السؤال: فضيلة الشيخ، ما حكم صيام الدهر، وإفراد رجب والجمعة والسبت بالصيام؟

جواب سماحة الشيخ:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اتبعه إلى يوم الدين، وبعد:

صوم الدهر

يكره للإنسان العادي أن يصوم الدهر، فلا يفطر، والمراد بصيام الدهر: سرد الصوم متتابعًا في جميع الأيام؛ إلا الأيام التي لا يصح صومها، وهي العيدان وأيام التشريق. روى عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا صام من صام الأبد" (متفق عليه)، وعن أبي قتادة أن عمر قال: يا رسول الله كيف بمن يصوم الدهر كله؟ قال: "لا صام ولا أفطر" (رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة، المنتقى مع نيل الأوطار-343/4).

وعن عبد الله بن عمرو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله، ألم أُخبر أنك تصوم النهار، وتقوم الليل؟"، فقلت: بلى يا رسول الله، قال: "فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقًا، وإن لعينك عليك حقًا، وإن لزوجك عليك حقًا، وإن لزورك عليك حقًا، وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإذن ذلك صيام الدهر كله"، فشددت فشدد عليّ، قلت: يا رسول الله، إني أجد قوة، قال: "فصم صيام نبي الله داود عليه السلام ولا تزد عليه"، قلت: وما كان صيام نبي الله داود عليه السلام؟ قال: "نصف الدهر"، وكان عبد الله يقول بعد ما كَبِر: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم (رواه البخاري ومسلم). وفي بعض روايات الحديث وقد سبقت صوم يوم وفطر يوم: أنه قال له عن صوم داود: "وهو أفضل الصيام"، وحين قال عبد الله: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: "لا أفضل من ذلك".

وعن أنس في حديث الثلاثة الذين سألوا عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فكأنهم تقالُّوها (أي اعتبروها قليلة) وقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.. الحديث، وفيه: أن أحدهم قال: وأنا أصوم الدهر فلا أفطر.. كان من إنكار النبي صلى الله عليه وسلم، عليهم أن قال: "أنا أخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر.. فمن رغب عن سنتي فليس مني" (رواه البخاري).

وعن سلمان وأبي الدرداء: أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينهما فجاء سلمان يزور أبا الدرداء فوجد أم الدرداء (وهي زوجة أبي الدرداء) مُتَبَذِّلة! فقال: ما شأنك؟! فقالت: إن أخاك أبا الدرداء ليس له حاجة في شيء من الدنيا.. الحديث، وفيه: أن سلمان قال لأبي الدرداء: إن لربك عليك حقًا ولأهلك عليك حقًا، ولجسدك عليك حقًا، فصم وأفطر، وقم ونم، وآت أهلك وأعط كل ذي حق حقه. فذكر أبو الدرداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "صدق سلمان" (رواه البخاري).

وكل هذه الأحاديث دالَّة بوضوح على كراهية صوم الدهر، بل ذهب ابن حزم إلى أنه يحرم، ووجه الدلالة من الأحاديث: أنه دعا على من صام الأبد بقوله: "لا صام" وفي هذا تغليظ، وأخبر أنه لم يصم، ولم يفطر، ومعناه: أنه لم يُحصِّل أجر الصوم لمخالفته ولم يفطر؛ لأنه أمسك.

وأنه أمر عبد الله بن عمرو أن يصوم ويفطر، وأخبره بأن صوم يوم وفطر يوم أفضل الصيام، وأحبه إلى الله، ومعناه: أن غير ذلك مفضول. وقال له: "لا أفضل من ذلك"، وقال: "لا تزد عليه"، وأخبر عن هديه وسنته بأنه يصوم ويفطر، ومن رَغِبَ عن سنته فليس منه، وأقر سلمان على ما نصح به لأبي الدرداء: أن يصوم ويفطر؛ حتى لا يفرط في الحقوق الأخرى.

والحق أن هذا يتفق مع منهج الإسلام في ضرورة الاعتدال بين حق الرب تعالى وحظ النفس، وإقامة التوازن بين الحقوق بعضها وبعض، كما يتفق مع منهجه العام في الرفق بالمُكلَّفين، والتيسير عليهم، وتشريع الرخص لهم، والتزام صوم الدهر ينافي ذلك، فقد تأتي على الصائم أيام شديدة الحر، أو تطرأ عليه أعباء فتقضي أن يكون قويًا على القيام بها.. إلى غير ذلك، وفي الحديث: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه".

ومع وضوح هذه الدلائل صحَّ عن عدد من الصحابة والتابعين ورجال السلف أنهم كانوا يصومون الدهر، منهم: أم المؤمنين عائشة، فقد روى عروة ابن أختها: أنها كانت تصوم الدهر في السفر والحضر، ومنهم: أبو طلحة الأنصاري، وعبد الله بن عمر، وأبو أمامة وامرأته، وعدد من التابعين، حتى إن منهم من سرد الصوم أربعين سنة (انظر: المجموع للنووي-390/6).

ومن أجل هذا ذهب الجمهور إلى جواز صوم الدهر، بل إلى استحبابه، وحملوا النهي الوارد على من صام الدهر حقيقة بأن صام العيدين وأيام التشريق، وقد روي عن عائشة وتابعها عليه خلائق من العلماء (المجموع للنووي-390/6)، نقل ابن قدامة عن أحمد قال: "إذا أفطر يومي العيدين، وأيام التشريق رجوت ألا يكون بذلك بأس"، قال: "وروي نحو هذا عن مالك، وهو قول الشافعي".

قال ابن قدامة: "والذي يقوى عندي أن صوم الدهر مكروه، وإن لم يصم هذه الأيام، فإن صامها فقد فعل محرمًا، وإنما كره صوم الدهر؛ لما فيه من المشقة والضعف، وشبه التبتل المنهي عنه"، وذكر حديث عبد الله بن عمرو (المغني مع الشرح الكبير-99/3).

وبعضهم حمل النهي على ما إذا خاف بمتابعة الصوم ضررًا، أو فوَّت به حقًا، فإن خاف ضررًا أو فوَّت حقًا كُرِهَ (المجموع (388/6،389)، والمفروض في هذه الحالة أن يحرم؛ لأن الإضرار بالنفس لا يجوز، وكذلك تضييع حقوق الآخرين لا يجوز، وهذا ما قالوه في صوم المرأة تطوعًا بغير إذن زوجها؛ لما فيه من تفويت حقه (انظر: المجموع أيضًا-392/6).

والحق هنا: أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد صح عنه بلا ريب أنه كان يصوم ويفطر، ولم يداوم على صيام شهر كامل غير رمضان، وحسبنا قوله في هذا المقام: "من رغب عن سنتي فليس مني"، وأما من اجتهد من خيار السلف فصام الدهر، فهو اجتهاد منهم، نرجو ألا يُحرموا من أجره إن شاء الله.

إفراد شهر رجب بالصوم

صوم الأشهر الحرم مستحب في الجملة ورجب منها، ولكن رأى الإمام أحمد كراهية إفراد رجب بالصيام؛ ما لم يفطر فيه بعض الأيام، وروي عن عمر: أنه كان يضرب أكف المترجبين، حتى يضعوها في الطعام ويقول: كلوا، فإنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية.

وعن ابن عمر: أنه كان إذا رأى الناس وما يعدون لرجب كرهه، وقال: صوموا منه وأفطروا، وعن ابن عباس نحوه. وعن أبي بكرة: أنه دخل على أهله، وعندهم سلال جدد وكيزان، فقال: ما هذا؟ فقالوا: رجب نصومه، قال: أجعلتم رجب رمضان؟! فأكفأ السلال وكسر الكيزان. قال أحمد: من كان يصوم السنة صامه، وإلا فلا يصومه متواليًا، يفطر فيه ولا يشبهه رمضان (المغني مع الشرح الكبير-99/3).

إفراد يوم الجمعة

ويكره إفراد يوم الجمعة بالصيام؛ إلا أن يوافق ذلك صومًا كان يصومه مثل من يصوم يومًا، ويفطر يومًا، فيوافق صومه يوم الجمعة، ومن عادته صوم أول يوم من الشهر، أو آخره، أو يوم نصفه، ونحو ذلك، فيوافق الجمعة.

وفي الحديث: "لا يصومن أحدكم يوم الجمعة؛ إلا أن يصوم يومًا قبله، أو يومًا بعده" (متفق عليه)، وقال محمد بن عباد: سألت جابرًا: أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم (متفق عليه).

وعن جويرية بنت الحارث أم المؤمنين، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة، وهي صائمة، فقال: "أصمت أمس؟"، قالت: لا، قال: "أتريدين أن تصومي غدًا؟"، قالت: لا، قال: "فأفطري" (رواه البخاري).

وهذا يدل على أن المكروه إفراده بالصوم؛ لأن نهيه معلل بأنها لم تصم أمس، ولا تصوم غدًا. يؤكد هذا حديث أبي هريرة: "لا تخصّوا يوم الجمعة بصيام من بين سائر الأيام؛ إلا أن يكون في صوم يوم يصومه أحدكم" (رواه الترمذي وحسنه)؛ وحكمة ذلك: أن يوم الجمعة هو العيد الأسبوعي للمسلمين، فَكُرِهَ الصوم فيه؛ تشبيهًا بالعيد الحقيقي، وأيضًا: فيه سد لذريعة اعتقاد وجوب صيامه إذا خُصَّ به دُووِمَ عليه.

إفراد يوم السبت

وكُرِهَ كذلك إفراد يوم السبت بالصوم، كما روى عبد الله بن بسر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تصوموا يوم السبت؛ إلا فيما افْتُرِضَ عليكم" (رواه مسلم)، وروى ابن بسر أيضًا عن أخته الصماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصوموا يوم السبت؛ إلا فيما افْتُرِضَ عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا لِحاء عنبة، أو عود شجرة؛ فليمضغه" (رواه أبو داود).

والمكروه إنما هو إفراده، فإن صام قبله أو بعده لم يُكره؛ لما تقدم من حديث جويرية، وإنما كره صوم يوم السبت؛ لأنه عيد اليهود الأسبوعي، وهو يوم يُعَظَّمُ عندهم، فقد يوهم الصيام فيه نوع موافقة لهم في تعظيمه.