ابن القرية والكتاب.. ملامح سيرة ومسيرة ج3
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع هداه.
أما بعد ...
فهذا هو الجزء الثالث من مذكرات «ابن القرية والكتاب» وملامح سيرته ومسيرته، التي أسأل الله تعالى أن يجعل فيها دروسًا وعبرًا، لمن قرأها، موصيًا قارئي: أن يقتبس مما يراه فيها من خير، وأن يتجنب ما يلحظه من عثرات، ويلتمس لصاحهبا المعذرة، ويدعو له بالمغفرة.
وأود أن أنبه هنا على أن ما كان من جهد وعطاء يجده القارئ في هذه السيرة، فالفضل في ذلك يرجع إلى واهبه سبحانه، ولا أقول إلا ما قال سليمان عليه السلام حين أحضر إليه عرش بلقيس من اليمن - وهو في فلسطين - قبل أن يرتد إليه طرفه: {قَالَ هَٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيّٞ كَرِيمٞ} [النمل: 40].
وما كان في هذه السيرة من قصور أو تقصير، أو خطل في الرأي والتفسير، أو شرود في السلوك والعمل، فمرده إلى نفسي، ولا أقول إلا ما قالت امرأة العزيز: {وَمَآ أُبَرِّئُ نَفۡسِيٓۚ إِنَّ ٱلنَّفۡسَ لَأَمَّارَةُۢ بِٱلسُّوٓءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّيٓۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [يوسف: 53] ، ولا يسعني إلا ما وسع أبانا آدم وأمَّنا حواء حينما قالا: {رَبَّنَا ظَلَمۡنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمۡ تَغۡفِرۡ لَنَا وَتَرۡحَمۡنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} [الأعراف: 23].
وتشمل هذه المذكرات من سنة (1965م)، إلى سنة (1978م) ، وقد وقعت فيها أحداث مهمة على المستوى الشخصي، وأحداث جسام على مستوى الأمة. فعلى المستوى الشخصي: رزقت أبنائي الذكور الثلاثة: محمدًا، وعبد الرحمن، وأسامة، ودخلت بناتي - كما دخل أبنائي بعد - المدرسة، وظهر تفوق الجميع من الصغر، بحمد الله.
وحصلت على الدكتوراه من الأزهر بعد أن كنت أيست منها، وانتقلت من المعهد الديني إلى جامعة قطر، وبدأت أخرج من عزلتي في قطر، لأنطلق إلى آفاق العالم في قارات الدنيا، مدعوًّا من الجامعات والجمعيات والمؤسسات، ومشاركًا في الندوات والمؤتمرات.
وعلى مستوى الأمة: حدثت نكبة حزيران «يونيو» (1967م)، واحتلت إسرائيل ما بين القنطرة والقنيطرة، وحدث انقلاب النميري في السودان، ومحاولة إحراق المسجد الأقصى، وقامت ثورة القذافي (1969م)، وحدثت مأساة أيلول الأسود، ومات جمال عبد الناصر، وتولى السادات الحكم (1970م)، وقضى على مراكز القوى (1971م)، ووقعت حرب العاشر من رمضان (1393هـ)، (6 أكتوبر 1973م)، التي انتصر فيها جيش مصر على إسرائيل، وعبر القناة، واجتاز خط برليف، وإن لم يكتمل له النصر، بما عرف بقصة «الثغرة» وما أعقبها من أحداث. واغتيل الملك فيصل بن عبد العزيز، وزار السادات إسرائيل في سنة (1977م)، ووقّع اتفاقية كامب ديفيد (1978م).
وبدأت الصحوة الإسلامية في الانطلاق والظهور، وخصوصًا بين الشباب والفتيات، وبدأت مسيرة البنوك الإسلامية، وبدأ الكتاب الإسلامي يكتسح سوق الكتب. أحداث كبرى وقعت في تلك المرحلة، سيجدها القارئ في مواضعها عند حديثنا عنها إن شاء الله.
وقد رتبت هذه المرحلة من حياتي على نظام «الحوليات» الذي اتبعه مؤرخونا الإسلاميون الكبار، مثل: الطبري، وابن الأثير، وابن كثير، وغيرهم، وإن كنت قد اخترت أن يكون ترتيبها وفق «السنوات الدراسية» لسهولتها عليَّ، وتمايزها عندي بوضوح.
وقد عرضت هذا الجزء من المذكرات «ابن القرية والكتاب» على عدد من الإخوة والأصدقاء من أهل الفكر والعلم، ليبدوا ملاحظاتهم عليها، ويشيروا عليَّ بما يرونه، فالمؤمن مرآة أخيه، وليس هناك أحد أكبر من أن يُنصح، ولا أحد أصغر من أن يَنصح، ولكن أصدقائي هؤلاء اختلفوا عليَّ كما هو شأن البشر عادة في الأمور الاجتهادية، فمنهم: «المستشار: طارق البشري، والأستاذ فهمي هويدي» من رأى أنني في قسم منها تحولت من كاتب مذكرات إلى مؤرخ، كما في حديثي عن نكبة (1967م)، وعن عبد الناصر، وعن الهضيبي، وعن سيد قطب، ونحوها، ورأوا أن الأولى أن تُحذف هذه الفقرات الطوال من المذكرات، لتوضع في مكان آخر، في كتاب آخر، أو تختصر اختصارًا شديدًا.
ومن أصدقائي من رأى رأيًا آخر «د. أحمد العسال، ود. عبد العظيم الديب، ود. محمد سليم العوا، وآخرين»، وهو أن تبقى هذه التعليقات - وإن طالت - على الأشخاص والأحداث ذات الأهمية، باعتبارها تُمثل رؤية شخص عايش هذه الوقائع، وانفعل بها، وكان لها وقعها وأثرها على حياته وعلى مسيرته، فهو شاهد على عصره، ينتظر الناس شهادته كما قال الله تعالى: {وَٱلَّذِينَ هُم بِشَهَٰدَٰتِهِمۡ قَآئِمُونَ} [المعارج: 33]، وقال: {وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2]، وقال: {وَلَا تَكۡتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ} [البقرة: 283].
وليس المقصود من هذه المذكرات: مجرد الأحداث الشخصية والعائلية الروتينية، فهذه قد لا تهم الناس كثيرًا؛ وإن أهمتهم، فإن أهم منها تفاعل صاحب السيرة مع عصره ووقائعه وأحداثه الكبرى، ورأيه فيها، فلعل في ذلك ذكرى لمن كان له قلب، وعبرة لمن كان له عقل.
وقد أردت أن أجس نبض جمهور القراء، فسألت عددًا منهم عن رأيه في هذا الخلاف، فكان أكثر من (90%) مع إبقاء ما نشر على ما هو عليه. والكاتب إنما يكتب لقرائه قبل كل شيء. ومع هذا، قد اجتهدت أن أوفق بين الرأيين، فحذفت بعض أشياء مما اعتبره الأصدقاء تاريخًا وليس بسيرة، وقد رأيتها غير ضرورية، وأبقيت الأشياء الأساسية التي لا تمس جوهر رؤيتي للمواقف والأشخاص والأفكار.
ورجّح لي هذا: أن هذه المذكرات قد نشرت في صحيفة «الوطن» في قطر قبل ذلك في رمضان (1424هـ)، كما نشرت في مصر في صحيفة «آفاق عربية»، وفي موقع إسلامي أون لاين نت. وقد أغضبَ بعضُ ما كتبته عن عبد الناصر: بعض الناصريين والقوميين، وعلقوا على ذلك وأطالوا التعليق. كما أغضب بعض ما كتبته عن سيد قطب: بعض الإسلاميين! وقد أفضى الجميع إلى ما قدم، وما أردت بما كتبته عن هذا أو ذاك: إرضاء أحد ولا إغضابه. إنما أردت بيان الحقيقة كما أراها، وفاءً بما أخذه الله على أهل العلم أن يبينوا الحق للناس ولا يكتموه، وقديمًا قالوا: رضا الناس غاية لا تدرك، وقال الشاعر:
ومن في الناس يُرضي كل نفس
|
وبين هوى النفوس مدى بعيد؟
|
|
ولهذا لم يعد مجديًا: أن أحذف هذه الشهادة، أو هذا التعليق، بعد نشره وإذاعته، على نطاق واسع، وحسبي أني قلت كلمتي مبتغيًا بها وجه الله، وبيان الحقيقة «وإنما لكل امرئ ما نوى» ، وليس هناك من قانون ملزم لكتابة المذكرات، بحيث يلام من خرج عليه، وإنما ذلك يختلف باختلاف كل كاتب وموقفه وظروفه.
والحقيقة أني لم أقلد أحدًا فيما كتبت، بل تركت قلمي ليخط ما خط على سجيتي دون تكلف ولا افتعال، فإن كان في ذلك خير فذلك فضل الله عليَّ {قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} [يونس: 58]، وإن كان غير ذلك؛ فقد اجتهدت فيما صنعت، ولكل مجتهد نصيب، ومن روائع ديننا: أنه لا يحرم المجتهد المخطئ من الأجر، {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَا} [البقرة: 286]، على أن الأمر ليس فيه صواب وخطأ، ولكن مألون وغير مألوف.
وختامًا: أسأل الله تعالى أن يجعل عملنا صالحًا، ويجعله لوجهه خالصًا، ويجعل خير أعمارنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاه. آمين.
الدوحة في: ربيع الأول (1426هـ)
أبريل (2005م)
يوسف القرضاوي
...........................
(1) كان تاريخ هذه المقدمة الأول من شعبان (1424هـ) أكتوبر (2003م)، ولكن بقي الكتاب للمراجعة والمدارسة والمشاورة حتى التاريخ المذكور أعلاه، وكل شيء بأجل مسمى.