السؤال: أيهما أفضل حج التطوع، أم إنفاق هذا المال في وجوه الخير والبر التي تشتد حاجة بعض المسلمين إليها؟

جواب فضيلة الشيخ:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد،

لقد تعرضت لهذا الموضوع كثيرا وكتبت فيه وقلت: إذا كان المسلمون في حاجة إلى المال، فإنفاق المال في هذه الوجوه التي يحتاج إليها المسلمون وقد تكون وجوها ضرورية مثل إسعاف ناس يموتون من الجوع، وبعض البلاد تتعرض للهلاك جوعا، وبعض المسلمين يحتاجون إلى مدرسة فلا يجدون مدرسة، بعضهم قال: نحتاج إلى كراسة أو إلى قلم رصاص فلا نجده، وبجوارنا المدارس التبشيرية تقول لنا: تعالوا وهاتوا أولادكم نعلمهم مجانا، ونحن نريد أن نحمي عقائد أبنائنا، أيهما أولى أن تعطي هؤلاء أم تحج حج التطوع؟

بعض الناس يتعرضون لكوارث، بعض المسلمين الذين يتعرضون للإبادة في كوسوفو أو في الشيشان أو في كشمير وغيرها، في بعض البلاد يتعرضون لحملات فظيعة، فهل حماية هؤلاء أولى أم حج التطوع؟ لا بد أن نتعلم فقه الموازنات وفقه الأولويات.

الموازنة بين الأعمال بعضها ببعض: هذا فقه مطلوب ولا بد منه، وقد تحدثت عن هذا الفقه وضرورته وأهميته للأمة الإسلامية، للدعوة الإسلامية، في كتابي "أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة" فنوازن بين المصالح بعضها وبعض، وبين المفاسد بعضها وبعض، وبين المصالح والمفاسد بعضها وبعض، كما نوازن بين المصالح بعضها وبعض: الضروريات والحاجيات والتحسينات، أو الكماليات.

ويتبع "فقه الموازنات" فقه آخر، هو ما أسميناه "فقه الأولويات" وهو الذي يكشف لنا عما يستحق التقديم، وما يستحق التأخير، من الأعمال والتكاليف، فليست كل الأعمال في مرتبة واحدة بل لكل عمل سعره ومنزلته عند الله، والواجب أن يوضع كل عمل في مرتبته.

ويطيب لي أن أذكر ما حكاه الإمام الغزالي في "إحيائه" عن الإمام بشر بن الحارث الحافي وهو أحد الصالحين والورعين القدماء، جاءه شخص وقال له عندي 2000 درهم وأريد أن أحج بها، قال له: هل حججت حجة الإسلام، قال: نعم، قال: ألا أدلك على ما هو خير من ذلك، تحوز به الأجر وأنت في بلدك؟ قال: ما هو؟ قال: تذهب وتعطي ليتيم كذا، ولأرملة كذا، ولفقير كذا، ولابن السبيل كذا، وقد وزعت الـ 2000 درهم، فوفيت بها حقوقا، وقضيت بها حاجات، وفرجت بها كربات. ثم قال له: هذا أفضل لك من حج النافلة، قال: ولكن قلبي يرفرف على بيت الله، قال له: المال عندما يكون فيه شبهات يأبى صاحبه إلا أن ينفقه في هوى نفسه، وهذا هوى نفسك. أو كما قال.

وأنا أذكر جماعة من مصر أعرفهم يحجون جماعة مع الأهل والأصحاب حوالي 100 شخص، يقومون بأداء مناسك الحج لأكثر من 40 سنة، كل سنة يحجون، فجئت لهم يوما وقلت لهم: يا فلان، ما رأيكم في هذه السنة ألا تحجوا، وهاتوا المبالغ هذه، فهم قرابة 100 شخص وكل شخص يدفع 10آلاف جنيه أي أصبح المجموع مليون جنيه، فبها نعمل مشروعا في بعض هذه البلاد الإسلامية المحتاجة تنعشه، قالوا: نحن نشعر بالمتعة في الحج، فقلت: لماذا ألا تشعرون بالمتعة عندما تسعفون إنسانا، أو تطعمون جائعا، أو تكسون عاريا، أو تداوون مريضا، أو تؤوون مشردا؟‍ المفروض أن المسلم الحق يسعد ويستمتع بهذا أكثر من الاستمتاع بالذهاب إلى رحلة البيت الحرام، لا بد أن هذا خلل في فقه المسلمين للاسف.