صفحة من مذكرات سماحة الشيخ القرضاوي:
مع الاستغراق في الجانب الديني (في القرية)، كان هناك خلل كثير فيه: خلل في الفهم والتفكير، وخلل في السلوك والعمل.
كان تصوُّف القرون الأخيرة هو الغالب على تفكير العامَّة، بما فيه من سلبيَّات يعرفها الدارسون، مثل: الجبريَّة في العقيدة، حتَّى يكاد الإنسان يكون مُسَيَّرًا لا مخيَّرًا.
ومثل: الشركيَّات الَّتي شابت التوحيد، مثل: التبرُّك بالأحجار، واستخدام التمائم والأحجبة، والمبالغة في تعظيم الأولياء والصالحين، والاستغاثة بهم، والطواف بقبورهم كما يُطاف بالكعبة، والنذر لهم، والذبح لهم. ومثل: الذهاب إلى الكهنة والعرَّافين والمنجِّمين والرمَّالين وأمثالهم، ممَّن يدَّعون أنَّهم يكشفون أستار الغيب. ومثل: الخرافات الَّتي انتشرت عن السحر والجنِّ والعفاريت.
وممَّا لاحظته من قديم - وما زلتُ ألحظه إلى اليوم - أن النَّاس عندما يُخفقون في أمرٍ، كأن تخفق المرأة في المحافظة على حبِّ زوجِها لها، أو يخفق الرجل في الاحتفاظ بقلب امرأته، لا يفتش أحدهم فيما عسى أن يكون قد قصَّر فيه، وأهمله من سنن الله، بل يحمل هذا الإخفاق والفشل على عمل سحري، عُمِل له مِن قِبَل حُسَّاده وخصومه، وهذا تفسيرٌ مريحٌ يعفي الإنسان من تحمُّل أيِّ مسؤوليَّة، ويعلق الوزر على هذا السبب (أو هذه الشماعة): السحر والعمل.
ومثل ذلك كثير من النساء المصابات بأمراض عصبيَّة معيَّنة، وبعض تشنُّجات، ويدعين أن عِفريتًا ركب إحداهن، وهكذا تذهب إلى الكاهن أو الساحر أو الدجَّال، ليزعم لها أنَّ جنًّا ركبها، وأنها في حاجة إلى وصفات كذا وكذا، ومن هذه الوصفات: إقامة ما يُسَمَّى: «الزار»، وهي حفلة رقص وغناء وموسيقا، فيخرج الجنيُّ، أو تساعد على إخراجه من جسد المرأة. وكلُّ هذه نفقات وتكاليف باهظة تتحمَّلها المرأة إن كانت ذات مال، أو يتحمَّلها زوجها المسكين، وهي لا تكاد تنتهي، فمن حفلةٍ إلى حفلة، ومن دعوةٍ إلى دعوة، ومن مطلبٍ إلى آخر، حتَّى ينفد آخر ما عند المرأة؛ ولذا قال القائل:
ثَلَاثَةٌ تشقى بهن الدارُ العرس والمأتم ثُمَّ الزارُ!
كما أنَّ هذه الحفلات لا تتقيَّد بضوابط الشرع في شيء، ففيها الاختلاط، وفيها المجون، وفيها التبرُّج.
وبعضهنَّ يذهبن إلى بعض المشايخ ليقرأ عليها تعويذات معيَّنة، ليخرج من جسدها العفريت الَّذي يسكنها. والمعتاد أنِّ المرأة يسكن جسدها جِنِّي، أمَّا الرجل فيسكن جسده جنيَّة.
وكان شيخنا الشيخ محمَّد الغزالي ححح ينكر هذا الهوس، وقال للرجل الَّذي جاءه يشكو إليه، وقال له: أنا مسكون. فقال له: وما سكنك؟ قال: جِنِّي. قال له: ولماذا لم تسكنه أنت، وأنت ما شاء الله شحط طويل عريض؟! ولماذا لم يسكن هذا الجِنِّي الخواجات في أوربا وأمريكا؟!
قلت له مرَّة: يا مولانا، يبدو أنَّ العفاريت استضعفت المسلمين، فاحتلَّت رؤوسهم أو نفوسهم، كما أنَّ المستعمرين من قبل استضعفوهم فاحتلُّوا ديارهم!
وإنِّي لأعجب حقًّا، كيف يُسلِّط الله الجنيَّ على الإنسان إلى هذا الحدِّ الَّذي يتحكم فيه، ويدخل في بدنه، ويتصرَّف فيه، وينطق على لسانه، ويصبح الإنسان مسخَّرًا له؟ فأين كرامة الآدمي الَّذي قال الله فيه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (الإسراء:70)، وهل هذا هو خليفة الله في الأرض، الَّذي قال الله في شأنه: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة:30)؟!
وإذا كانوا يحتجُّون بقوله تعالى في شأن آكل الربا: {لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (البقرة:275)، فالمسُّ - لو فسَّرناه تفسيرًا حسيًّا دنيويًّا ماديًّا - غير ما يزعمه هؤلاء من ركوب الشيطان للإنسان وسيطرته عليه وتصرُّفه فيه!
أوَّل ما يفسر به المسُّ ما كان على نحو ما جاء على لسان أيُّوب سسس: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} (ص:41)، والمسُّ هنا ضرب من الوسوسة والدعوة لإغراء الإنسان وإغوائه، وليس للشيطان سبيل على الإنسان أكثر من هذا، كما قال كبير الشياطين يوم القيامة: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} (إبراهيم:22).
وقد كان حديث أهل القرية عن الجنِّ والعفاريت والغِيلان ونحوها، والقصص الَّتي تحكي عن ظهورها في الليل لفلانٍ وفلانة، كان هذا الحديث يملأ قلوبنا رُعبًا وخوفًا. حتَّى إنَّ أهل حارتنا كانوا يحكون عن عفريتة خاصَّة بالحارة، تظهر بالليل قبل الفجر، اسمها: «أم جلاجل»، وهي تسكن في «بدروم» المدرسة الَّتي نتعلَّم فيها بالنَّهار، وهو عبارة عن دورة مياه.
ويقول أهل حارتنا: إنَّ هذه الجنية ظهرت بالليل لفلان وفلان! وهذا ما جعلني من بعد صلاة المغرب عندما أمرُّ على هذه المدرسة أركض ركضًا، وأجري كالريح خوفًا من أن تطلع عليَّ أمُّ جلاجل. وكلُّها تهاويل وخرافات، وكما عبَّر عن ذلك المثل: «اللي يخاف من العفريت يطلع له». أي حالته النفسيَّة تُخيِّل إليه أنَّه ظهر له العِفْريت، فيرى الكلب قد كَبُر حتَّى أصبح كالحمار أو البغل، والحقيقة أنَّه لم يزل كلبًا.
ومثل ذلك: عفريتة المقتول، الَّتي تظهر لمدَّة أربعين يومًا، في المحيط الَّذي قُتِلَ فيه، وهكذا.
وهناك خلل في السلوك، فهناك عدد من النَّاس لا يؤدُّون الصلاة، صحيح أنَّهم مكروهون من الناس، محتقَرون مِن قِبَلهم، ولكنَّهم موجودون.
كما أن كثيرًا من النساء لا يعرفن الصلاة، ويعِشْن ويمتن ولم يركَعْن لله ركعةً واحدة، مع أنَّ آباءهن يُصلُّون، وأزواجهنَّ يُصَلُّون، وأبناءهنَّ يُصَلُّون.
وكان كثير من النساء في حارتنا لا يُصلِين، لغلبة الجهل عليهن، حتَّى امرأة عمِّي ماتت دون أن تُصَلِّي، على حين كانت عَمَّتي وخالاتي جميعًا محافظاتٍ على الصلاة.
وأعتقد أن هذا كان من ثمرات حرمان المرأة من المسجد، فقد شدَّد الفقهاء في منع المرأة من صلاة الجماعة، وصلاة الجمعة في المسجد، خوف الفتنة، على الرغم من أنَّ المرأة في عصر النبوة كانت تؤدِّي الصلوات الخمس في المسجد، حتَّى العشاء والفجر. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله».
ولكن هناك كلمة قالتها أمُّ المؤمنين عائشة رررا إنكارًا على بعض نساء زمنها، إذ قالت: «لو علم رسول الله ما أحدثْنَ بعده لمنعهنَّ من الخروج». فكانت هذه الكلمة تكأة للفقهاء في منعها.
وكان الفقهاء في بعض الأزمنة يمنعون المرأة الشابَّة، ويسمحون للكبيرة، ثمَّ جاء الفقهاء المتأخِّرون، ومنعوا الشابة والعجوز، وقال قائلهم: لِكُلِّ سَاقِطَةٍ فِي الْحَيِّ لَاقَطِةٌ وَكُلُّ كَاسِدَةٍ يَوْمًا لَهَا سُوقُ
والعجيب أنَّهم قالوا: تُصلِّي في بيتها، وعلى أبيها أو زوجها أن يُفَقِّهها في الدِّين. ولكن إذا كان الأب أو الزوج نفسه في حاجة إلى من يُعَلِّمه أو يُفَقِّهه في الدِّين، فكيف يُفَقِّهُ غيره؟! وفاقد الشيء لا يعطيه، وقد ضلَّ من كانت العميان تهديه!