لا أحد كبير على الخطأ

- هل يمكن أن نقول: إن الإمام يوسف القرضاوي قد وقع فيما حذر منه يوما وأفتى بفتاوى شاذة؟

*لا أحد كبيرٌ على الخطأ، وكل يؤخذ منه ويترك، والكمال لله وحده، نعم هناك فتوى قد شاركت فيها مع بعض الإخوة، قد تدخل في باب الشذوذ، إذ إنها لم تُصوِّر الواقع تصوُّرًا صحيحًا كما يراه الكثيرون.

هذه الفتوى لم يوجَّه إليَّ سؤالها أساسًا، إنما وجهه أخونا العالم الأصولي المعروف الدكتور طه جابر العلواني، من أمريكا التي يعيش فيها، ويرأس (المعهد العالمي للفكر الإسلامي)، في واشنطن، وجامعة العلوم الاجتماعية الإسلامية، ومجلس الفقه الإسلامي، وقد وجه هذا الاستفتاء عندما وقع حادث 11 سمبتمر 2001 الشهير، الذي ضُرِب فيها برجان بنيويورك، ووزارة الدفاع في واشنطن وغيرها، وكان وقع الحدث هائلًا، على الناس في العالم كله، وبالأخص على المسلمين في داخل أمريكا.

كان ينبغي على العلواني في مجلسه الفقهي أن يجيب هو عن السؤال، فأهل مكة أدرى بشعابها، ولكنه أراد أن يبرأ من التبعة ويتحملها غيره، فوَّجه السؤال إلى صديقينا وصديقه: د.محمد سليم العوا. وطلب منه أن يستشير إخوانه الذين من حوله حول وضع الجنود المسلمين أمريكيين الذين يعملون في الجيش الأمريكي: هل يستقيلون من عملهم أم يبقون فيه؟ وبخاصة أنهم يتوقعون أن يُكَلَّفوا بالاشتراك في حروب قد تشنها أمريكا على بعض بلاد المسلمين، فحينئذ قد يتورطون في قتل مسلم لا ذنب له. والذي يخشى من وراء الاستقالة: أنها إذا قُدِّمت بصورة جماعية أو شبه جماعية، كأن يتقدم عدة آلاف مرة واحدة، قد يُظَن أن المسلمين لا يُكِنُّون أي ولاء لأوطانهم التي ينتمون إليه، وهذا التصور إذا شاع يضر بالمسلمين، ويجعلهم طائفة شبه معزولة أو معادية لوطنها في نظر الأكثرية المخالفة. استشار الدكتور العوا إخوانه من أهل العلم والرأي في الموضوع: المستشار طارق البشري، الأستاذ فهمي هويدي، والدكتور هيثم الخياط، وكتبوا ردًّا على الفتوى يتضمن جواز بقاء الجنود المسلمين في مواقعهم في الجيش الأمريكي، وعدم استقالتهم منه، لما يترتب على الاستقالة الجماعية من مخاطر وآثار لا تحمد عقباها. وإذا كُلِّفوا بالمشاركة في حرب لشعب مسلم، فعليهم ألا يعتذروا حتى لا يتهموا في وطنيتهم، كما عليهم أن يجتهدوا ألا يبدؤوا بقتل مسلم، إلا إذا اضطروا إلى ذلك، بحكم أنهم حينئذ في جيش له قيادته وواجباته. إلى آخر ما ذكر في هذه الفتوى، التي أرسلها الدكتور العوا إليَّ في دولة قطر، لأرى رأيي فيها، وأوقِّع عليها، وقد وافقت عليها في الجملة، بعد أن عدلت فيها بعض العبارات، وهذَّبت فيها بعض الجمل، مع الإبقاء على جوهرها. وقد لامني بعض الإخوة لومًا شديدًا على موافقتي على هذه الفتوى، قائلين: كيف توافق على أن يقاتل المسلم أخاه المسلم، ويضربه بالقنابل والصواريخ، وغير ذلك من الأسلحة المتطورة التي تملكها أمريكا؟ ولستَ في حاجة أن نذكرك بالأحاديث الصحيحة الصريحة المتفق عليها، التي تجعل هذا القتال كفرا، ومن أعمال الجاهلية، والجيش الأمريكي يعطي لكل جندي الحق أن يعتذر عن الاشتراك في حرب ما إذا كان ضميره غير مطمئن إلى هذه الحرب من الناحية الدينية والأخلاقية أو غيرها، فلم يعد الجندي المسلم مجبورًا على الاشتراك في الحرب، وقد سمعنا منك مرارًا: أن الدين والوطن إذا تعارضَا، قُدِّم الدين، فالولاء في الدين للدين مقدم على كل ولاء. والقرآن الكريم صريح في ذلك كل الصراحة، وهو يقول: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (المجادلة:22).

وأرى أن موافقتي على هذه الفتوى التي أقرها عدد من الإخوة الفضلاء المشغولين بالشأن الإسلامي والشأن العالمي، مردها إلى عدم معرفتي معرفة كاملة وواضحة بالواقع الأمريكي، وأن من حق الجندي في الجيش أن يعتذر عن عدم مشاركته في الحرب ولا حرج عليه. وأنا أعتذر عن الموافقة على المشاركة في هذه الفتوى، وأسأل الله أن يغفر لي.

فقيه الثورة وفقيه الدولة

- ظهرت في الآونة الأخيرة مع التحولات التي حدثت في الكثير من الدول مصطلحات مثل فقيه الثورة وفقيه الدولة، ما تعليقكم على ظهور هذه المصطلحات؟

*هذه الاصطلاحات وإن نشأت بعد ثورات الربيع العربي، إلا أن معناها موجود عبر تاريخ الأمة، بل موجود مع وجود الحق والباطل، هناك علماء يدورون مع الحق حيث دار، وهؤلاء هم من قال الله فيهم: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} (الأحزاب:39). وهناك آخرون {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} (البقرة:79).

والخطر كل الخطر في ضعاف النفوس، ومرضى القلوب، من علماء الدين، الذين يزينون للناس سوء أعمالهم فيرون حسنا، رضوا أن يجعلوا العلم خادما للسياسة، وأن يبيعوا الدين بالطين، وأن يكون العلماء أبواقا للسلاطين، وإخوانا للشياطين، وهؤلاء لا يستحون أن يغيروا جلودهم في كل حين كالثعابين، وأن يلبسوا لكل حالة لبوسها غير متورعين ولا خجلين، فهم مستعدون لأن يحللوا ما حرموه من قبل، وأن يحرموا ما حللوه، لا تبعا للدليل والبرهان، ولكن تبعا لتغيير السلطان، فلكل مقام مقال، ولكل زمان دولة ورجال، ومقالهم جاهز لكل مقام، وهم دائما رجال كل دولة وكل زمان!

هذا الصنف الخبيث يحاط عادة بهالة من الدعاية تستر جهله، وتغطي انحرافه، وتنفخ فيه ليكون شيئًا مذكورًا، وتحدث حوله ضجيجًا يُلفت إليه الأسماع، ويلوي إليه الأعناق، وإن كان هذا لا يجعل من جهله علمًا، ولا من فجوره تقوى، ولكن:

كمثل الطبل يسمع من بعيد وباطنه من الخيرات خال

إنها تسير في ركب السلطان حيثـمـا حـل أو ارتحل، وتقف مدافعة عنه، تسبح بحمده، وتمجد أفعاله، وتبرر خطاياه، وتلتمس الأعذار لفظائعه، وتتمحل الأدلة الشرعية لجرائمه، وهم ينظرون إلى الشعوب كالرعاع، الذين لا حقوق لهم، ولا قيمة لآرائهم، وما عليهم إلا أن يسيروا كالقطيع، حيث أراد الراعي، ولو إلى الذبح.

لقد رأينا من هؤلاء من أصدروا فتوى مطولة مفصلة، معللة مدللة، بتحريم الصلح مع العدو الغاصب لأرض المسلمين، دامغين بالفسق بل بالكفر، وخيانة الله ورسوله والمؤمنين من يستحل ذلك من الزعماء والحكام، ولم تمض سنوات قلائل حتى أصدر هؤلاء أنفسهم فتوى أخرى مناقضة للأولى، تجوز ما منعوه، وتحلل ما قد حرموه من الصلح، ولم يتغير شيء في الموقف إلا تغير رياح السياسة، وأهواء الحاكمين.

وقام في كل عصر حراس أيقاظ، يحملون علم النبوة، وميراث الرسالة، يورثونه للأجيال، مشاعل تضيء، ومعالم تهدي، من العلماء الراسخين الربانيين، الذين يقولون الحق، ولا يخشون في الله لومة لائم، الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصديقًا لتلك النبوءة المحمدية، والبشارة المصطفوية: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين". (يتبع)