25 يناير سنة 2011م.. ثورة شعب

تحميل الكتاب

مقدمة

 

ربنا لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئتَ من شيء بعد، وصلاة وسلاما على رحمتك المهداة، ونعمتك المسداة، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومَن اتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

(وبعد)

فقد اقترح عليَّ عدد من الإخوة والأصدقاء في قطر وفي مصر وفي غيرهما، ومنهم أ. د. محمد خليفة حسن مدير مركز القرضاوي للوسطية الإسلامية والتجديد، وأعضاء المركز، ورابطة تلاميذ القرضاوي، وغيرهم: أن تُجمع أفكاري ومواقفي وبياناتي وخطبي وفتاواي، حول ثورة مصر الشبابية التحريرية الكبرى، التي عُرفت بثورة 25 يناير 2011م، والتي اتَّخذت ميدان التحرير بالقاهرة مقرًّا لها، مع مقارِّها في سائر محافظات مصر، والتي انتهت بالنصر في 11 فبراير 2011م.

 

وقال الإخوة: إن مواقفك في تأييد هذه الثورة ومساندتها، والاحتجاج لها، والدفاع عنها من أول يوم، من الوضوح والقوَّة والتنوُّع والكثرة، بحيث لا تخطئها عين، ولا تنكرها أذن، ولا يجحدها مراقب، ولكن من الخير أن نجمعها ونوثِّقها، ونقرِّبها للناس، حتى لا يأتي بعد ذلك مَن يحاول أن يخطفها أو يجحدها أو يُزوَّرها  ويدَّعيها لنفسه، أو لفلان وعلاَّن من الناس، ممَّن ليس له في الثورة نقير ولا قطمير، ولا هو في العير ولا في النفير.

 

وكنتُ متردِّدا في أول الأمر، ولكن بالمناقشة والتأمُّل، تبيَّن لي صواب هذا الأمر، لعدَّة أسباب:

أولها: أهمية التوثيق، وهو الآن سهل، ومصادره موفورة، من وسائل الإعلام، ومن الشباب الذين شاركوا في صنع الثورة، ومَن ناصرهم.

وهذا التوثيق مهم للمؤرِّخ الذي يكتب بعد ذلك، في تاريخ هذه الثورة والعناصر المؤثِّرة في نجاحها، والعقبات التي وقفت في طريقها، والذين حاربوها بفتاويهم ومقالاتهم ومناوراتهم، والذين دافعوا عنها، كما أن هذا التوثيق مهم لي أنا شخصيا، فقد أنسى هذه المواقف وتختلط في ذاكرتي، وتضيع معالمها، فمن الخير أن أسجِّلها مجتمعة.

 

ولقد أتيح لي في زيارتي لمصر لجمعة النصر أن ألتقي ببضعة عشر شابًّا، ممَّنْ شاركوا في صنع الثورة من أول يوم، إلى أن حقَّق الله النصر، وقد زاروني في منزلي، وحدَّثوني بصراحة وصدق، وكيف مرَّت عليهم ساعات كاد يصيبهم الإحباط، وكيف كانت كلماتي وبياناتي وخطبي وأدعيتي ومواقفي تمدُّهم بعزائم ونفحات وبيِّنات، تشدُّ أزرهم، وتسند ظهرهم، وتقوِّي حججهم، وتفتح لهم أبواب الأمل والرجاء.

 

ومما ذكروه لي ما رأوه بأعينهم في يوم الجمعة، الذي أعلنتُ قبله فتواي بفرضيَّة ذهاب كلِّ مسلم لا عذر له إلى ميدان التحرير؛ لمساندة إخوانه هناك، وتقوية ظهورهم، بعد الفتاوى الشهيرة التي حاولت صرف الناس من حولهم، وصد الشباب عنهم، وكيف شاهدوا أثر ذلك، منذ الليل يأتيهم الناس من كلِّ فج عميق، حتى صلاة الجمعة، وكان هذا فتحا من الله انجلت به غشاوة الإحباط والقنوط.

 

وفي يوم الجمعة 11 فبراير- وقد أصاب الناس اليأس بعد خطاب مبارك- حين شاهدنا وسمعنا خطبتك في الشاشات الموزَّعة في الميدان، وأنت تقسم إن الثورة منتصرة، {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:172، 173]، دخل علينا يقين أن الثورة غالبة.

 

قالوا: ولا زلنا نذكر أوَّل خطاب لك لمبارك في أوائل الثورة، وأنت تقول له بكلِّ قوَّة: ارحل يا مبارك على رجليْك، قبل أن يُجبرك الشعب على الرحيل رغم أنفك.

الحقُّ أنّ الله تعالى جنَّدك لتحرس هذه الثورة ببيانِك وعلمك، في مواجهة مَن أرادوا اغتيالها في مهدها، ولولا تجنيد الله لك ما بلغتْ مداها. لقد كان هؤلاء الشباب الأطهار يحدثونني ودموعي تسيل على خدودي؛ فرحا بفضل الله ونعمته عليَّ، {ومَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَة فمِنَ الله} [النحل:53]،  {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [ يونس:58]، {وأمّا بنعْمَةِ رَبِّكَ فحَدِّث}  [الضحى:11].

 

ثانيها: أن تأخذ الأجيال العبرة من هذه الثورة المعلِّمة، وما تركته من رصيد تربوي للأجيال المصرية، وغير المصرية أيضا، حيث كانت الثمانية عشر يوما في ميدان التحرير، مدرسة في تعليم الإيثار والبذل والتضحية، بعد أن كان هؤلاء المعتصمون مثلا يُحتذى في الصبر والاحتمال وحسن السلوك، لم يعتدِ واحد على الآخر، لم يُعاكس شاب فتاة، ولم يختصم زميل مع زميله، بل يجوع الواحد ليشبع أخوه، ويعرى ليتغطَّى أخوه، ويعرِّض صدره للرصاص ليحمي أخاه، وخصوصا في أوقات الشدائد، مثل يوم وقعة البغال والجمال والخيول، ويوم إحاطة القناصَّة بالميدان، يقتلون الناس بغير حساب.

 

ثالثها: انتهاز هذه الفرصة لتقديم (فقه الثورة) أو (فقه الثورات) للأمة، من خلال هذه التجربة العملية، التي دخل فيها بعض مشايخ الدين، دخولا كاد يضلِّل شباب الثورة عن طريقهم الصحيح، حين زعموا أنهم {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104]، وأنهم أيقظوا الفتنة النائمة، ولعن الله مَن أيقظها، وأنهم وقفوا ضدَّ الشرعية، وأنهم يدعون إلى الفوضى وعدم الاستقرار، وأنهم... وأنهم... لولا أن الله ألهمنا أن نردَّ هذه المتشابهات بالمحكمات البيِّنات. والحقُّ أبلج والباطل لجلج، {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].

 

لقد أدرك الدارسون والمراقبون للثورة من أول أيامها، أن أشدَّ الأخطار عليها، ما تُثيره المؤسسة الدينية الرسمية حولها من شبهات، بل ما توجِّه إليها من اتهامات، من الخروج على ولي الأمر الشرعي، والدعوة إلى الفتنة، وإثارة الفوضى، وحمل فكر الخوارج، الذين يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة، ونحن أمة دينية تؤثِّر فيها كلمة الدين، والرأي الشرعي أكثر من أيِّ شيء آخر.

 

وساند الرأي الرسمي كثير من الفئات الشعبية، من السلفيين والصوفيين، الذين اتَّفقوا في هذا الموضع، رغم الاختلاف الدائم بينهما؛ لهذا كان رأي القرضاوي الذي دافع عن شباب الثورة، وحقِّهم في التظاهر السلمي، وهو نوع من الجهاد بالكلمة، "أفضل الجهاد كلمة حقٍّ عند سلطان جائر"، وغير ذلك من النصوص، كان أمضى سلاح، وأقوى ردع تدافع به الثورة عن نفسها.

 

ومن بركات الفقه الذي أشاعته الثورة وثبَّتته، ما قلناه وكرَّرناه بين الناس: وهو تحريم قتل المتظاهرين والمحتجِّين المسالمين، فمَن أطلق الرصاص على واحد منهم لا يحمل سلاحا، فقد ارتكب كبيرة من أعظم الكبائر، وهو مستوجب للعنة الله وغضبه، وأعدَّ له عذابا عظيما. ولا يعفيه من الاثم أن يصدر إليه الأمر من رئيسه المباشر؛ لأن رئيسه يخالف القانون، ويخالف الشرع، إذ لا يوجد قانون يجيز إطلاق الرصاص على مسالم، وقول الشخص: أنا عبد مأمور. ليس عذرا له. وفي الحديث الصحيح: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبَّ وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أُمِر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".

 

رابعها: تصحيح مفاهيم مغلوطة لدى كثير من الناس، تكونت بالوهم لا بالبيِّنة والبرهان، مثل ما نسج حول نزولي إلى القاهرة لإلقاء خطبة (جمعة النصر) في ميدان التحرير، التي استقبلها كلُّ (أبناء مصر) مسلمين ومسيحيين، بالترحيب والتهليل والتكبير، كما شهد بذلك الملايين، وما قاله مَن قال من تشبيه ذلك بعودة الخميني إلى طهران.

 

وقد ذكر الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل -وهو رجل أحترم قلمه ورأيه السياسي- أني أقحمت نفسي على الثورة، مع أني لم أشترك فيها، ولم أكن من رموزها، وكان أحرى بي أن أبتعد عن مسرحها! ويؤسفني جدًّا أن أسمع هذا الكلام من هيكل، برغم أنه يعتبر نفسه مؤرِّخا للحركة السياسية في مصر، فإذا كانت هذه رؤيته، فإنها رؤية بائسة قاصرة وعاجزة عن رؤية العناصر الحقيقية والأساسية، التي كان لها دورها في إشعال الثورة، وفي تثبيت الثورة ضدَّ مَن أراد اغتيالها بالفتاوى الشرعية، والبيانات الدينية، حتى من كبار شيوخ الأزهر ومفتي مصر، وكثير من السلفيين والصوفيين، وقد علم الناس وشباب الثورة مَن الذي وقف بقوَّة وأصالة في وجه هذه الحملة الظالمة، ومن أبطل هذه الفتاوى بالبيانات والأدلَّة، ودافع عن الثورة وشبابها ومواقفهم؟

 

كنتُ أودُّ أن تكون دراسة هيكل للثورة وجذورها وأسبابها العميقة، وشيوخها المحرِّكين لها، ومراجعها الأصلية، التي يستند إليها، ويعولون عليها، بدل نظريته السطحية، التي تنظر من بعيد، ولا تكاد ترى شيئا! وأحمد الله أن أبناء الشعب المصري عامَّة، كانوا أصدق حسًّا وأكثر وعيا بدوري وموقفي من الأستاذ هيكل. لقد عرَفوا موقفي، وشهدوا به، وعبَّروا عنه، ولله الفضل والمنَّة.

 

وقد تجلَّى ذلك بكلِّ وضوح في يوم جمعة النصر، وفي استقبال شباب ميدان التحرير، كلِّ الشباب -وهم بالملايين- للقرضاوي وتحيَّته التي استمرَّت لدقائق، وهذا مسجَّل في القنوات المصرية والجزيرة وغيرها.

وقد قال لي هؤلاء الشباب من صناع الثورة: نريد أن نُسرَّ إليك بحقيقة لمسناها بأنفسنا، وهي أن العدد الذي زاد على أربعة ملايين في ميدان التحرير يوم جمعة النصر، منهم عدد كبير جاء من أجلك، والاستماع إليك، من الإسكندرية والغربية وسائر محافظات الوجه البحري والصعيد.

 

ويبدو أن هيكل -والمفروض أنه يقوم بدور المؤرِّخ- لم يتابع دور القرضاوي في الثورات العربية كلِّها، في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا، حتى سمَّاه بعضهم (أبو الثورات) ، ولقد أنصف الكاتب المعروف الأستاذ قطب العربي، حين ردَّ على هيكل بالمنطق القوي، الذي لم يجد معه ما يقوله.

 

والحقيقة التي يعرفها كثيرون من المشاركين في الثورة، حتى من غير الإخوان: أني عزمتُ على الحضور للمشاركة في ميدان التحرير، رغم ظروفي الصحيَّة، قبل ذلك بأسبوعين، ولكن الإخوة في مصر من الإخوان وغيرهم، نصحوني ألا أحضر الآن، حتى لا يتخذ حضوري لحسبان الثورة على الإسلاميين عامة، وعلى الإخوان خاصة؛ وهي الفزَّاعة التي يفزِّعون بها الغرب، وقد استجبتُ لهم.

 

خامسها: كان الإخوة القائمون بأمر الجهاد في العالم العربي، مهتمين دائما بموقفي، وضرورة التنبُّه له، والتنبيه عليه، والتمسُّك به، من أمثال أبي الوليد خالد مشعل، ورمضان عبد الله شلّح، ومنير شفيق، وبشير نافع، ومَن سار على دربهم.

 

وقد اتَّصَلَ بي عدد منهم أكثر من مرَّة، يريدوني أن أخطب الجمعة في ميدان التحرير، فكنتُ لا أريد أن أفرض وجودي فرضا على الشباب الموجودين في ميدان التحرير، واتَّصِلُ ببعض القيادات، مثل: الدكتور محمد سليم العوا، والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، والدكتور عصام العريان، فيتحدَّثون بعضهم مع بعض، ومع إخوانهم، فترى الأغلبية التأجيل إلى حين.

 

إلى أن جاءت الجمعة الفاصلة، التي توافق فيها الإخوة في مصر على ضرورة حضوري، وأعتقد أن الخير كان فيما اختاره الله، فهذه الجمعة هي أول جمعة بعد إعلان النتيجة بنتحّي مبارك في آخر الجمعة الماضية، ولا بدَّ أن نتهيَّأ للسفر لها من الدوحة.

 

ولم أكن أعرف مَن الذي سيتهيَّأ لها معي، حتى أخبرني محمد ابني الأكبر أنه سيسافر معي هو وابنتي أسماء وزوجها د. هشام المرسى، وبنتها يُسْر، ثم فوجئتُ حين ركبت الطائرة بأن ابنتي إلهام موجودة للسفر هي وزوجها د. أحمد مكي، وابنته أميرة، وابنه يوسف، فقد وجدوا أماكن في الدرجة الأولى، فحجزوا، وتوكلوا على الله، كما حجزوا في القاهرة في فندق سميراميس حيث يكون مَن هناك كأنما هو في صدر الموقع.

 

وفي يوم الخميس السابق للجمعة مباشرة، وصلنا إلى مطار القاهرة، فاستقبلنا أسامة ابني الذي يعمل في سفارة مصر، ومعه كبار القوم، ويسَّروا لنا الأمور، وكان عبد الرحمن ابني مدعوا خارج القاهرة يومها، وسرعان ما اتصل بي الدكتور العوا، والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، والدكتور إبراهيم تاج، والدكتور صفوت حجازي، وطمأنوني أن الأمور تسير على خير، وأن عليَّ أن استقرَّ في مكاني، وكلُّ شيء سيرتب إن شاء الله على أحسن ما يرام.

 

طمأنوني على أني سأذهب في الصباح مع أبنائي محمد وأسامة، وهشام زوج ابنتي في سيارة مرسيدس صغيرة، وأن بنتي أسماء وبنتها، ومعها ابنتي علا وبنتها وآخرين مرافقين لهم، سيذهبون في باص صغير، إلى المكان المعروف.

 

وعندما وصلنا إلى قرب المكان، اضطررنا أن ننزل من السيارة المرسيدس، ويحوط بنا الشباب الذين كانوا ينتظروننا، وبعد التكبير والتهليل والتحميد، وصلوا بنا إلى المنصة، التي أقيمت في قلب ميدان التحرير، وما أن رآني الناس على المنصة حتى ارتفعت صيحات التكبير والاستبشار، واضطررت أن أقف مواجها للناس في كلِّ الجهات الممكنه، محييا ومكبِّرا ومشيرا، والناس كذلك، حتى أُشير إلى الناس أن يصمتوا، ويتبعوا الأوامر والتوجيهات من المنصة.

 

وكان من حولي الدكتور البلتاجي، والدكتور حجازي، والشيخ محمد جبريل، والشيخ مظهر شاهين، الذي خطب الجمعة الماضية وغيرهم، وكان الميدان شيئا كبيرًا حقًا، أرى أوله من عندي، ولا أرى آخره، أرى يميني يتجه شرقا إلى (الإسعاف) ولا أرى له آخر، وأرى يساري يتجه إلى ناحية القصر العيني، ولا أرى آخره أيضًا، وأرى أمامي النيل، كوبري قصر النيل، والناس يقفون عليه، ويمتدون فيه، ولا أعرف أين يقف أخرهم. هذه ثالث مرة أو رابع مرة أقف فيها أمام هذه الجموع الحاشدة.

 

أول مرة كان في السبيعنات في صلوات الأعياد، التي بلغ أعلاها نصف مليون في عيد الفطر في ميدان عابدين بالقاهرة الذي قدروه العدد فيه بنصف مليون، وتحدث عنه الرئيس السادات بأنهم يقولون عنه: ربع مليون، وهو ليس أكثر من مائة ألف!

 

وبعد ذلك صليت صلاة جنازة في مدينة لاهور في باكستان في أكبر ملعب فيها؛ وذلك في صلاة جنازة الإمام المودودي، وقد ذهبنا إلى هناك، حيث صلينا وصلى معنا الرئيس الباكستاني ضياء الحق، واختارني العلماء الحاضرون من البلاد المختلفة للقيام بالصلاة على الرجل الكبير.

 

وبعد ذلك اتيح لي أن أشارك في مهرجان هندي للاحتفال المئوي لمرور مائة عام لمهرجان جامعة الهند الشهيرة (ديوبند) وقد ذهب إليها نحو مليونين من البشر وقد افتتحته رئيسة وزراء الهند أنديرا غاندي، وكان لي ولغيري من العلماء كلمات، ثم كان هذا المؤتمر الرابع الذي قدره بعضهم بثلاثة ملايين، وبعضهم بأربعة ملايين، وبعضهم بأكثر من ذلك.        

 

سادسها: من المهم أن تتميَّز لدى جماهير الأمة مَن ناصر حقَّها ممَّن خذلها، مَن سار في ركاب الظالمين إلى نهاية الشوط، ثم ألحق نفسه بالثورة كأنه من أبطالها، ومَن رفع راية الحقِّ من أول يوم.

ولقد أخبرني بعض الشباب أن بعض الذين يتكلَّمون باسم الدين، ظلُّوا يناصرون الظالمين وأعوانهم إلى آخر يوم، حتى قال أحدهم: حسني مبارك حفظه الله!! وحبيب العادلي دام ظلُّه!!

والعجيب أنه في اليوم التالي لسقوط الطاغية، خلع ثوب المدَّاحين والمطبِّلين لفرعون وهامان ولبس ثوبا آخر، دخل به ميدان التحرير، كأنه من صنَّاع الثورة!! وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال:"إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فافعل ما شئتَ".

 

وإني لأحمد الله تباركت آلاؤه، وتعالت أسماؤه؛ أن وفَّقني للوقوف مع الحقِّ الناصع، مع هذه الثورات كلِّها، لم أتردَّد ولم أتلعثم منذ ثورة تونس، فثورة مصر، وثورة اليمن، وثورة ليبيا، وثورة سورية، وكلُّ ثورة تتحدَّث باسم الشعب، وباسم الحقِّ والعدل إن شاء الله، ولقد نذرت نفسي لنصرة هذه الثورات، وإن جلبت علي ما جلبت.

 

ولقد حذَّرني بعض مَن أعرف حين كانت ثورة مصر: أني أجازف بنفسي وبمستقبلي في أمر مجهول المصير، وإذا تعرَّضت هذه الثورة للإخفاق والفشل، فإن الأمر جدُ خطير، فقلتُ لصاحبي: الأمر عندي أمر مبادئ وقيم، لا أمر مصالح ومساومات، فقد اتَّضح الحقُّ لي، فلن أتخلَّى عنه، ولو بذلتُ عمري فيه، وما بقي من عمري إلا القليل، ووالله ما استبدل الباطل بالحقِّ، ولا أبيع الدين بالدنيا، ولا أشتري بآيات الله ثمنا قليلا.

 

ولقد ساءني أن أجد أحد إخواني وتلاميذي ممَّن كانوا في قطر سنين طويلة، ثم رجع إلى مصر، اتَّصل بي وقال لي: كيف تناصر ثورة تعمل من أجل البرادعي؟

قلتُ له: أنا لا أناصر ثورة تعمل من أجل البرادعي ولا غيره، ولكن أناصر ثورة تعمل على إسقاط نظام ظالم فاسد؛ نظام { الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ }[الفجر:11، 12]، نظام حسني مبارك وزبانيته ولصوصه وأمنه وبلطجيَّته، ومَن توقَّف -وهو قادر- عن تأييد هذه الثورة فهو من القاعدين الآثمين، على الأقل تأييدها بالكلام والتشجيع والدعاء.

 

إن هذه الثورة، ثورة مصر كلِّها، وليست ثورة البرادعي ولا غيره، على أن البرادعي أو غيره هو خير من مبارك، المهم أن يأتي نتيجة انتخاب حرٍّ لا مزوَّر تزويرا مكشوفا، كما رأينا في الانتخابات الأخيرة في مصر، ولا أكتم القراء: أن بعض إخواني الثقات، نقل إليَّ وهو يرتجف: أن بعض الجهات التي اشتعلت فيها الثورة تبيِّت لي كيدا، وتدبِّر لي أمرا؛ لأنهم يعتبرونني مسؤولا مسؤولية أولية عن قيام الثورة، أو على الأقل عن استمرارها وثباتها.

 

وقالوا لي: يجب أن تحتاط لنفسك، وتأخذ حذرك، وقد علَّمتنا وجوب الأخذ بالأسباب، وأنه لا ينافي التوكل، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ}[النساء:71]، وقد اختفى النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين في الغار، واتَّخذ الحرَّاس، ولبس الدروع، وحفر الخندق وقاية من اقتحام المشركين، وتداوى وأمر بالتداوي، ولك فيه أسوة حسنة.

 

قلتُ: نأخذ الحذر كما اُمرنا، ونتقي الأعداء ما استطعنا، وإن كان الحذر لا يغني من القدر، ونقرأ: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ}[التوبة:51، 52]، وقال تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[آل عمران:54]، {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}[النمل:50]، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:15-17].

 

ومما أحمد الله عليه: أن ظهر في هذا الوقت، مراجعة الطبعة الأولى لكتابي: كتاب أخي الحبيب، وابني المتميز الأستاذ وصفي عاشور أبو زيد (القرضاوي الإملم الثائر: دراسة تحليلية أصولية في معالم اجتهاده للثورة المصرية)، وهو ما لم أكن أتوقعه منه، فلله الفضل والمنة.

 

على أن ما ندعو به الله جلَّ وعلا: أن يختم لنا بشهادة خالصة في سبيله، يغفر لنا بها ما مضى من ذنوبنا، ويكفِّر عنا سيئاتنا، ويتوفَّانا مع الأبرار.

 

اللهم اجعل خير أعمارنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك.

 

                                                                                يوسف القرضاوي