من شيوخي في الكلية: الشيخ محمد أمين أبو الروس، الذي درسني التفسير، والشيخان: محمد أحمدين، وعبد الحميد الشاذلي، درساني الحديث، والشيوخ: صالح شرف، والعيسوي، ومحمد يوسف الشيخ، والشافعي، والظواهري، درسوني التوحيد، والشيوخ: عبد الفتاح شحاته، ومحمود فياض، وأبو زيد شلبي، درسوني التاريخ، والشيخ أبو بكر ذكري درسني النظريات الأخلاقية.

والشيخ منصور رجب درسني علم الأخلاق، والدكتور محمد غلاب درسني الفلسفة الشرقية واليونانية، والدكتور عبد الحليم محمود درسني الفلسفة الإسلامية والحديثة، والشيخ الطيب النجار درسني أصول الفقه، والدكتور جمال الدين درسني علم النفس، والشيخ علي الغرابي درسني الفرق الإسلامية، ونسيت اسم من درسني المنطق من كتاب "القطب على الشمسية" لمدة سنتين، كما كان هناك من درسوني اللغة الإنجليزية لمدة أربع سنوات.

وكان لبعضهم طرائف في حياته يحكيها لنا، توثيقًا للصلة بين الشيخ وتلامذته، مثل ما حكاه لنا الشيخ أبو الروس من أنه تزوج مبكرًا، وكان له أبناء يدْرسون، وهو يدرس أيضًا، فكلهم طلبة، يقول الشيخ: فقد تكون النتيجة في بعض الأحيان أن أرسب أنا وينجح الأولاد، وأحيانًا يعرف زملاؤهم ذلك فيقولون معيِّرين لهم: يا أولاد الساقط!

ومما حكاه لنا أنه كان يكره مادة الفلسفة ولا يطيقها، فرسب فيها وحدها مرة؛ إذ لم يحصل على النهاية الصغرى، ولم يكن هناك دور ثان، وكان الذي يرسب في مادة يعيد السنة كلها من أجلها.

الدكتور عبد الحليم محمود

وكان من أبرز من درسني: الدكتور عبد الحليم محمود، فقد درسني في السنة الثالثة: "الفلسفة الإسلامية" وقد اختار لنا كتاب الدكتور إبراهيم بيومي مدكور: "الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيقه"؛ ليكون موضوع دراستنا، كما درس لنا فصلًا من كتاب "الإشارات والتنبيهات" لابن سينا، يتعلق بالتصوف.

كما درسنا في السنة الرابعة: فصولًا في التصوف في ضوء "المنقذ من الضلال" للغزالي، كما أعطانا فكرة عن فلسفة الأندلس، في ضوء "قصة حي بن يقظان لابن طفيل"، بالإضافة إلى نظرات في الفلسفة الحديثة، التي درسنا فصولًا منها في "النظريات الأخلاقية".

كان الدكتور عبد الحليم في تلك الآونة، يلبس الحلة (البذلة) الإفرنجية، كما كان حليق اللحية، ولكنه كان رجلًا متصوفًا: فكرًا، وعاطفة، وعملًا، وكان لا يهتم بالمظاهر لا في نفسه، ولا في بيته، وقد زرته في بيته بضاحية الزيتون عدة مرات، وحدي أحيانًا، ومع الأخ عبد الودود شلبي أحيانًا، فكان بيته متواضعًا في أثاثه وفراشه، لا يليق برجل تخرج في فرنسا.

وكان كثير الصمت، لا يتكلم إلا قليلًا، وكان معجبًا بشيخه في فرنسا، وهو "رينيه جينو" أو عبد الواحد يحيى، وهذا اسمه بعد أن أسلم، وكان متصوفًا كبيرًا، وكثيرًا ما حدثنا عنه، وكتب عنه رسالة نُشرت.

وقد عُيِّن بعد ذلك عميدًا لكلية أصول الدين، ثم وزيرًا للأوقاف، ثم شيخًا للأزهر، وكان من أبرز شيوخ الأزهر، الذين لهم مواقف تذكر، وإن أخذ بعض الناس عليه -وأنا منهم- في تصوفه ما أخذوا مما قد يُعَدُّ من الغلو يغفر الله له ولنا معه، ومن ذا الذي أجمع عليه الناس؟

شيوخ لم يدرسوني

وهناك شيوخ لم أحْظَ بتدريسهم لي، ولكن كانت بيني وبينهم صلة قوية بعد، من هؤلاء: الدكتور محمد البهي أستاذ الفلسفة والعقيدة في كلية أصول الدين، وصاحب المؤلفات المعروفة في الفكر الإسلامي، مثل "الجانب الإلهي في التفكير الإسلامي"، و"الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" وغيره، ولكن من حظي أنه ترك كلية أصول الدين، وانتقل إلى كلية اللغة العربية ليدرس فيها الفلسفة، ويرأس قسمها، سنة 1950م، وعملت معه بعد ذلك حين كان مديرًا عامًّا للثقافة الإسلامية بالأزهر في عهد الشيخ شلتوت رحمه الله.

ومنهم: الدكتور محمد يوسف موسى أستاذ الفلسفة والأخلاق في كلية أصول الدين، والذي ترك الكلية قبل التحاقي بها، وانتقل إلى كلية الحقوق بالجامعة المصرية أستاذًا للشريعة الإسلامية، ولكن كانت بيني وبينه صلة علمية وثيقة، فزرته في بيته عدة مرات واستشرته في قضايا تمس مستقبلي فأشار علي بالرأي الأسدّ.

ومنهم: الشيخ محمد الأودن، الرجل الربَّاني، الذي كان يتدفق إيمانًا وروحانية، ولم يدرسني في الكلية، ولكني زرته في بيته في الزيتون، والتقيت به، واستمعت إليه، وهو يعطي جليسه شحنة روحية قوية؛ لأن كلامه يخرج من قلبه فيلامس القلوب، بخلاف من يخرج كلامهم من أطراف اللسان، فهو لا يتجاوز الآذان.

ومنهم -من خارج الكلية- الشيخ محمود شلتوت الفقيه المجدد الذائع الصيت، الذي كنت أزوره في بيته في حي "الظاهر" قبل أن ينتقل إلى مصر الجديدة، وأستفيد من فقهه ونظراته التجديدية، وكنا تعودنا أن نزوره جماعة: أنا والأخ أحمد العسال، والأخ أحمد حمد، وكنا ثلاثتنا متلازمين في هذه الزيارات للمشايخ الكبار، وقد قال لنا الشيخ شلتوت مرة: أرجو أن تظلوا مترابطين، وأن تظل أخوتكم دائمة، ولا تفرق الأيام بينكم، كما حدث لإخوة قبلكم، وكنا نستغرب هذا الكلام الذي ليس له أية مقدمات.

وكأنما كان الشيخ يقرأ الغيب، فقد فرقت الأيام بيننا بالفعل، فقد انفصل عنا الأخ أحمد حمد، وشنَّ الغارة على إخوانه وأصدقائه واحدًا بعد الآخر، بادئًا بالأخ عبد الودود شلبي، ومثنّيًا بالأخ أحمد العسال، الذي هاجمه هجومًا عنيفًا لا مبرر له، وبأسلوب غير لائق بحال، ثم مثّلثًا بي، مشنّعًا عليًّ في كل مجلس..

مع أني سعيت لاستقدامه إلى قطر، ثم ضمه إلى كلية الشريعة، ولم أفكر والله أن أمسه بأذى طول مدة عمادتي كلية الشريعة في قطر (اثني عشر عامًا) مع إيذائه المستمر لي، مراعيًا ما كان بيني وبينه -بل ما كان بيني وبين إخوانه وأسرته عمومًا- من مودة صادقة، وأخوة سابقة، لا أقول إلا: سامحه الله، وسامحني معه، فهو لم يكن سيئ القصد، بل كان سيئ التصور، واستمع إلى بعض الوشاة الكاذبين الذين أوغروا صدره علي، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وهب أنني أخطأت في حقه، أو أخطأ العسَّال أو عبد الودود؛ فهل يقابل ذلك بأن يفقد إخوانه ويقطعهم ويهاجمهم، ويعاملهم على أنهم أعداء، وهل يقطع حبل الإخوة والصداقة الطويلة بهذه السهولة؟! هل نسي ما حفظه وما حفظناه، من قبل من قول بشار:

إذا كنت فـي كـل الأمور معاتبا  **  صديقك لـم تلـق الذي لا تعاتبه

فعش واحدًا، أو صل أخاك، فـإنه  **  مقـارف ذنب مـرة، ومجـانبه

إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى  **  ظمئت، وأي الناس تصفو مشاربه؟

من ذا الذي ترجى سجاياه كـلها؟  **  كفى بالمرء نبلًا أن تعـد معايبه!

شيوخي في الإخوان

وكما استفدت من شيوخي في الأزهر استفدت أيضًا من شيوخي في جماعة الإخوان، ومن شيوخي في الإخوان الشيخ محمد الغزالي، فقد كنا نزوره أنا والعسال في بيته في درب سعادة، قبل أن ينتقل إلى شارع الأزهر، ثم إلى الدقي.

ومنهم الشيخ سيد سابق، الذي كنا نزوره في بيته القديم في سوق السلاح، حارة زرع النوى، قبل أن ينتقل إلى "جاردن سيتي"، ومنهم الشيخ البهي الخولي الذي كنا نزوره في بيته بالمطرية، قبل أن ينتقل إلى شارع القصر العيني.

وكلهم أخذت عنهم، واقتبست منهم، فجزى الله كل من علمنا حرفًا خيرًا.

تتبع النشاط الثقافي في القاهرة

وقد كنا نتتبع النشاط الثقافي ونبحث عنه؛ لنغترف من معينه حيثما وجدناه، لنتعلم من شيوخ العلم، ورواد الفكر، ما وجدنا إلى ذلك سبيلًا. وكان من الموارد العذبة التي ازدحم عليها القُصَّاد في تلك الفترة: محاضرات "دار الحكمة" في تفسير القرآن الكريم.

وكان الذي يقوم بهذه المحاضرات أربعة من رجال العلم المشاهير في ذلك الوقت، أولهم: الفقيه المفسِّر الشهير الشيخ محمود شلتوت، الذي ذاع صيته، وانتشرت دعوته إلى التجديد، وغدت له شعبية واسعة بين الناس بأحاديثه الصباحية في إذاعة القاهرة، هو والشيخ محمد المدني، حتى إن السيدة أم كلثوم سُئلت مرة عن أحب الأصوات التي تحب أن تسمعها، فقالت: صوت الشيخ محمود شلتوت.

كان الشيخ شلتوت يحضِّر درسه التفسيري تحضيرًا جيدًا، وكان له نظرات ووقفات تأملية في كتاب الله، أودعها بعد ذلك في مقالاته التي نشرها في مجلة "رسالة الإسلام" التي كانت تصدر عن "دار التقريب" بين المذاهب في القاهرة، ثم خرجت بعد ذلك في كتاب في التفسير حول الأجزاء العشرة الأولى. وكنت أنا وأخي أحمد العسَّال، كُلِّفنا بنقلها من المجلة لتأخذ صورة الكتاب، حتى إن الشيخ شلتوت رحمه الله -وقد كان وقتها شيخًا للأزهر- أذن لي بأن أملأ الفجوات التي أراها بقلمي وأسلوبي الخاص؛ ثقة منه بي.

والمفسِّر الثاني: كان الفقيه المعروف الأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلّاف أستاذ الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق، والذي تخرجت على يديه أجيال، وهو صاحب كتاب "أصول الفقه" وغيره من الكتب الشرعية، والثالث: كان الأستاذ عبد الوهاب حمودة أستاذ اللغة العربية بكلية الآداب. ونسيت الرابع.

كما كنا نذهب إلى استماع المحاضرات التي تُلقى بجمعية الشبان المسلمين، أو الندوات التي تُقام بها نصرة لبعض القضايا الإسلامية.

ومما أذكره، الندوة التي أُقيمت تحت عنوان "يوم كشمير"، وتحدث فيها عدد من الخطباء والشعراء، ومنهم الشاعر خالد الجرنوسي، الذي ألقى قصيدة رائعة تحية لكشمير، أذكر مطلعها:

يا يوم كشمير تحية مسلم  **  مطلولة عبرى ترقرق بالدم

ومنها:

في كل محكمة قضية مسلم  **  يشكـو بليته لـغير الـمسلـم

ومن الرزية أن حزب محمد  **  قد سادهم في الأرض حزب جهنم

الاحتفال بالمولد في ميدان السيدة

كان الإخوان في هذه الفترة المحظور فيها نشاطهم رسميًّا؛ ينتهزون الفرص لإثبات وجودهم، وأنهم لم يغيبوا عن الساحة؛ لهذا احتفلوا بذكرى الهجرة في ميدان السيدة، وتحدث في هذا الحفل الشيخ الغزالي، والشيخ عبد المعز عبد الستار، والأستاذ عبد العزيز كامل، والأستاذ عبد الحكيم عابدين، وغيرهم من دعاة الإخوان، وكنت في القرية في ذلك الوقت، فلم يُتَح لي حضور هذا الحفل.

وبعد شهرين أهلَّ شهر ربيع الأول، وقد اعتاد المصريون أن يحتفلوا بذكرى المولد، واعتاد الإخوان منذ عهد الإمام البَنَّا أن يتخذوا من هذه المناسبات وسائل لربط الناس برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، وتعريفهم بهدي سيرته العاطرة، فأراد الإخوان أن يقيموا حفلًا كبيرًا بميدان السيدة أيضًا، يتحدث فيه خطباؤهم وشعراؤهم، وقد طلبوا مني إنشاء قصيدة بهذه المناسبة.

وفعلًا هيئتها وألقيتها في الحفل، وكان لها صدى واسع وعميق في أنفس الإخوان، واستفادوا كثيرًا من أبياتها، ومطلعها:

هـو الرسول فكن في الشعر حسانا  **  وصُغ من القلب في ذكراه ألحانا

ذكرى النبي الذي أحيا الهدى وكسا  **  بالعلم والنور شعبا كـان عريانا

وفيها:

يا سيد الرسل طب نفسًا بطائفـة  **  باعـوا إلى الله أرواحًا وأبدانا

قادوا السفين فما ضلت ولا اضطربت  **  وكيف لا؟ وقد اختاروك رُبانا

أعطوا ضريبتهم للدين من دمهم  **  والناس تزعم نصر الدين مجانا

أعطوا ضريبتهم صبرًا على محن  **  صاغت بلالًا وعـمارًا وسلمانا

باتوا عـلى الحب أنواهًا وأفئدة  **  عاشوا على البؤس والنعماء إخوانا

الله يعـرفهـم أنصار دعـوته  **  والناس تعرفـهم للخير أعـوانا

والليل يعـرفهم قـوام هجعته  **  والحرب تعرفهم في الروع فرسانا

دستورهم لا فـرنسا قننته ولا  **  روما، ولكـن قـد اختاروه قرآنا

زعيمهم خير خلق الله، لا بشر   **  إن يهـد حينًا يضل القصد أحيانا

"الله أكبر" ما زالت هتافهـم  **  لا يُسقطـون ولا يُحيون إنسـانا

ومنها:

ربَّاه نصرك، فالطاغوت أشعلها  **  حربًا على الدين إلحادًا وكفرانا

نشكو إليك حكـومات تكيد لنا  **  كيدًا وتفتح للصهيون أحضانا

تتيح لـلهـو حـانات وأندية  **  تؤوي ذوي العهر شُرَّابًا ومُجَّانا

فما لدور الهدى تبقى مغلَّقة  **  يمسي فتاها غريب الدار حيرانا؟

هنا هتف الأستاذ سعد الدين الوليلي هتافًا ردده الحاضرون بقوة، وكأنه يبلغ عنان السماء: على العهد وإن طال الأمد، على العهد وإن طال الأمد!

وانتهى الحفل بسلام.

صلاة الجمعة عند الشيخ الشرباصي

وكان كثير من الإخوان يصلون الجمعة وراء العالم الأديب الشهير أحمد الشرباصي، الذي كان مسجده في المنيرة، وكان يلتقي عنده الجمُّ الغفير من الإخوان يتواعدون اللقاء هناك؛ ليستمتعوا بسماع خطبة الشيخ، وهي قطعة من الأدب الديني، الذي يخاطب العقل والوجدان، ثم يصافح بعضهم بعضًا، ويتبادلون التحيات والأحاديث، ويظلون مدة غير قليلة بعد الصلاة حتى ينصرفوا، وكان الشيخ الشرباصي قد اعتقل فترة مع الإخوان، وأصدر في ذلك كتابه "مذكرات واعظ أسير".

مجلة منبر الشرق

كما كان الإخوان يلتقون على مجلة "منبر الشرق" لصاحبها الصحفي الشاعر الأستاذ علي الغاياني، وهو من الوطنيين الأحرار، الذين لقوا الأذى والنفي والتشريد، وقاسوا البلاء في سبيل وطنيتهم، وكان شعار صحيفته:

باسم الكنانة واسم شعب ناهض لا باسم أحزاب ولا زعماء

ظل يزول وينقضي، أما الحِمى فـوديعـة الآباء للأبناء

وكان كثير من الإخوان يكتبون فيها؛ وهو ما جعل الجريدة تحيا بعد موات، وتشتهر بعد خمول.

مجلة المباحث القضائية

ثم استأجر الإخوان مجلة كانت مهجورة، فشهروها، وهي مجلة "المباحث القضائية"، وكان يكتب فيها الأستاذ صالح عشماوي، والأستاذ عبد العزيز كامل، والشيخ الغزالي، وغيرهم. 

وظلَّت هذه المجلة لسان حال الإخوان؛ حتى استصدر الأستاذ صالح عشماوي رخصة بمجلة "الدعوة" التي أصبحت لسانهم الرسمي.