أعددنا العدة للذهاب إلى مدينة طنطا عاصمة مديرية الغربية، وثالث المدن المصرية، بعد القاهرة والإسكندرية، وفيها يقع المعهد الديني. وكانت العدة التي أعددناها لهذا المرحلة الجديدة: سلة فيها بعض الزاد اللازم للمسافر، مثل خبز القمح الجاف، وبعض القرص والقراقيش (1) يشتهر بها ريف مصر، وبعض الجبن "القريش" وبعض البيض والسمن. والمقصود من هذه الأشياء تقليل النفقات، فلا أضطر لشراء أشياء للغذاء إلا ما لا بد منه. كما كان من العدة التي أعددتها غياران آخران غير الذي ألبسه، فما كان في إمكاني أن أملك من الثياب أكثر من ذلك.

ومن العدة التي أعددتها: الطربوش والشال، وهما المقومان الأساسيان للعمامة المطلوبة. أما الجبة ذات الطوق (الكاكولة) فقد تأخرت إلى السنة الأولى الثانوية. ومن العدة اللازمة: بطانية صوف خشنة كأن فيها شوكا، وليست كبطاطين هذه الأيام الناعمة. وكذلك مخدة أتوسدها عند النوم.

وقد حملت هذه الأشياء كلها إلى محطة القطار، وساعدني ابن عمي في توصيلها إلى المحطة، ومن محطة صفط إلى محطة طنطا، ثم إلى المنزل الذي سنسكن فيه، أو الحجرة التي سنسكن فيها ساعدني حمّال (شيال) أخذ قرش تعريفة، على ما أذكر.

وكان ابن عمتي يوسف عبد الله النجار، وهو طالب في السنة الرابعة الثانوية بالمعهد، قد سبقنا إلى طنطا واستأجر لنا حجرة بمبلغ 18 ثمانية عشر قرشا، يسكنها ثلاثة: ابن عمتي وأنا وزميل لي في السنة الأولى له صلة قرابة بنا هو منصور السعيد صقر.

كانت الحجرة في الدور الأرضي، وكانت أرضيتها من التراب، وقد كانت لابن عمتي حصيرة أحضرها لنفترشها. ولم يكن من حقنا استخدام مرحاض المنزل إلا للضرورة، فكنا نستخدم مراحيض وحمامات ومغاسل أعدتها البلدية، والتي ترعى شئون النظافة والتجميل، وفيها ماء بارد وساخن، وكانت هذه الأشياء على بعد خطوات من سكننا، وهذا من فضل الله علينا. وكانت هذه المغاسل البلدية لخدمة أبناء الشعب في المناطق الفقيرة، وكانت خطوة متقدمة لم يعد لها نظير فيما بعد.

بقينا في هذه الحجرة عدة أشهر ثم انتقلنا إلى سكن آخر في نفس المنطقة أو نفس الحارة كان أفضل بكثير من الحجرة الأولى، فقد كان هذا السكن عبارة عن حجرتين متداخلتين كسيت أرضيتهما بالخشب، ولهما بلكونة، وأجرتهما واحد وعشرون قرشا، أي كل واحد

حياتي في السنة الأولى.. مشاهدة المولد وحفظ المتون

بعد أسبوعين تقريبا من بدء الدراسة، أعطينا إجازة من الإدارة لمدة أسبوع كامل، بمناسبة "مولد السيد البدوي" حيث تكتظ طنطا بمئات الألوف من الزائرين الذين يفدون إلى المدينة من كل حدب وصوب، وتزدحم المدينة ازدحاما شديدا، لا تستقيم معه الدراسة.

وكانت فرصة لابن عمتي ليفرض علي أن أحفظ من المتون والكتب المقررة ما أستطيع، وخصوصا من متن الأجرومية في النحو، و"نور الإيضاح" في الفقه، ومن كتاب "السيرة النبوية".

ولم يمض الأسبوع حتى كنت قد حفظت متن الأجرومية وإن لم أفهمه، كما حفظت عدة صفحات من نور الإيضاح أكثر مما حدد لي ابن عمتي. ولم أقض كل الوقت في الحفظ، فقد كنت أذهب للفرجة على مظاهر "المولد" في المدينة.

كانت الحياة في السنة الأولى رخيصة جدا، وكان شعارنا: القناعة كنز لا يفنى، ولم يكن لنا طموحات أو تطلعات تتطلب نفقات، فليس لنا نفقات إلا فيما نأكل ونشرب.

وكنا في الصباح نفطر على ما تيسر مما حملناه من زاد القرية، مثل بعض القرص أو القراقيش. وفي العشاء قد نقلي بعض البيض، أو نكتفي بالجبنة أو الحلاوة الطحينية.

وفي الغداء معظم طعامنا الفول المدمس، وأذكر أني أخذت صحنا وقرش تعريفة، ـ وهو خمسة مليمات، فاشتريت بأربعة مليمات فولا بدون زيت؛ لأن لدينا سمنا نضعه عليه بدل الزيت. وبقي مليم من التعريفة اشتريت به فجلا، وأعطتني بائعة الفجل خمس حزم بالمليم، ثم زادتني واحدة من عندها؛ لأني "زبون" جديد.

وكان هذا غداءنا نحن الثلاثة. وفي بعض الأيام نستبدل بالفول الطعمية، وكلاهما فول في النهاية. وفي بعض الأيام غيرنا الفول، واشترينا سمكا مشويا بقرش صاغ كفانا نحن الثلاثة.

أما الماء فكنا نشربه في قلة قناوية (2)، نملأها، ثم ندعها تبرد، بقدر ما نصبر عليها. ولم يكن الناس يعرفون الثلاجات ونحوها. وأما اللحم فلا نفكر فيه ولا نشتهيه؛ لأنه طعام "برجوازي" وليس من طعام أمثالنا من الفقراء عادة.

على أني كنت محظوظا أكثر من غيري، فقد كانت لي خالة تسكن في مدينة طنطا، وكانت تحبني وتعزني، وتعدني كأني ابنها، وأعتبرها كأنها أمي، ولم يكن لها ابن ذكر، لكن كان لها بنتان قريبتان من سني، هما سميرة وأنيسة، وكان الناس ينادون خالتي بـ "أم عبده" على اسم خالي عبد الحميد. فكنت أذهب إلى خالتي كل أسبوع مرة لأسلمها ما اتسخ من ملابسي لتغسلها، ولتطعمني ما تكنه لي من اللحم أو الطيور، وكانت تهوى اقتناء الطيور والدواجن في منزلها.

ومما فوجئت به وكانت مفاجأة سارة: أن وجدنا بالمعهد ـ بعد شهرين تقريبا من بدء الدراسة ـ مكافأة لكل طالب مقدارها ثمانية عشر قرشا، تسمى بدل جراية (3)، وذلك أن بعض أغنياء المسلمين القدامى كانوا قد وقفوا على طلاب العلم الشرعي خبزا لوجبات ثلاث يومية، يجري عليهم بصفة دورية؛ ولذا سمي "الجراية". وكانوا قديما يتسلمون الجراية عينية، فلما تغير الحال، أصبحوا يدفعون للطلبة بدل الجراية نقودا.

والحق أني فرحت بهذا المبلغ الإضافي الذي أعطانا بعض البحبحة في النفقة، فجزى الله هؤلاء الواقفين خيرا عن العلم وأهله.

عودة إلى القرية على الأقدام.. توفيرا للنفقات لا أكثر

بمناسبة قدوم عيد الأضحى، أعطينا إجازة خمسة أيام، فقررنا قضاءها في القرية بين أهلينا وأسرنا، وحتى نوفر أجرة القطار أو الحافلة (الأوتوبيس) صممنا على أن نذهب إلى القرية سيرا على الأقدام، 22 ك.م مسافة ما بين طنطا وصفط، وكنا ثلاثة: أنا ومنصور صقر، وثالث لا أذكر من هو، ويحمل كل منا سلته (سَبَتَه) التي يجلب فيها الزوادة (4). وأمضينا المسافة في نحو أربع ساعات، نتوقف فيها في الطريق للصلاة وللراحة، ولم نكن نحس بالتعب، فعزم الشباب وطموح الشباب ينسيان متاعب الطريق.

وفي هذه الإجازة لقيني عالم القرية الشاب، الشيخ عبد المطلب البتة، ليسألني عن الدراسة، فقلت له: ممتازة. فسألني بعض المسائل في الفقه الحنفي، فأجبته بدقة وتفصيل، فقال: الله يفتح عليك. ثم التفت إلى من حوله، وقال لهم: هذا عالم بمعنى الكلمة. ولا ريب أن هذه الكلمة من هذا العالم المتمكن سرتني وشرحت صدري.

.......................

(1) القرص والقراقيش مخبوزات من القمح والسمن واللبن.

(2) إناء من من الفخار يرشح الماء ويبرده لا يزال البعض يفضل طعم مائه إلى اليوم رغم انتشار أجهزة التبريد الحديثة، والقناوية نسبة إلى قنا أقصى صعيد مصر وكانت تشتهر بصناعة الآنية الفخارية المختلفة.

(3) يقصد بالجراية الطعام الذي يقدم دوريا لجمع من الناس سواء كانوا طلابا أو جنودا أو موظفين أو غير ذلك.

(4) الطعام والشراب والمتاع.