في 12 من شوال 1412هـ الموافق 13 أبريل 1992م أبلغني بعض الإخوة بنبأ وفاة الأخ الحبيب، والصديق الكريم، الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري، الشاعر والداعية والسفير والمحاضر.

معرفتي به قبل أن يعرفني:

وقد عرفت الأستاذ الأميري قبل أن يعرفني، حين قرأت في «سجل التعارف الإسلامي» في مجلة «الشهاب» «التي كان الإمام حسن البنا يصدرها» في عددها الثالث: صورة الأميري. وقد كُتب تحتها: سوري من صفوة أبناء حلب، وُلِد سنة 1329هـ، وقضى بعض عمره المبارك في الدراسة بفرنسا، وتخرّج من «الحقوق السورية» سنة 1940م، وكان نجاحه منقطع النظير، واشتغل بالمحاماة، مشترطًا على موكليه أن يتخلى عن دعاويهم، إذا ظهر وجه الحق في غير جانبها! واشتغل بالحركة الإسلامية منذ نعومة أظفاره، وأسَّس مركزًا للدعوة الإسلامية في باريس، وهو شاعر مطبوع، ومجاهد مؤمن.

مناجاة في الحب الإلهي:

كما قرأت له أبياتا مشرقة بالمعاني الربانية نشرتها له «الشهاب» أيضًا تحت عنوان «خماسيات الأميري»: وهي مناجاة يحلِّق فيها بك في سماء الحب الإلهي، ويخاطب فيها ربه:

كلما أمعن الُّجى وتحالك      شِمْت في غوره الرهيب جلالُك

وتراءت لعين قلبي برايا      من جمال آنست فيها جمالك

وتراءى لمسمع العقل همس      من شفاه النجوم يتلون الثنا لك

واعتراني تولّه وخشوع       واحتواني الشعور: أني حيالك

ما تمالكت أن يخرّ كياني      ساجدًا عابدًا، ومن يتمالك؟

لقائي الأول به:

وكان أول مرة ألتقي فيها الأميري وجهًا لوجه، حين كلفني الأستاذ الدكتور محمد البهي المدير العام للثقافة الإسلامية بالأزهر: أن أقدم محاضرة دُعي لإلقائها في الموسم الثقافي للأزهر، بقاعة الإمام محمد عبده، عن «العروبة والإسلام» وكان د. البهي مسافرًا، فأنابني عنه، وقدّمته بما يليق به، وعقبت عليه بعبارات أعجب بها المحاضر، ولم يكن تعرَّف عليَّ قبل ذلك، فعانقني بعد المحاضرة بحرارة، وانعقدت بيننا أخوة صادقة، ومودة عميقة. وقد زادتها الأيام قوة على قوة، حين تلاقينا في بيروت في الفترة التي لم أكن أستطيع النزول فيها إلى القاهرة.

أستاذ زئر في كلية الشريعة بقطر:

ثم بلغت ذروتها حين دعوته إلى قطر أستاذًا زائرًا لكلية الشريعة، ليدرس مقررًا عن «المجتمع المسلم» لطلاب الكلية طالباتها، وذلك في أكثر من فصل دراسي. وذلك بموافقة مدير الجامعة أ. د. إبراهيم كاظم الذي كان حسن الصلة به كذلك. ثم التقينا في الجزائر في ملتقيات الفكر الإسلامي، وفي السنة التي ذهبت فيها إلى الجزائر 1990 - 1991م معارًا من دولة قطر، شارك معي في محاولة الصلح بين إخواننا في الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وإخواننا في حماس والنهضة، وإن لم نفلح في هذا التوفيق.

سفير الإسلام:

عمل الأميري سفيرًا لبلاده سوريا في باكستان والمملكة العربية، وكان في الحقيقة سفيرًا للإسلام، ولأمته، كما عمل محاضرًا وأستاذ كرسي «الإسلام والتيارات المعاصرة» في دار الحديث الحسنية بالرباط، وقسم الدراسات الإسلامية العليا بجامعة القرويين، كما درّس الحضارة الإسلامية في كلية الآداب بجامعة محمد بن عبد الله في فاس.

الأميري الشاعر:

ولكن مما لا ريب فيه ولا نزاع عليه: أن الذي غلب عليه وعرف به هو الشعر، فإذا ذكر الأميري ذكر الشاعر قبل أي وصف آخر. وهو شعر متميز باتجاهه الرباني والإنساني. ولقد كنت كتبت كلمة ضافية عن الأميري نشرتها في كتابي: «وداع الأعلام» لا أستغني عن اقتباس فقرات منها هنا، وخصوصًا عن شعره.

قصيدة «أب»:

فمن قصائده الجميلة والرائعة التي قرأتها له قبل أن ألقاه: قصيدة «أب» التي نشرتها له مجلة «المسلمون» الشهرية التي كان الأستاذ سعيد رمضان يصدرها، وتصدر من خارج مصر. وهي في الحقّ من روائع الشعر العربي الحديث، كتبها وهو في مصف «قرنايل» بلبنان، وقد سعد بأسرته وأولاده خلال الصيف، ثم انتهت العطلة، ورحل الأولاد عنه، وعادوا إلى حلب، وبقي الشاعر وحده في البيت الذي أصبح اليوم مُحشًا كالقبر، بعد أن كان بالأمس جنّة وارفة الظلال، بما فيه من حياتة وحركة، وبركة وسعادة.

يقول الأميري في قصيدته:

أين الضجيجُ العذْبُ والشَّغَبُ؟         أين التَّدارس شابَهُ اللعبُ؟

أين الطفولة في توقُّدها؟         أين الدُّمى، في الأرض، والكتب؟

أين التَّشَاكسُ دونما غَرَضٍ؟        أين التَّشاكي ما له سبب؟

أين التبــاكي والتضاحك، في        وقت معـاً، والحزن والطربُ؟

أين التسابق في مجاورتي         شغفا، إذا أكلوا وإن شربوا؟

يتزاحمون على مجالستــي        والقرب مني حيـثما انقلبـوا

فنشـيدهم "بابا" إذا فرحـوا        ووعيدهم: "بابا" إذا غضـبوا

ومنها، وهو يصف حاله وبكاءه حينما ودعهم وودعوه راجعين إلى حلب:

دمعـي الـذي كتمتـُهُ جَلـَدا         لما تبـاكوا عندمـا ركبـوا

حتـى إذا سـاروا وقد نزعوا      من أضلعي قلبـا بهـم يجبُ

ألفيـتـُني كالطفل عاطفــة         فإذا بـه كــالغيث ينسـكبُ

قد يَعـجـب العذال من رجل      يبكي، ولو لـم أبـكِ فالعجب

هيهـات مـا كـل البكا خوَر     إني - وبي عـزمُ الرجـالِ - أبُ

قصيدة فريدة:

لقد هزّتني هذه القصيدة الفريدة، لما احتوته من قوة ا لتصوير، وروعة التعبير، عن مشاعر الأبوة الحانية، وعواطف الطفولة اللاهية، ودقائق الخلجات النفسية، التي قد تراها متناقضة الظاهر، منسجمة الباطن، وما فيها من صورة حية رسمها الحرف الناطق، والحسّ الصادق، والشعر الرائق، المعبِّر بسلاسلة منقطعة النظير، عن أعمق أعماق المشاعر، وأحنى حنايا العواطف، في لغة جزلة، وجمل عذبة، وعبارات رشيقة، وأسلوب أخّاذ، متدفق كالعذب الزلال، والسحر الحلال.

وعرفت بعد ذلك أن الشاعر والأديب الكبير الأستاذ عباد العقاد، كان من أشدّ المعجبين بهذه القصيدة، حتى قال عنها في ندوة من ندواته المعروفة، التي كان يعقدها في منزله بمصر الجديدة، في صباح كل جمعة، وكان ذلك في رمضان 1381هـ، قال: لو كان للأدب العالمي ديوان من جزء واحد، لكانت هذه القصيدة في طليعته! كما عرفت أنها تُرجمت إلى الفرنسية، وقُورنت بقصائد الشاعر الفرنسي الكبير «فيكتور هوجو» في الأطفال.

وقد نشرها الشاعر بعد ذلك في ديوانه «ألوان طيف» كما نشرها كذلك في ديوان «أب» مع تسع قصائد أخرى حول الأبوة والبنوة، وقد كتبه بخط يده، ونشر مصورًا كما هو بخطه الجميل، وقال في تقديمها: عشر قصائد من وحي الأبوة... لوحات فيها مكابدة ومعاناة... صور وجدانية... معدِّدة متحولة، يعيش ألوانها وأكوانها كل إنسان أب، وكل أب إنسان!

ديوان «مع الله»:

وقرأت للأستاذ الأميري ديوانه الرائع «مع الله» في طبعته الثانية، وقد تفضل بإهدائه إليّ.

كان ديوان «مع الله» صلوات وابتهالات، وترنيمات إلهية، كأنها من مزامير داود ... إنه شعر يحلِّق في آفاق السماء، ويغوص في أعماق النفس، ويسيح في جَنَبات الوجود ويستحضر معيَّة الله عز وجل في كل مكان، وفي كل حين، وفي كل حال: في ابتسام السَّحر ... في التماع القمر... في تموُّج الغيوم... في احتباك النجوم... في الربيع الطلق... في الخريف الحزين... هو «مع الله» في سجود... في شرود... في وضوح... في غموض... في نزوة... في نشوة... في حزن شديد... في جو سعيد... في الأفق المديد... في الغور البعيد... «مع الله».

وقد قدم الشاعر لديوانه بكلمات هي شعر منثور، أو نثر «مشعور»، أو قبسات من نور، تخاطب العقل والوجدان، وكل الكيان في الإنسان.

كما بدأ الديوان برائعته «مع الله»:

مع الله في مضمرات الكرى     مع الله عند امتداد السهر

مع الله والقلب في نشوة         مع الله والنفس تشكو الضجر

مع الله في أمسي المنقضى       مع الله في غدي المنتظر

مع الله في عنفوان الصِّبا     مع الله في الضعف عند الكبر

مع الله قبل حياتي، وفيها     وما بعدها عند سكنى الحفر

إلى آخر ما ذكره من ألوان ومجالات معيَّته في الله، وهي معيَّة ملأت المكان والزمان، والحسّ والفكر، والضمير والوجدان.

لا أستطيع أن أتخيَّر من هذا الديوان بعض قصائده، فكلها خيار من خيار، ولكني أنتقي «خماسية» كنت قد قرأتها في مجلة «المسلمون» التي كانت تنشر بين الحين والحين بعضًا مما تنتقيه من قصائد الشاعر، أو مما يرسل به إليها، فكان منه هذه القصيدة عن «الكعبة» يقول فيها: 

الكعبة الشماء في مذهبي      قيمتها ليست بأحجارها

والقرب من خالقها ليس في      تشبث المرء بأستارها

قدسيَّة الكعبة في جمعها        أمتنا من كل أقطارها

وأنها محور أمجادها        وأنها مصدر أنوارها

وكعبة المؤمن في قلبه       يطوف أنى كان في دارها

الشعر الإنساني:

وله - بجوار الشعر الرباني - سبحات ونفحات في الشعر الإنساني، الذي تتجلى فيه عواطف الإنسان من حيث هو إنسان، ومن حيث هو أب، كما في ديوان «أب» ومن حيث هو ابن، كما ديوان «أمي» ومن حيث هو إنسان ذو قلب، كما في ديوان «ألوان طيف». ومن جميل شعره في ديوان «أب»:

ما لك يا قلبي... على الدروب...!!

تبحث... عن كل حشا منكوب!!

تصنع من أناته وجيبي ...!

هل أنت يا قلبي... أبو القلوب؟!

ومن أبياته المؤثرة:

ويذود عن عيني الكرى      همّ... وهم... ذو رنين!

همّ الثمانية الصغار       وبعد... تاسعهم جنين!

ومن المشاعر الإنسانية التي تحسها وتلمسها في شعر الأميري: الشعور بالغربة عن بلده وأهله وولده سنين طالت، فهو في الغرب، وهم في الشرق.

يقول في إحدى قصائده:

أنا في امتدادات الأذان        كان في نسبي رباح

أنا في الرباط وفي الرياض    وليس عن حلبي براح!

الشعر الجهادي:

وبجوار الشعر الإيماني، والشعر الإنساني للأميري، نجد الشعر الجهادي، وكله أو جله يصبّ في قضية الأمة المركزية والمحورية، وهي قضية الأقصى، قضية أرض الإسراء والمعراج، قضية فلسطين، وقد أصدر عدّة دواوين في ذلك، مثل: ملحمة الجهاد، وملحمة النصر «شعر من وحي معركة العاشر من رمضان 1393هـ»، ومن وحي فلسطين «شعر وفكر»، و «حجارة من سجيل». وقد صدر بعد انتفاضة أطفال الحجارة، الانتفاضة الأولى، التي انطلقت أول ما انطلقت من مساجد غزّة، وأطلق عليها في أول الأمر: اسم «ثورة المساجد»!

وقفة مع شعر الأميري:

وإذا كان بعض الشعراء يخلد إلى الأرض، وينزع إلى الطين والحمأ المسنون، فإنّ الأميري يُحلِّق بشعره على أجنحة ملائكية، إلى آفاق علوية. وإذا كان منهم من استغرقه الحسّ، وسجنه الجسد في قفصه، فإن الأميري قد سما بشعره إلى فردوس الروح، وسماء الربانية، وتحرَّر من قبضة الجسد الحديدية، بفضل ما منحه الله تعالى من رحيق الإيمان، وفيض الروح المشرق بنور اليقين.

لقد جعل الأميري للعرب «إقبالًا» كما للهنود «إقبالهم»، وأحيا شعر «الحب الإلهي» في لغة جزلة عذبة معاصرة، تخاطب الكينونة الإنسانية كلها: عقلًا وروحًا، وعاطفة وضميرًا، ولا تخاطب «الإنسان الجسد» وحده، كما فعل بعض الشعراء المعاصرين، الذين اختصروا الإنسان في المرأة، واختصروا المرأة في الجسد، واختصروا الحياة في اقتناص اللذات، واتباع الشهوات.

لهذا كان أحب الأوصاف والألقاب إلى شاعرنا: لقب «شاعر الإنسانية المؤمنة»، فهو شاعر الإيمان، وشاعر الإنسان.

وللأميري نَثْر عَذْب جميل، أحيانًا يختلط بشعره، كمقدِّمات وتعليقات، وأحيانًا يستقل في كتب ورسائل، ولكن لكل نثره نغمة أدبية وشعرية ظاهرة.

اهتمامه بالفقه الحضاري:

وكان مشغولًا في سنيه الأخيرة بإصلاح الأمة وتحريرها من داخلها. مركزًا على ما أسماه في عدد من كتبه ومحاضراته: «الفقه الحضاري»، وهو فقه يعني بالتركيز على الأسس الحضارية، والخصائص الحضارية، وأن على الأمة أن تبذل جهدًا فكريًّا وثقافيًّا حتى تؤصَله، ثم تفرَع عليه، وإن لم يبين لنا رحمه الله  معالم هذا الفقه وملامحه. وقد حاولت في كتابي «السنّه مصدرًا للمعرفة والحضارة» أن ألقي بعض الضوء على معالم «الفقه الحضاري» و «السلوك الحضاري» اقتباسًا من السنة النبوية وأحاديثها الصحاح.

اعتزازه بأصالته الإسلامية:

وكان من مزايا الأميري أنه كان حريصًا على ألا يؤرخ لأيَّ كتاب يصنفه، أو أي رسالة يرسلها، أو أي عمل من الأعمال يريد أن يسجله، إلا بالتاريخ الهجري، والتاريخ الهجري وحده.

وفي القصائد التي ينشئها يضع تحت كل قصيدة تاريخها الهجري، ولا يلحق بها أي تاريخ آخر. وفي هذا اعتزاز بأصالتنا الإسلامية دون شعور

بالحاجة إلى أي أمة أخرى.

رحم الله أبا البراء عمر الأميري، وغفر له، وأثابه شاعرًا وناثرًا، وداعية ومحاضرًا، وباحثًا ومؤلفًا، وغيورًا ومجاهدًا، وتقبله في الدعاة الربانيين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وما بدلوا تبديلًا.

وفاة أ.د. إبراهيم كاظم سنة 1992م

كان أ.د. محمد إبراهيم كاظم أول عميد لكليتي التربية في قطر منذ سنة 1973م، وحين أنشئت جامعة قطر سنة 1977م كان أول مدير لها. حيث بدأت بكليات أربع، هي: التربية والعلوم والشريعة والإنسانيات «أي الآداب». وبعد ذلك أضيفت كلية الهندسة، وكلية الإدارة والاقتصاد، والكلية التكنولوجية.

والحقيقة: أن د. كاظم حشد للجامعة مجموعة مختارة من الأساتذة في جميع التخصصات، وكان رجلًا خبيرًا بالرجال، مُستغلًّا علاقاته الواسعة في اختيارهم واجتذابهم إلى قطر.

وكان رجلًا دمثًا حسن الخلق، عفيف اللسان، ما سمعته يتكلم عن أحد بسوء، حسن الصلة بزملائه ومن يعمل معه، حتى بالطلاب، وكان يحسن الكلام في المناسبات المختلفة، ويختار كلماته بعناية، ويضعها في موضعها.

علاقة ود وتعاون:

وقد تحدثت عن العلاقة بيننا، وأنها كانت قائمة على ودّ وتعاون، منذ تعارفنا في إدارة الأزهر 1973م حتى غادر قطر 1986م. وقد كنا نلتقي باستمرار في مناسبات شتى: في مجلس الجامعة، وفي المجلس الأعلى للتربية، الذي يجمع بين رجال الجامعة ورجال وزارة التربية، ويرأسه وزير التربية والتعليم، وفي مجلس إدارة مركز بحوث السنة والسيرة، وفي غيرها من المناسبات. وبخاصة أن د.كاظم كانت روحه إسلامية، وكان ذا اهتمام بالشأن الإسلامي، ولا سيما ما يتعلق ببلاد الشرق الأقصى، التي عمل فيها فترة من الزمن، وتعرَّف على كثير من رجالات الإسلام بها؛ ولهذا سعى إلى تنظيم رحلة إلى الشرق الأقصى، كانت من أخصب الرحلات وأطيبها ثمرات.

وداع العمل الجامعي:

بعد أربع سنوات عميدًا لكليتي التربية، وتسع سنوات مديرًا للجامعة: رأى د. كاظم ببعد نظره، ونور بصيرته: أن يودع قطر مختارًا، ولا سيما بعد أن وجد من أبناء قطر من يستطيع أن يحمل العبء، وقد كانت قطر تطلب التجديد له من مصر، فيصدر قرار من رئيس الجمهورية بتجديد إعارته.

الليالي الكاظمية:

وودّعت جامعة قطر مديرها الأول د. كاظم وداعًا مفعمًا بالمودة والوفاء، كل كلية أقامت له احتفالًا خاصًا، وقدّمت له هدية، ونوّهت بدوره وفضله، ومنها كلية الشريعة، وذلك في ليال جميلة سماها بعض أخواتنا «الليالي الكاظمية»!

المدير الإقليمي لمنظمة اليونسكو:

وانتقل د. كاظم إلى منصبه الجديد مديرًا إقليميًا لمنظمة اليونسكو، وكان مقره عمان، وإن كان دائم التنقل بين عمان وباريس وسائر العواصم العربية، حتى قدر الله له أن يصاب بذلك المرض العضال، الذي أثبت عجز الإنسان وضعفه أمام القدر المغيب عنه، {وَخُلِقَ ٱلۡإِنسَٰنُ ضَعِيفٗا} [النساء: 28]، أصيب الرجل النشيط المتحرك المثابر بسرطان في المخ، وهو في عزّ عطائه، والأبصار ترنو إليه، والأعناق تشرئب نحوه، وترشحه لمناصب كبيرة في الداخل والخارج، ولكن قضاء الله لا يُردّ.

لقد زرته في مرضه مرتين في منزله بمصر الجديدة بالقاهرة... في أول مرة كان متماسكًا حاضر الذهن، وفي المرة الثانية تغير حاله، وبدأت زهرته في الذبول، وودعته وعيني تملؤها دموع حبستها. ورثيت لحال أسرته، وهي تراه في هذه الحال، زميلتنا الدكتورة صفاء الأعسر، أستاذة علم النفس «التي تحمل بين جنبيها أسى عميقًا، وأولاده، د. يسر» وشقيقها وشقيقتها، كان الله لهم.

الذكر الطيب والثناء الحسن:

وبعد استكمال ثمانية عشر شهرًا من بداية المرض رحل الرجل عن دنيانا في 12/9/1992م، تاركًا ذكرًا طيبًا، وسمعة حسنة، وثناء من كل من عرفه وخالطه. وقد قيل: ألسنة الخلق أقلام الحق. وقال النبي صلى الله عليه وسلم  لأصحابه: «أنتم شهداء الله في أرضه»(1).

رحم الله أخانا إبراهيم كاظم، وغفر له، وتقبَّله في الصَّالحين، وجزاه عن دينه وأمته، وعن العلم والتربية، خير ما يجزي به العلماء المربّين والمؤسسين المخلصين، وخلفه في أهله وذريّته بخير ما يخلف به المؤمنين الصادقين.

................

(1) متفق عليه: رواه البخاري (1367)، ومسلم (949) كلاهما في الجنائز، عن أنس.