أحمد البان*

بين الاثنين حقب ودهور كما بين المضافين "العصا والإصبع" في سياق الورود فروق، لكنها ليست فروقا "قرافية" في نظر البعض، ومن ذلك البعض كاتب هذه الكلمات، لذلك وجد مستندا للجمع بينهما بواو دالة على مطلق الجمع؛ الجمع بين عصا تهتز كأنها جان طربا بـ"كلمات و"أنغام" حركت لواعج شيخ بلغ من عمره ثمانين سنة قضى أكثر من ثلثيها في معركة النهوض بأمة بلغت الودجين في التخلف والانحطاط، وما يزال جواده يركض بين النافرين، وبين إصبعِ مجاهدٍ بطلٍ ظلَّت مشيرةً نحو السماء ضراعة لرب قوي، تأخذ للدعوة بمجامع الطرق قبل أن تمسك بمقبض السيف تحت عجاج الهيجاء الضروس.

أعرفت الآن لم أضفت الاسمين العصا والإصبع وجمعت النبيلين القرضاوي وابن واسع، سأنبئك بتأويل الجمع والإضافة ولكن بعد أقص لك القصتين.

قصة ابن واسع رواها غير واحد، ومنهم ابن قتيبة في عيون الأخبار، قال: حدّثني محمد بن عبيد قال: لما صافَّ قتيبة بن مسلم التّرك وهمَّ له أمرهم سأل عن محمد بن واسع ما يصنع؟ قالوا: هو في أقصى الميمنة جانحٌ على سِيَّة قوسه يُنَضْنِضُ بإصبعه نحو السماء. فقال قتيبة: تلك الإصبع الفاردة أحبّ إليّ من مائة ألف سيف شهير وسنان طرير. فلما فتح اللّه عليهم قال لمحمد: ما كنت تصنع؟ قال: كنت آخذ لك بمجامع الطرق.

أما قصة القرضاوي التي أوحت فكرة هذا المقال، فقد وقعت قبل أربع سنوات، حيث زار الشيخ موريتانيا لأول مرة، ونظمت له جمعية المستقبل للدعوة والثقافة والتعليم أمسية جماهيرية، وكان ضمن فقرات الأمسية نشيد (لا تحلم بالحل السلمي... انس الأحلام)، وقد انفعل الشيخ بكلمات النشيد وهي تستنفر القاعدين:

قم غادر بيتك لا تقعد واحمل ألغام

ودع الكرسي لمن جبنوا ودع الأوهام

فستكتب بالدم الغالي يحيى الإسلام

ويتابع المنشد في اتساق كامل مع القاعة المهتزة بهتافات التكبير والإعجاب:

قد قتل عدوك إخوانك فانهض للثار

واثأر لشقيقك وصديقك واثأر للجار

واثأر لكرامة أمتنا قم وامح العار

وهنا نهض الشيخ حاملا عصاه، يهزها بأناة ملتهبةٍ في وجه الجماهير التي أسرتها تلك اللحظة الوجدانية الفارعة، ووقفت الجماهير لوقفة الشيخ.

لقد كانت تلك الوقفة اختصارا عمليا لمشروع فكري راشد حمله الشيخ وإخوته من علماء الأمة المعاصرين وتربت عليه أجيال الصحوة الإسلامية، كما جسده ابن واسع وابن المبارك وغيرهما من علمائها الزهاد المجاهدين، مشروع فكري حضاري يؤكد أن الإسلام دين فاعلية وحيوية قانتة، وهو مشروع يكره التطرف ولكنه لا يقبل الاستسلام.

يجمع بين العصا والإصبع أن كل واحدة منهما تحدو قافلة الخير والدعوة إلى فجرها الموعود، فإصبع ابن واسع تحفظها وتحوطها برعاية الله وتبعث في قلبها السكينة فتخبت في وقار مؤذن في منهج الدعاة بقدرة تخطيطية وحماس ميداني، وعصا القرضاوي تبعث في تلك السكينة القلبية روحا تنهضها عن الخمول وتَزَعُها دون التطرف، فتمخر السفينة ثبج بحر الحياة بريح طيبة رخية.

ثم هي وشيجة القربى الروحية بين الانفعال بأطياف الدعاء وبين الاستئسار لألحان الغناء، أليس كل منهما استجابة لنداء روحي وأمارة شفافية هي نقيض القسوة والجفاء؟ بلى. وأيم الله إن أولئك الأفذاذ الذين يجمعون بين صدق الإيمان وأصالة الفكر وشفافية الوجدان؛ إن أولئك هم بناة الأمم وروافعُ التغيير في الشعوب.

إن قتيبة وهو القائد الذي تفرَّسه المهلب واختبره الحجاج، لم يحتف بالمرتقى الروحي العالي الذي ترمز له تلك الإصبع المشيرة نحو السماء فقط ـ رغم ما فيها من بركة وخير وأمارة توفيق وصلاح، ولكنه انفعل بالتكامل الخلاب الذي مثَّله إخبات ابن واسع وسكينة قلبه الموصول بالله في موقف تنخلعُ لهوله قلوب الشجعان، فلم يكن ابن واسع يفعل ذلك وهو في خلوة هادئة وبال مستريح، بل كان يرفع إصبعه الخاشعة وهو"جانحُ على سيَة قوسه"، آخذ مكانه في صف المجاهدين، راضية نفسه بإحدى الحسنيين؛ نصرٍ مؤزر أو شهادةٍ باذخة ترفعه لعليين.

وكم من إصبع تنضنض نحو السماء ولكن صاحبها ما أحقَّ حقا ولا أزهق باطلا، فما نفعُ الأمة بعبادته ونسكه!

ولم تهتز عصا القرضاوي خفةً ولا هزلا، معاذ الله، بل هي حداء دعوي للملايين من أبناء الصحوة الإسلامية، رسالتها أن الإسلام دين فكر وانفعال ووسطية واعتدال، هي رسالة الشيخ الذي أفنى شبابه واكتهاله وشيخوخته في التربية والتوجيه والتجميع؛ رسالته العملية لشباب الأمة أن خُذوا مكانكم في قافلة التغيير وأجِمُّوا نفوسكم كي تقوى على مغالبة الباطل ومصابرة يوميات إحياء السنن وإماتة البدع.

 كما تعبر عصا الشيخ عن فهم عميق للمسألة التربوية، إحدى قواعده الأساسية أن للنفس البشرية مداخل تربويةً عديدة، منها الوعظ الذي يحيي القلب والفكر الذي ينير العقل والعاطفة التي تدفع للتضحية، وكم من أثر تربوي عميق بعثته قوافٍ صادقة يرددها منشدٌ عرف رسالته فأنحى على القلوب المؤمنة يزرع فيها القيم ويبث فيها الحماس!

وإدراك المعنى التربوي للإنشاد وما يبعثه من عاطفة إيجابية تنسي تعب المهمة وهول المعركة قديم، فقد كان لكل بطل رجز ينشده أثناء المعركة، وقد ارتجز النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، ولأصحابه أراجيز وأشعار في ذلك المقام.

كما هما موقفان تزكيهما وترفع نسبتهما إلى عهد النبوة قولة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رأى أبا دجانة رضي الله عنه يتبختر في زهو أمام المشركين يوم أحد، فقال: "إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن".

إن بعض القيم يأخذ دلالة مغايرة حسب سياقه ومقامه، فالتكبر في أصله خلق ذميم، ولكن العلماء ذكروا مواقف يكون فيها التكبر قيمة إيجابية، وذلك كأن يتكبر المؤمن على المستكبرين والمتجبرين بقوة السلطان والمال، ولذلك قال محمد مولود الشنقيطي رحمه الله:

واكْبُرْ على الغني والمستكبر

ولله شهيد الأمة سيد قطب رحمه الله، لقد رمى بها مجلجلةً في وجوه الطغاة: "إن كنت سُجِنتُ بحق فأنا أرضى بحكم الحق، وإن كنت سجنت بباطل، فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل".

إن الأمة اليوم بحاجة إلى هذا التكامل التربوي المتمثل في قلب موصول بالله ورجل راكضة في الميدان، إيمان يحدد غاية السير، وفكر يرسم خطى الرحلة، وعاطفة تُسْتَسْهَلُ بها العقبات وطول الطريق .

.....

* كاتب وشاعر وداعية من موريتانيا، والمقال يرجع للعام 2014 عن صحيفة الأخبار الموريتانية.