د. القرضاوي وسمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم

القرضاوي: اختياري شخصية العام الإسلامية أفضل رد على كبير حاخامات اليهود
أكد فضيلة العلامة د.يوسف القرضاوي أن فوزه بجائزة شخصية العام الإسلامية جاءت رداً مناسباً على كبير حاخامات اليهود الذي طلب من الولايات المتحدة أن تضغط على دول الخليج لتمنعه من الظهور على شاشات الفضائيات التابعة لها. 

وقال إن أفضل رد جاء من دولة الإمارات ومن جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم التي كرمته بأفضل الجوائز .. وذكر أن الإمارات بلده وأهلها أهله وإخوانه واعتبر دول الخليج وطنه الثاني.

جاء ذلك في كلمة مرتجلة ألقاها في حفل تكريمه الذي أقامته إمارة دبي بحضور ولي عهدها الفريق أول سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم مساء أمس الأول بمناسبة فوزه بجائزة شخصية العام الإسلامية. وكان فضيلته أعد كلمة مكتوبة ليلقيها في يوم تكريمه تم توزيعها على بعض وسائل الإعلام لكن ظروف الحفل اضطرته لارتجال كلمة أخرى بعد أن طلب منه (خادم القرآن الكريم) سمو الشيخ محمد بن راشد أن يتحدث في الحفل لأن الحضور يريدون سماعه.

إلى أعلى

أطالب بتكريم كل من يخدمون القرآن وعلومه بمؤلفات قيمة أسوة بالحفظة.
وفي كلمته المؤثرة المرتجلة شكر د.القرضاوي الذين أحسنوا الظن به ورشحوه لجائزة دبي الدولية للقرآن .. كما شكر راعيها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ووصفه بالمقاتل الشجاع والمخطط العاقل والسياسي المحنك والمسلم الملتزم ووصف الذين يهاجمونه بالذين يشوشون على مسيرته وقال: إن رضا الناس غاية لا تدرك والفئة القليلة التي حاولت أن تقذفني بالحجارة من يمين ويسار في الفترة الأخيرة لا يسعني إلا أن أدعو الله لهم أن يهدينا ويهديهم، وأكد أنه ليس في حياته ولا في قلبه متسع للضغائن والأحقاد على المسلمين لأنه لا يشغل نفسه بمعاداة مسلم وإن خالفه في الاتجاه أو الرأي لأنه مشغول القلب والفكر والجهد والوقت بأعداء الدين وأعداء الأمة وما أكثرهم.

واقترح فضيلته ألا تقتصر الجوائز على تكريم حفظة القرآن وحدهم بل يجب أن تتسع لكل من يخدم القرآن وعلومه بمؤلفات قيمة تضيف للعلم جديداً.

إلى أعلى

حياتي لم تكن مفروشة بالورود .. عانيت الفقر وقاسيت من بطش السلطات حتى وصلت لما أنا فيه.
واستعرض د. القرضاوي بعضاً من مسيرة حياته خلال ثلاثة أرباع قرن فقال إن المسيرة كانت في عقودها الأولى صعبة ولكن الله ذللها وكانت عسيرة ضنكة ولكن الله وسعها، وذكر أنه عانى كثيراً في طفولته ولكنه وجد في معاناته لذة وفي مرارة الابتلاء حلاوة. وعرض للمعاناة التي لقبلها في عمله في مجال الدعوة وما حدث له من صدام مع أصحاب السلطان وما ترتب على ذلك من إيذاء بالسجن والاعتقال. وبتواضع العلماء تحدث د. القرضاوي عن مسيرة حياته فقال: إني لأشعر والله بالعجز كل العجز عن الوفاء ببعض حق ربي علي ولو أني سجدت على الجمر فهو وحده صاحب المنة.

من كان يظن لولا فضل الله تعالى وتوفيقه أن هذا الصبي الذي نشأ في قرية ريفية من قرى مصر وفي ظل أسرة مستورة رقيقة الحال وقد مات أبوه وهو في الثانية من عمره، فاجتمعت عليه أسباب الضعف: ضعف القروية، وضعف الفقر، وضعف اليتم، من كان يظن أن هذا الصبي القروي الفقير اليتيم سيصبح في يوم ما الشخصية الإسلامية العالمية ويحتفي به الأمراء والكبراء الوزراء ووجوه الناس.

من كان يظن ذلك لولا فضل الله عز وجل الذي يهبه لمن يشاء من عباده كما قال تعالى (قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم، يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم)، آل عمران 73، 74.

ولقد حدثتكم أيها الأخوة منذ ثلاث سنوات في مناسبة تكريم شيخنا الشيخ محمد متولي الشعراوي عن أول جائزة حصلت عليها في حياتي وهي جائزة أحفظ صبي للقرآن في مديرية الغربية وكان مقدارها جنيهاً مصرياً وربعاً (125قرشاً)، وقد أخذ محفظي للقرآن ربع الجنيه وأخذت أنا الجنيه!. وكان ثروة كبيرة لي في ذلك الوقت. أما أول احتفال تكريمي أقيم لي فقد كان في كتاب الشيخ حامد حين ختمت القرآن الكريم وأنا دون العاشرة وكان الحضور هم تلاميذ الكتاب وبعض الأقارب وبعض مشايخ القرية وقرائها، وقد كتبت اللوح الأخير من سورة الضحى إلى سورة الناس، وتلوته على الحضور سورة سورة، وبعد ختام كل سورة، أقول: لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد، يرددها معي تلاميذ الكتاب والحضور جميعاً بصوت ملحن مؤثر، وبعد ذلك وزعت أكواب الشربات، والحلوى، وأطلقت النساء الزغاريد، وأصبحت بعد ذلك في نظر أهل القرية "الشيخ يوسف".

إلى أعلى

وفاء عالم
ووفاء لمن أسدوا إليه معروفاً تحدث د. القرضاوي عن الذين ساعدوه في رحلة حياته الطويلة فقال: أذكر أول ما أذكر والدتي رحمها الله التي كانت أول من دفعني وصحبني إلى الكتاب وأنا في الخامسة من عمري.

أذكر عمي أحمد، الذي كفلني بعد موت أبي وأنا رضيع في الثانية من عمري، فكان لي خيراً من كثير من الآباء لأبنائهم، وكان يعاملني كما يعامل أولاده، بل أفضل، وكنت أناديه دائماً: يا أبي.

أذكر أبناء عمي الذين كانوا لي أفضل من كثير من الأخوة لإخوانهم، وكانوا لا يدخرون وسعاً لمساعدتي حتى أكمل مشواري في الأزهر.

أذكر خالي عبدالحميد الذي كان يعتز بي، ويملأ نفسي بالأمل والطموح. أذكر جدتي وخالاتي اللاتي كن أمهات لي بعد أمي التي لقيت ربها وأنا في الخامسة عشرة من عمري. أذكر أقاربي جميعاً الذين أعطوني من حبهم ما نسيت به يتمي المبكر.

أذكر الشيخ حامد أبوزويل معلمي في الكتاب، ومحفظي للقرآن، الذي كان يعاملني معاملة خاصة، ويسامحني إذا عجزت عن دفع نصف القرش الأسبوعي.

أذكر أبناء قريتي صفط تراب، الذين أحبوني وشيخوني منذ صباي، وقدموني لأصلي بهم إماماً في مسجد المتولي. أذكر مشايخي في الأزهر الذين تعلمت على أيديهم علوم الدين واللغة، والذين لم يضيقوا ذرعاً بالفتى الذي يكثر النقاش، ولا يمل السؤال.

أذكر مشايخي في جماعة الإخوان المسلمين، الذين وسعوا آفاقي، وعمقوا أهدافي، ونقلوني من تدين القرية الفردي، إلى دعوة الإسلام العالمية، فحددت غايتي، وعرفت طريقي وعرفت أمتي الكبرى، واهتممت بقضاياها وعشت همومها.

أذكر إخواني وأبنائي في قطر، التي قضيت في رحابها أكثر سني عمري، وأخصب أيامها وأنضجها، وأصبحت لي وطناً ثانياً، وغدا أهلها أهلي.

أذكر أخوتي من أبناء الخليج العربي، الذين فتحوا لي صدورهم وعقولهم، وهاهم اليوم يكرمونني، وأنا واحد منهم.

أذكر أسرتي الصغيرة: زوجتي وأبنائي وبناتي، الذين طالما جرت على حقوقهم الخاصة، لاشتغالي بهموم الأمة العامة، وأسألهم أن يسامحوني فيما قصرت في شأنهم.

أذكر إخواني وأخواتي، وأبنائي وبناتي، من المسلمين والمسلمات، في العالم الإسلامي وخارجه، من قراء مقالاتي وكتبي، ومستمعي محاضراتي وخطبي، ومشاهدي برامجي الفضائية، الذين غمروني بعواطفهم، وطوقوا عنقي بهذه الكلمة النفيسة، التي اعتبرها نعمة كبرى لا أقدر على شكرها، وهي كلمة (نحبك في الله).

أشكر لهؤلاء جميعاً مترحماً على الأموات، وداعياً للأحياء، وطالباً منهم أن يسامحوني ويغفروا لي إذا كنت قصرت في حقهم، فكم من أناس أرسلوا إلي رسائل، لم أجد والله وقتاً ولا جهداً للإجابة عليها، فأناشدهم الله أن يعذروني ويسامحوني، فيعلم الله أني ما فعلت ذلك عن كبر أو استعلاء ولا احتقار لهم، فقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم".

وكم من أخوة أحبة في أقطار شتى دعوني لزيارتهم. فلم أتمكن من الاستجابة لهم، لا استهانة بهم، ولا ضناً عليهم، ولكن مشكلة أمثالي: تزاحم الواجبات، وأنها أكثر من الأوقات. والعجيب أيها الأخوة: أن الأعباء تتزايد وتتضاعف، في حين أن القوة تضعف، وفق سنة الله تعالى في الخلق، كما قال سبحانه (ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة) الروم 54، وكما قال سيدنا زكريا (رب إني وهن العظم مني) مريم 4، ولا حول ولا قوة للمرء إلا باستمداد العون من الله وحده.

ولا غرو أن اتخذت شعاري تلك الحكمة القائلة: لا تسأل الله أن يخفف حملك ولكن سله أن يقوي ظهرك. فاللهم قو ظهورنا على تحمل الأثقال، فأنت حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بك يا علي يا عظيم.

إلى أعلى

عفو الكرماء
والتزاماً بخلق الإسلام وعفوا عمن يسيئون إليه ويهاجمونه قال فضيلته: أما الفئة القليلة التي حاولت في المدة الأخيرة أن تقذفني بالحجارة من يمين وشمال، وأن تشوش على مسيرتي، فلا يسعني إلا أن أدعو الله لهم أن يهدينا وإياهم، ويصلح بالنا وبالهم، وقد قالوا قديماً: رضا الناس غاية لا تدرك، وقال الشاعر:

ومن في الناس يرضي كل نفس وبين هوى النفوس مدى بعيد؟

وفي الآثار الإسرائيلية: أن موسى سأل ربه فقال: يا رب، كف عني ألسنة الناس، فقال: ياموسى، ذاك شيء لم أختصه لنفسي، فكيف أجعله لك؟

وفي الحديث القدسي

: "كذبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي، فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي، فقوله: لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا" رواه البخاري عن ابن عباس.

وقد الإمام أحمد وأدخل السجن، وأصابه ما أصابه في فتنة (خلق القرآن) المعروفة، فلما انكشفت المحنة، وسألوه عمن آذوه، فسامح فيما كان من حقه هو، لا ما كان من حق الله عز وجل. وقال كلمته المعبرة: ماذا ينفعك أن يدخل أخوك النار؟ فهو يريد أن يسامحهم حتى لا يدخلوا النار بسببه.

وقال الإمام الشافعي:

عداتي لهم على فضل ومنــة فلا باعد الرحمن عني الأعاديـا
فهم بحثوا عن زلاتي فاجتنبتها وهم نافسوني، فارتكبت المعاليا

وقد نشأت في رحاب دعوة كان مؤسسها حسن البنا عليه رحمة الله يدعو إلى الحب، ويقول: سنقاتل الناس بالحب.

وأريد أن أؤكد هنا أنه ليس في حياتي ولا في قلبي متسع للضغائن والأحقاد على المسلمين، ولا أشغل نفسي بمعاداة مسلم، وإن خالفني في الاتجاه أو في الرأي، فأنا مشغول القلب والفكر والجهد والوقت بأعداء الدين، وأعداء الأمة، وما أكثرهم.

أما قومي، فهم مني وأنا منهم، وما أنا معهم إلا كما قال الشاعر:

قومي هم قتلوا أميم أخي فإذا رميت يصيبني سهمي
فلئن عفوت لأعفون جللا ولئن رميت لأوهنن عظمي

ولكني أعفو إن شاء الله وأصفح، كما أنزل الله في شأن أبي بكر حين آلى ألا يعطي بعض أقاربه الذين خاضوا في حديث الإفك، ومسوا بألسنة السوء ابنته عائشة أم المؤمنين، فأنزل الله تعالى قوله (ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله، وليعفوا وليصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) النور 22.
وأنا متصدق بعرضي على من آذاني من المسلمين، يغفر الله لي ولهم، وأدعو بدعاء التابعين الذين جاءوا من بعد المهاجرين والأنصار يقولون
(ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم). الحشر 10.

إلا ما كان من حق الله تعالى، وحق الإسلام، فليس من شأني أن أسامح فيه، فمن كان يعمل لحساب خصوم الإسلام، فإني أستعدي عليه سهام القدر، ودعاء السحر، وكل أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره.

إلى أعلى

عقبات في الطريق للقمة
وتحدث عن محطات في مسيرة حياته مخاطباً الحضور بقوله:
لا أريد أن أشغلكم بمسيرتي خلال ثلاثة أرباع قرن. ولكني أريد أن أعطي بعض الملامح لشبابنا الصاعد الذين يريد بعضهم الحياة وردا بلا شوك لعله يجد فيها أسوة تتبع أو عبرة تلتمس.
لقد كانت المسيرة في عقودها الأولى صعبة، ولكن الله ذللها، عسيرة ولكن الله يسرها، ضنكة ولكن الله وسعها، أذكر أننا ونحن طلاب في المعهد الديني بمدينة طنطا، كثيراً ما كانت تنفد منا النقود، قبل أوانها المحدود، فنعيش على الخبز والملح أياماً. وفي مرة من المرات نفد الخبز نفسه، ولم يبق من (الزوادة) إلا (الفرافيت). فظللنا نأكل منها أياماً، وكنا مجموعة نسكن متجاورين، كلنا عاش على هذه الفرافيت، وأذكر أنني بعد أن أعرت إلى قطر بعدة سنوات، أرسل إليّ أحد هؤلاء الأخوة، يريد أن يستعين بي ليتعاقد في الخليج، ويقول لي: أنسيت أيام الفرافيت؟

وكثيراً ما كنا نقطع الطريق من طنطا إلى قريتنا مشاة على أقدامنا، إذ لا نجد قرشين نركب بهما القطار أو الأوتوبيس، وكانت المسافة أكثر من عشرين كيلومتراً، وكنا نحمل سلة فيها ملابسنا، ولكن لم نكن نحس بأي تعب، وخصوصاً أننا عائدون إلى أهلنا.

لم تكن الطريق مفروشة بالأزهار والرياحين، بل كانت مفروشة بالأشواك، ولكن المهم أن معاناة هذه الأشواك لم تكن تجرح، وإن جرحت كان جرحها غير مؤلم، فقد كانت محببة إلى النفس، ولم أضق بها صدراً ، ووجدت في هذه المعاناة لذة، وفي مرارة الابتلاء حلاوة، وعرفت من قراءاتي الأدبية أن هذا هو الطريق إلى العلا، وكان مما نحفظه في عهد الصبا:

بقدر الجد تكتسب المعالـي ومن طلب العلا سهر الليالي
ومن طلب العلا من غير كد أضاع العمر في طلب المحال

ولقد يسر الله علينا كثيراَ مما كان عسيراً على من قبلنا، فقد كان أحدهم يسير الليال والأيام في طلب الحديث الواحد، ويرحل من بلد إلى بلد، ليطلب العلم من أهله وشيوخه، والآن وفرت لنا المطابع هذه المتاعب، وستجد الأجيال المقبلة العلم أيسر سبيلاً من جيلنا، بما توفره الآليات الحديثة: الكمبيوتر والإنترنت وغيرهما، فبلمسة من جهاز يجد ما ينشده أمامه مسطوراً.

ولا أخفي عليكم معاناة أخرى لم تكن في طلب العلم، وإن كانت في سبيل الدعوة إلى الإسلام، في زمن غربة الإسلام، الذي يشكو إلى الله أبناء عقوه، وأنصاراً خذلوه، حتى أصبح هذا الدين غريباً في كثير من أوطانه، وأصبح دعاته غرباء، ولا غرو أن يصطدموا في أحيان كثيرة بأصحاب السلطان، الذين اتخذوا (العلمانية) منهاجاً لهم، وجعلوا (الغرب) قبلة لهم، ورفضوا شريعة الله حاكمة لهم

(أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون) المائدة 50.

لقد كانت ثمرة هذا الصدام ألواناً من الأذى في المعتقلات والسجون، نحتسبها عند الله، ولا نمن بها على الله تعالى، ولا على أحد من عباده

(بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين) الحجرات 17.

إلى أعلى

تواضع أبكى الحضور
وبأدب جم وتواضع أسال دموع الحضور قال د.القرضاوي: إني - والله - أعلم من نفسي علم اليقين أني لست أهلاً للمنزلة التي أنزلتمونيها، ورقيتموني إليها اليوم، وأحفظ في هذا ما قال الرجل الرباني، ابن عطاء الله السكندري في حكمه: الناس يمدحونك لما يظنونه فيك، فكن أنت ذاماً لنفسك لما تعلمه منها، أجهل الناس من ترك يقيم ما عنده، لظن ما عند الناس. وقد رووا عن علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه في وصفه للمتقين أنه قال: كان الصحابة رضي الله عنهم إذا مدحهم الناس يقولون: اللهم اجعلنا خيراً مما يظنون، ولا تؤاخذنا بما يقولون، واغفر لنا ما لا يعلمون، وأنا أدعو مع الصحابة الكرام بهذا الدعاء، أن يغفر الله لنا ما لا يعلم الناس من تفريطنا في جنبه، وتقصيرنا في حقه، جل ثناؤه، ومن فضل الله علينا ورحمته: أنه سترنا بستره الجميل، فلا يرى الناس منا إلا ظاهرنا المزين، الذي أبرزه الله سبحانه لهم، وغيب عنهم باطننا بما فيه من عيوب ونقائص مستورة. ورحم الله الشاعر أبا العتاهية حين قال:

أحسن الله بنا أن الخطايا لا تفـوح
فإذا المستور منا بين جنبيه فضوح

 

وقال ابن عطاء الله هنا أيضاً: من أكرم (من الخلق) فقد أكرم فيك جميل ستره، فالفضل لمن أكرمك وسترك، ليس لمن أثنى عليك وشكرك. وكم يطيب لي أن أتغنى بقول الشاعر الصالح، يناجي ربه سبحانه، وقد أثنى عليه المثنون، وأطراه المطرون:

 

يظنون بي خيراً، وما بي من خيـر ولكن عبد ظلوم كمــا تدري
سترت عيوبي كلها عن عيونهــم وألبستني ثوبا جميلا من الستر
فلا تفضحني يوم القيامة بينهم وكن لي يا مولاي في موقف الحشر

إلى أعلى

مزيد من العطاء
وأعرب فضيلته عن أمله في تقديم المزيد لدينه، وإخوانه في العقيدة قائلاً: وإني لأنظر إلى ما قدمت لديني ولأمتي، فأجده شيئاً قليلاً أو أقل من القليل. أجل والله أجده قليلاً، وقليلاً جداً بالنسبة لمستويات أخرى.

بالنسبة لمستوى الدين العظيم الذي أكرمنا الله به، وأتم به النعمة علينا، وما يتطلبه منا من بذل وعطاء. وبالنسبة لما قدمه أسلافنا العظام لدينهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ومن الأئمة المتبوعين، ومن رجال أعلام نذروا حياتهم لدينهم أمثال الغزالي وابن عبدالسلام وابن تيمية وابن القيم.

وبالنسبة لما قدمه رجال مسلمون في عصرنا، صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً، منهم من قدم عنقه في سبيل الله إلى حبل المشنقة، ومنهم من اغتيل في الطريق، ومنهم من عاش حياته معاًفى صابراً مصابراً مرابطاً، في أيام سماها الحديث الشريف (أيام الصبر، القابض على دينه كقابض على الجمر).

وبالنسبة لما يقدمه الآخرون لدينهم، فلقد رأينا اليهود يبذلون لدينهم، حتى أقاموا له دولة في قلب ديارنا تتحدى أمتنا الكبرى، ورأينا النصارى يبذلون لدينهم حتى كانت لهم جيوش من المنصرين والمنصرات في أنحاء العالم بلغت نحو أربعة ملايين وثلاثمائة أرباع المليون.

إلى أعلى

تكريم لمنهج الوسطية
وجدد فضيلة الشيخ القرضاوي تأكيده على أن تكريمه بجائزة دبي تكريم للوسطية التي يتبناها وقال: أعتبر هذه الجائزة ليست مجرد تكريم لشخصي، بل هي تكريم لتيار أمثله وأتبناه وأدعو إليه، تيار نذرت فكري وجهدي ولساني وقلمي للتعريف به، والدعوة إليه، والدفع عنه، وإزاحة العقبات من طريقه، ورد الشبهات والمفتريات عنه، إنه التيار الذي عرف منذ مدة باسم (تيار الوسطية الإسلامية).

وهو التيار الذي يعبر عن وسطية هذا الدين، الذي سماه الله في كتابه (الصراط المستقيم)، ويعبر عن وسطية هذه الأمة التي زكاها الله تعالى بقوله (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) البقرة: 143، وعن وسطية الخلف العدول، الذين يحملون إلى الأجيال علم النبوة، وميراث الرسالة، وهم الذين بشر بهم الحديث الشريف .. يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.

وهو الذي روي عن علي كرم الله وجهه الوصية باتباع منهجه إذ قال: عليكم بالنمط الأوسط، الذي يلحق به التالي، ويرد به الغالي. وتتميز وسطية هذا التيار في موقفه المعتدل من قضايا كبيرة مهمة، جنح فيها الكثيرون إلى الإفراط أو التفريط، ولكنه حرص دائماً أن يكون كما أمر الله تعالى في كتابه، حين قال (والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) الرحمن : 7-9.

فهذا هو موقفه الثابت في قضايا الفكر والعمل: لا طغيان ولا إخسار في الميزان، فهو وسط بين دعاة المذهبية الضيقة، ودعاة اللامذهبية المنفرطة، وسط بين أتباع التصوف وإن انحرف وابتدع، وأعداء التصوف وإن التزم واتبع، وسط بين المحكمين للعقل وإن خالف النص القاطع، والمغيبين للعقل ولو في فهم النص، وسط بين الذين يأخذون الحضارة الغربية بخيرها وشرها، وبين الذين يرفضونها بالكلية،وسط بين دعاة التشدد ولو في الفروع والجزئيات، ودعاة التساهل ولو في الأصول والكليات، وسط بين المقدسين للتراث، وإن بدا فيه قصور البشر، والملغين للتراث، وإن تجلت فيه روائع الهداية، وسط بين فلسفة المثاليين الذين لا يكادون يهتمون بالواقع، وفلسفة الواقعيين الذين لا يؤمنون بالمثل العليا، وسط بين دعاة الفلسفة (الليبرالية) التي تعطي الفرد وتضخمه على حساب المجتمع، ودعاة الفلسفة الجماعية (الماركسية) التي تعطي المجتمع وتضخمه على حساب الفرد. وسط بين دعاة الثبات ولو في الوسائل والآلات، ودعاة التطور ولو في المبادئ والغايات، وسط بين دعاة التجديد والاجتهاد وإن كان في أصول الدين وقطعياته ودعاة التقليد وخصوم الاجتهاد وإن كان في قضايا العصر وإن لم تخطر ببال السابقين.

وسط بين الذين يهملون النصوص الثابتة بدعوى مراعاة مقاصد الشريعة والذين يغفلون المقاصد الكلية باسم مراعاة النصوص. وسط بين دعاة الانفتاح على العالم بلا ضوابط ودعاة الانغلاق على النفس بلا مبرر. وسط بين دعاة الغلو في التكفير حتى كفروا عامة المسلمين المتدينين والمتساهلين فيه ولو مع صرحاء المرتدين.

وسط بين المستغرقين في الحاضر غائبين عن المستقبل والمبالغين في التنبؤ بالمستقبل كأنه كتاب يقرؤونه. وسط بين المقدسين للأشكال التنظيمية كأنها أوثان تعبد والمتحللين من أي عمل منظم كأنهم حبات عقد منفرط.

إلى أعلى