عصام تليمة

هناك كتب تمثل علامة مهمة في تاريخ التأليف الفقهي في الإسلام، سواء قديما أو حديثا، من بين هذه الكتب في العصر الحديث، كتاب: الحلال والحرام في الإسلام للعلامة الدكتور يوسف القرضاوي، الذي كان جديدا في طرحه، وجديدا في آرائه، وجريئا كذلك في هذه الآراء والإعلان بها، وقد أصبح بعد ذلك بسبب الكتاب صاحبه يشار إليه بالبنان بين كبار الفقهاء، وكان وقتها يتم التعريف به بأنه: مؤلف الحلال والحرام في الإسلام.

قصة تأليف الكتاب:

ألف الشيخ هذا الكتاب بتكليف من مشيخة الأزهر في عهد الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت ـ رحمه الله ـ وتحت إشراف الإدارة العامة للثقافة الإسلامية في عهد الدكتور محمد البهي ـ رحمه الله ـ وقد أقرته اللجنة المختصة وأثنت عليه. وذلك عندما اقترحت الإدارة العامة للثقافة الإسلامية كتابة عدة كتب تلخص الإسلام، وتيسره لمسلمي الأقليات الإسلامية(1)، بعد أن تقدم عدد من مسلمي أمريكا بطلب إلى الأزهر الشريف، وإلى وزارة الأوقاف المصرية، يشكون فيه قلة الأبحاث التي تعالج قضايا العصر، وبخاصة ما يتعلق بأحكام الأقليات المسلمة، وما يهم المسلم في دول الغرب من حلال وحرام، وقد حُدِّد للشيخ عنوان البحث، على أن يكتب في موضوع: ما يحل للمسلم وما يحرم عليه.

ونشط الشيخ للكتابة، ولكنه في بداية الأمر أحس بثقل الكتابة، وذلك لعدة أسباب، أهمها:

أولا: أن موضوع الحلال والحرام موضوع شائك، كما أنه لم يكتب فيه مباشرة من قبل.

ثانيا: أن الموضوع متناثر في بطون أمهات الكتب، ومن العسير جمع شتاتها.

ثالثا: أن آراء الفقهاء والعلماء تختلف باختلاف توجهاتها الفقهية والفكرية في نظرتهم لقضايا الحلال والحرام.

رابعا: أن هذا المؤلف يعد المؤلف البكر للشيخ، وهو سفيره إلى الناس، فإما أن يرفعه، وإما أن يخفضه، وهذا يجعل المؤلف قلقا عند الكتابة.

بدأ الشيخ في جمع المادة العلمية في ذهنه، وحضر في ذهنه تقسيم الكتاب، من حيث أبوابه وفصوله، وبذلك خف عنه حمل نصف الكتاب، كما يقول الشيخ. ثم ذهب إلى المكتبة العامة بالأزهر ليجمع المادة العلمية من الكتب، فلقيه الشيخ أبو الوفا المراغي(2) ـ وكان أمينا لمكتبة الأزهر ـ وقال له: فيم أنت مشغول يا قرضاوي؟ قال: أنا مشغول بجمع مادة علمية لبحث أكتبه عن الحلال والحرام، فقال له: ولكن هناك شيخا من شيوخ الأزهر الكبار، وهو عضو هيئة كبار العلماء يكتب في نفس الموضوع، وقد كلفته وزارة الأوقاف بذلك ـ ولم يثبط ذلك من عزيمة الشيخ القرضاوي ـ فقال الشيخ: يا مولانا، من الممكن أن يجعل الله سره في أضعف خلقه(3)، قال له: ربما يا قرضاوي، وفقك الله.

وكتب الشيخ الكتاب، وأعطاه للأزهر ليرسل إلى اللجنة المختصة لقرائته، وكان من أعضاء هذه اللجنة الشيخ مصطفى الزرقا، والدكتور محمد المبارك، وأثنوا على الكتاب ثناء كبيرا، وأوصوا بطباعته.

 وبعد أن أعطى الشيخ الكتاب للأزهر، وجد أنهم تكاسلوا عن طبعه، فأخذه ونشره ولم ينتظر أن تنشره الإدارة، وذهب به إلى مطبعة (الحلبي) فعرضوا الكتاب على لجنة الطباعة عندهم وهي من العلماء، وأعجبوا بالكتاب، ونشره الحلبي، وأخذ الشيخ نسخة منه إلى الدكتور محمد يوسف موسى(4) ـ رحمه الله ـ ليعطيه نسخة من الكتاب، فقال له الدكتور موسى: ما هذا يا يوسف؟ قال: هذا كتاب ألفته عنوانه: (الحلال والحرام في الإسلام)، فاطلع عليه الدكتور موسى، فقال له: إن أحد علماء الأزهر الكبار، وهو عضو هيئة كبار العلماء، كلف بكتابة نفس الموضوع، ولا أظنه ينشر كتابه لو اطلع على كتابك، وبالفعل ذهب هذا العالم إلى الأوقاف بعد أن كتب كتابه، وسحب الكتاب الذي قدمه (5)

كيف تلقى العلماء والقراء الكتاب؟

وقد انتشر الكتاب انتشارا منقطع النظير في العالم العربي والإسلامي، وبين الأقليات والجاليات الإسلامية، ونوه به كثيرون من العلماء المرموقين، حتى قال الأستاذ الكبير: مصطفى الزرقاء: إن اقتناء هذا الكتاب واجب على كل أسرة مسلمة، وقال الأستاذ محمد المبارك رحمه الله: هو أفضل كتاب في موضوعه، وكان الأستاذ الكبير على الطنطاوي قرره على طلابه في كلية التربية بمكة المكرمة في مادة الثقافة الإسلامية.

وعني المحدث الشيخ ناصر الدين الألباني بتخريج أحاديثه(6)، وأبدى الشيخ الألباني عدة ملاحظات على بعض الأحكام التي في الكتاب، وكتب الشيخ القرضاوي ردا على ما أثير حول كتاب (الحلال والحرام في الإسلام) سواء ما أبداه الشيخ الألباني أو غيره من العلماء الأجلاء، ورغب الشيخ القرضاوي في نشر ردوده، غير أن أحد أصدقاء الشيخ(7) أقنعه بعدم الرد، وذلك لسببين مهمين:

أولهما: أن كثيرا من الناس قل أن يغير رأيه إلى رأي الآخر، فلكل قناعته بأدلة مذهبه أو ما يعتنق من فكر.

ثانيهما: أن الردود ستزيد من حجم الكتاب، وهذا يعني صفحات أكثر، وأن يرتفع سعر الكتاب، وهذا يجعل القارئ يزهد في شرائه، لأنه سيمثل عبئا ثقيلا على القارئ الغير متيسر الحال.

غير أن الشيخ نشر معظم هذه الردود ـ وإن لم تكن على هيئة ردود ـ في كتابه القيم (فتاوى معاصرة) المهم أن الكتاب حاز إعجاب الكثير من علماء العالم العربي.

منهم الأستاذ عبد الرحيم فودة، الذي هنأ الشيخ على الكتاب قائلا:

أهنئك على كتاب (الحلال والحرام) ـ وكنت أهديته إليه في طبعته الأولى ـ مرتين: مرة على نهجك الجديد الفريد في كتابة الفقه، ومرة أخرى: أنك لم تجامل شيخ الأزهر الإمام الأكبر-الشيخ شلتوت- في آرائه حول التوفير وغيره(8).

وفي باكستان نوه به العلامة الأستاذ أبو الأعلى المودودي في رسالة خاصة إلى المؤلف، كما اهتمت به الأقسام الأكاديمية للدراسات الإسلامية في جامعتي (البنجاب) و (كراتشي).

وفي أوائل الستينات قدمت الدارسة جميلة شوكت (د. جميلة شوكت بعد ذلك) إلى قسم الدراسات الإسلامية بجامعة البنجاب دراسة عن الكتاب باعتباره نموذجا جديدا في كتابة الفقه الإسلامي، وقد حصلت بدراستها تلك على (الماجستير)، وكان المشرف عليها العلامة علاء الدين الصديقي رئيس الجامعة بعد ذلك. كما قدم طالب آخر من جامعة كراتشي دراسة أخرى عن الكتاب.

وطبع الكتاب ما لا يقل عن خمسين مرة بالعربية، حيث تطبعه أكثر من دار نشر بالقاهرة وبيروت، والكويت، والجزائر، والمغرب وأمريكا. هذا عدا الطبعات المسروقة التي يصعب تتبعها وحصرها.

كما ترجم الكتاب إلى الإنجليزية والألمانية والأردية والفارسية والتركية والماليزية والإندونيسية والماليبارية والسواحلية والأسبانية والصينية، والرومانية وغيرها.

وكتبت كتب للهجوم على الكتاب ومؤلفه (القرضاوي)، واتهموه بأنه لم يحرم شيئا، فقد أحل كل شيء، وقالوا: كان المفترض أن يسمي كتابه: (الحلال والحلال في الإسلام)، فرد عليهم القرضاوي مازحا: بل عليكم أنتم أن تكتبوا كتابا بعنوان: الحرام والحرام في الإسلام، فأنتم تحرمون على الناس كل شيء، وتمر السنوات، ونرى تغيرا هائلا في البلاد التي كتب مشايخها ودعاتها يهاجمون القرضاوي وكتابه، والتيسير الذي تبناه في القضايا الفقهية، لنراهم يهرولون وراء ولي الأمر، ويغيرون آراءهم لما هو أكثر من آراء القرضاوي، ويتهمون القرضاوي بالتشدد حاليا!!

بدأ الشيخ كتابه ببيان عدة قواعد مهمة لمن يكتب في موضوع الحلال والحرام في الإسلام، وهي: الأصل في الأشياء الإباحة ـ التحليل والتحريم حق الله وحده ـ تحريم الحلال وتحليل الحرام قرين الشرك بالله ـ التحريم يتبع الخبث والضرر ـ في الحلال ما يغني عن الحرام ـ ما أدى إلى الحرام فهو حرام ـ التحايل على الحرام حرام ـ النية الحسنة لا تبرر الحرام ـ لا محاباة ولا تفرقة في المحرمات ـ الضرورات تبيح المحظورات. بهذه القواعد بدأ كتابه، وهي قواعد جد مهمة لمن يطرق باب الحديث عن الحلال والحرام.

ثم تناول الشيخ في كتابه معظم القضايا التي تهم المسلم في حياته، مما يحل أو يحرم: في حياته الشخصية: في الأطعمة والأشربة، وفي الملبس والزينة، وفي البيت، وفي الكسب والاحتراف. وفي مجال الزواج والأسرة وما يتعلق بهما من أحكام، وما يتعلق بحياته العامة من حل أو حرمة. كل ذلك في ضوء منهج التيسير في الرأي الفقهي.

هذه نظرة موجزة جدا على الكتاب، ولا يتسع المقام لتفصيل فالكتاب يحتاج أن يفرد بدراسة مستقلة.

...............

*عن موقع الجزيرة مباشر، 17 مايو 2019

(1) ولذلك نقد الأستاذ محمد عبد الله السمان كتاب (الحلال والحرام في الإسلام) في نقطة واحدة بعد أن عرض الكتاب عرضا رائعا في مجلة (الأزهر) سنة 1961م، وهي: أن الشيخ القرضاوي كتب كتابه لمسلمي الأقليات المسلمة، فما الداعي من ذكر الخلاف بين العلماء في كثير من القضايا، والمسلم غير العربي ليس معنيا بالخلاف ولا علم له بالمذاهب الفقهية، فكان ينبغي أن يكون الكتاب مقتصرا على ذكر الراجح فقط. تلك كانت ملحوظة الأستاذ السمان، وقد صارت في غير موضعها الآن لأن الكتاب عم نفعه على العرب قبل العجم.

(2) من علماء الأزهر الشريف، وهو شقيق الإمام الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي، شيخ الأزهر سابقا.

(3) مثل مصري يقال عندما يستكثر الناس على إنسان أن يفعل شيئا كبيرا، وهو ـ كما يراه الناس ـ دون ذلك.

(4) من علماء الأزهر النابهين، فقد كان ضليعا في عدة ميادين من العلم، فقد كان عالما بالفسلفة الإسلامية، وبالشريعة، رحمه الله، وهو من الشخصيات التي تأثر بها الشيخ القرضاوي.

(5) وهذا يدل على خلق الرجل، وهذا مثال نادر في أخلاقيات أهل العلم الآن، فكم من كتب طلعت بعد كتاب الشيخ، ولم تشر من قريب أو بعيد إلى فضله، فضلا عن الهجوم الحاد للكتاب.

(6) كما خرج كتاب (مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام) للشيخ القرضاوي.

(7) هو الناشر الإسلامي المعروف الحاج وهبة حسن وهبة.

(8) انظر: فوائد البنوك هي الربا الحرام ص115 طبعة المكتب الإسلامي ـ بيروت.