ناصر الحموي

فقدت الأمة العربية والاسلامية أحد أبرز وأشهر علمائها الأجلاء والمخلصين في العصر الحديث، فضيلة العلامة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، الذي لقي ربه أمس (الاثنين) راضيا مرضيا، بعد مسيرة مباركة وحياة حافلة بالدعوة والعلم والعمل الخيري، نذر فيها نفسه لخدمة الاسلام والمسلمين ونصرة قضايا الأمة، فكان بحق فارس المنابر والعالم العامل والمفكر المعاصر، الذي يحاضر في الندوات، ويخطب في المساجد، ويشارك في البرامج التلفزيونية والمؤتمرات..

وقد أثرى المكتبة بأكثر 200 كتاب في الفقه والتفسير والعلوم الشرعية، وآلاف المحاضرات والدراسات والأبحاث والمقالات والخطب والندوات، قدمها العلامة الراحل بلغة عصرية وشواهد وأحكام من نصوص الكتاب والسنة، ووفق منهج التيسير والوسطية والاعتدال والذي تبناه ظل يدعو إليه وينشره طوال حياته، وهو منهج يوازن بين ثوابت ومحكمات الشرع ومقتضيات العصر، ويركز على فقه السنن وفقه المقاصد وفقه الأولويات، يتمسك بكل قديم نافع، ويرحب بكل جديد صالح يستلهم الماضي، ويعايش الحاضر، ويستشرف المستقبل، حيث نجح العالم الراحل في الوصول إلى آراء فقهية تستند إلى قواعد واضحة في أصول الفقه ومقاصد الشريعة، تهدف إلى اشاعة الاعتدال والتسامح ومقاومة الغلو والتطرف.

دافع بصلابة عن الأمة

كان فضيلة الشيخ القرضاوي من أكثر الدعاة المعاصرين قربا من الجماهير وتأثيرا في الشعوب، عرف بدفاعه الصلب عن قضايا الامة العربية والاسلامية، وفي مقدمتها قضية فلسطين والقدس والمسجد الاقصى أولى القبلتين، كما اتخذ موقفا مشرفا من ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، وأدان بشدة موقف الحكام في مواجهة الثائرين المسالمين بالرصاص والقتل، وطالب بنصرة الشعوب العربية المطالبة بالحرية والعدالة وتقديم المساعدة والعون لها، خصوصا الفئات الضعيفة كالنساء والأطفال وحمايتها من آلة البطش التي تمتلكها الأنظمة القمعية.

عطاؤه بلا حدود

تنوع عطاء العلامة الراحل بتنوع مواهبه، فهو خطيب مؤثر، وكاتب أصيل، وأديب وشاعر، وفقيه تميّز بالرسوخ والاعتدال، وعالم متمكن في شتى العلوم الإسلامية، أما مؤلفاته فقد جاوزت الـ 200 كتاب في مختلف الثقافة الاسلامية، لقيت قبولاً عاماً في العالم الإسلامي، حيث طبع بعضها عشرات المرات، وترجم عدد كبير منها إلى اللغات العالمية، أشهرها كتاب " "الحلال والحرام في الإسلام" و"فقه الزكاة " و"الاجتهاد في الشريعة الإسلامية"، و"فقه الجهاد"، و"الإسلام والعلمانية وجها لوجه"، و"عالم وطاغية" وهي مسرحية تاريخية.

كما كتب عنه العديد من الكتب والرسائل الجامعية، ولا يوجد مسلم معاصر إلا التقى به قارئاً لكتاب، أو رسالة، أو مقالة، أو فتوى، أو مستمعاً إلى محاضرة، أو خطبة أو الى درس أو حديث أو جواب، في جامع أو جامعة، أو إذاعة، أو تلفاز، أو غير ذلك.

ولا يقتصر نشاطه في خدمة الإسلام على جانب واحد، أو مجال معين، أو لون خاص بل اتسع نشاطه، وتنوعت جوانبه، وتعددت مجالاته، وترك في كل منها بصمات واضحة تدل عليه، وتشير إليه، حيث لا تكاد تذهب إلى بلد إسلامي إلا وجدت كتب القرضاوي هناك، وقد تميزت كتبه بجمعها بين الأصالة والمعاصرة، بين التمحيص العلمي والتأمل الفكري والتوجه الاصلاحي، تحررها من التقليد والتبعية الفكرية والعصبية المذهبية، اتسامها بالاعتدال وتمسكها بالوسطية الميسرة، وقوفها بقوة في وجه دعوات الهدم والغزو من الخارج، ودعوات التحريف والانحراف من الداخل، والتزمها الإسلام الصحيح وحده، جامعة بذلك بين دقة الفقيه، وإشراقة الأديب، وحرارة الداعية، ونظرة المجدد.

حياة حافلة بالعطاء

ولد الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في مصر في 9 سبتمبر 1926، حفظ القرآن الكريم وجوّده وهو دون العاشرة، أتم تعليمه في الأزهر الشريف. حصل على الشهادة العالية من كلية أصول الدين عام 1953م، وعلى إجازة التدريس عام 1954م، وكان ترتيبه الأول في كليتيهما،وفي سنة 1960م حصل على الدراسة التمهيدية العليا المعادلة للماجستير في شعبة علوم القرآن والسنة من كلية أصول الدين.، كما حصل على الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى عام 1973م.

عمل الشيخ القرضاوي بعد تخرجه في مراقبة الشؤون الدينية بالأوقاف، وإدارة الثقافة الإسلامية بالأزهر، ثم أعير إلى دولة قطر مديراً لمعهدها الديني، فرئيساً مؤسساً لقسم الدراسات الإسلامية بكليتي التربية فعميداً مؤسساً لكلية الشريعة والدراسات الإسلامية، ومديراً لمركز بحوث السنة والسيرة، كما أعير من دولة قطر إلى جمهورية الجزائر الشقيقة العام الدراسي 1990 /1991م ليترأس المجالس العلمية لجامعتها ومعاهدها الإسلامية العليا.

رئاسته لاتحاد العلماء

ترأس مجلس إدارة جمعية البلاغ الثقافية في قطر التي أطلقت شبكة "إسلام أون لاين"، واختير لرئاسة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين منذ تأسيسه عام 2004، إضافة إلى عضويته في عدة مجامع ومؤسسات علمية ودعوية عربية وإسلامية وعالمية، منها المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي بمكة، ومنظمة الدعوة الإسلامية بالخرطوم، ومركز الدراسات الإسلامية بأكسفورد.

وكانت مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع قد أعلنت في يناير 2009 عن تأسيس مركز القرضاوي للوسطية والتجديد التابع لكلية الدراسات الاسلامية الذي أطلق جائزة الشيخ يوسف القرضاوي العالمية للدراسات الاسلامية، حيث يهدف المركز من خلال هذه الجائزة إلى تكريم الشخصيات العلمية ذات التأثير في حركة الثقافة الإسلامية المعاصرة، وفي مواجهة التحديات الفكرية والبحث عن حلول لقضايا المسلمين.

زار الشيخ القرضاوي عدداً كبيراً من الأقطار الإسلامية في آسيا وأفريقيا، والتجمعات والأقليّات الإسلامية في سائر القارات، ودُعي إلى المحاضرة في عدد من الجامعات الإسلامية والعالمية، كما شارك في عدد كبير من المؤتمرات والندوات العلمية داخل العالم الإسلامي وخارجه.

حصل العالم الراحل على العديد من الجوائز والشهادات التقديرية منها: جائزة البنك الاسلامي للتنمية في الاقتصاد الاسلامي لعام 1411 ه، كما حصل على جائزة الملك فيصل العالمية في الدراسات الإسلامية عام 1994م، وجائزة العطاء العلمي المتميز من الجامعة الإسلامية العالمية فى ماليزيا عام 1996 م، وجائزة سلطان بروناي في الفقه الإسلامي عام 1997 م، وجائزة سلطان العويس في الانجاز الثقافي والعلمي عام 1999 م، وجائزة دبي الدولية للقرآن الكريم فضلا عن شخصية العام الإسلامية عام 2000م.

اختير في 2008 ليحتل المرتبة الثالثة في قائمة عشرين شخصية فكرية هي الأكثر تأثيرا على مستوى العالم، بناء على استطلاع دولي أجرته مجلتا "فورين بولسي" الأمريكية و"بروسبكت" البريطانية.، كما جاء عام 2009 في المرتبة الـ38 ضمن خمسين شخصية مسلمة مؤثرة في كتاب أصدره المركز الملكي للدراسات الإستراتيجية الإسلامية يتضمن أكثر من خمسمائة شخصية مسلمة مؤثرة.

الشرق والقرضاوي:

كانت "الشرق" الجريدة المفضلة لفضيلة الشيخ القرضاوي لا ينازعه على حبها أي صحيفة أخرى، وكان يفخر في مجالسه بأنها جريدته المفضلة، وقد دأب خلال حياته على نشر اصداراته القيمة وفق حلقات مسلسلة طيلة شهر رمضان المبارك على صفحات الملحق دوحة الصائم، مثل كتاب "فقه السلوك" الذي نشر عام 2019، والكتاب الذي يحمل عنوان « فتاوى معاصرة" والذي يتناول عددا كبيرا من الفتاوى والردود الفقهية حول التساؤلات الخاصة بالأسرة والأحوال الشخصية والعلم والتربية وعدد من الأمور الاجتماعية والحياتية التي تسهم في التعريف بصحيح الدين.

.....

- المصدر: الشرق القطرية، 27-9-2022