صفحة من مذكرات سماحة الشيخ القرضاوي:

كانت الحياة في السنة الأولى رخيصة جدًّا، وكان شعارنا: القناعة كَنْز لا يفنى. ولم يكن لنا طموحات أو تطلعات تتطلَّب نفقات، فليس لنا نفقات إلا فيما نأكل ونشرب.

وكنا في الصباح نُفطر على ما تيسَّر ممَّا حملناه من زاد القرية، مثل: بعض القُرَص أو القراقيش. وفي العَشاء قد نقْلي بعض البيض، أو نكتفي بالجبنة أو الحلاوة الطحينية.

وفي الغداء معظم طعامنا الفول المدمس. وأذكر أنِّي أخذتُ صحنًا وقرش تعريفة (وهو خمسة مليمات)، فاشتريت بأربعة مليمات فُولًا بدون زيت؛ لأنَّ لدينا سمنًا نضعه عليه بدل الزيت. وبقي مليم من التعريفة اشتريت به فجلًا، وأعطتني بائعة الفجل خمس حزم بالمليم، ثمَّ زادتني واحدة من عندها؛ لأنِّي «زبون» جديد!

وكان هذا غداءنا نحن الثلاثة. وفي بعض الأيَّام كنا نستبدل بالفول الطعميَّة، وكلاهما فول في النهاية. وفي بعض الأيَّام غيَّرنا الفول، واشترينا سمكًا مشويًّا بقرش صاغ كفانا نحن الثلاثة.

أمَّا الماء فكُنَّا نشربه في قلَّة قناويَّة نملؤها، ثمَّ ندعها تَبْرُد، بقدر ما نصبر عليها. ولم يكن النَّاس يعرفون الثلاجات ونحوها. وأما اللحم فلا نُفَكِّر فيه ولا نشتهيه؛ لأنَّه طعام «بورجوازي»، وليس من طعام أمثالنا من الفقراء عادة.

على أنِّي كنتُ محظوظًا أكثر من غيري؛ فقد كانت لي خالة تسكن في مدينة طنطا، وكانت تُحبُّني وتعزُّني وتعُدُّني كأنِّي ابنها، وأعتبرها كأنَّها أُمِّي. ولم يكن لها ابنٌ ذكر، لكن كان لها بنتان قريبتان من سِنِّي، هما: سميرة وأنيسة، وكان النَّاس ينادون خالتي بـ«أمِّ عبده» على اسم خالي عبد الحميد. فكنتُ أذهب إلى خالتي كلَّ أسبوع مرَّة، لأسلمها ما اتَّسخ من ملابسي لتغسلها، ولتُطعمني ما تُكِنُّه لي من اللحم أو الطيور، وكانت تهوى اقتناء الطيور والدواجن في منزلها.

وممَّا فوجئت به، وكانت مفاجأة سارَّة: أن وجدنا بالمعهد - بعد شهرين تقريبًا من بدء الدراسة - مكافأة لكل طالب مقدارها ثمانية عشَر قرشًا، تسمى: «بدل جراية». وذلك أن بعض أغنياء المسلمين القدامى كانوا قد وقفوا على طلاب العلم الشرعي خبزًا لوجبات ثلاث يوميَّة، يجري عليهم بصفة دوريَّة؛ ولذا سُمِّي: «الجراية». وكانوا قديمًا يتسلَّمون الجراية عينيَّة، فلمَّا تغيَّر الحال، أصبحوا يدفعون للطلبة بدل الجراية نقودًا.

والحقُّ أنِّي فرحت بهذا المبلغ الإضافي، الَّذي أعطانا بعض البحبحة في النفقة، فجزى الله هؤلاء الواقفين خيرًا عن العلم وأهله.