب أن تصلي المرأة بالنساء جماعة؟ فروي أن ذلك مستحب، وممن روي عنه أن المرأة تؤم النساء: عائشة وأم سلمة وعطاء والثوري والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو ثور، وروي عن أحمد رحمه الله: أنه مستحب. وكرهه أصحاب الرأي. وإن فعلت أجزأهن، وقال الشعبي والنخعي وقتادة: لهن ذلك في التطوع دون المكتوبة.

ومن المهم هنا أن نقرر: أن الأصل في "العبادات" في الإسلام هو الحظر والمنع، إلا ما أذن به الشرع بنصوص صحيحة صريحة، حتى لا يشرع الناس في الدين ما لم يأذن به الله.

فليس للناس أن ينشئوا عبادة أو يزيدوا فيها، أو يدخلوا عليها صورًا وكيفيات من عند أنفسهم، وبمجرد استحسان عقولهم. ومن أدخل في الدين أو زاد عليه ما ليس منه فهو مردود عليه.

وهذا ما حذّر منه القرآن الكريم حين ذم المشركين فقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى:21).