في هذه الفترة كان قد تم اختيار الأستاذ حسن الهضيبي بك المستشار بمحكمة النقض، والذي كان على صلة قديمة بالإخوان، وبالأستاذ حسن البنا، ولكن منصبه القضائي جعله يبتعد عن الظهور العلني في الإخوان، وكانت مجلة "الشهاب" قد نشرت صورته في "سجل التعارف الإسلامي" في العدد الأول، وكتبت تحته: "مصري ولد في (عرب الصوالحة) سنة 1309هـ، قبيلته عربية عريقة في عروبتها ودينها، ودرس في كلية الحقوق وتخرج فيها سنة 1335هـ واشتغل بالمحاماة، ثم عُين في القضاء، وهو الآن مستشار في محكمة النقض، سعادته خير قدوة لرجال القانون؛ فقد عُرف في جميع مراحل حياته باللباقة وسمو الخلق، والغيرة على الإسلام والدعوة إليه، وهو يحفظ القرآن، وذو رأي مسدد في كل ما يتصل باللغة والإسلام، كما أن لسعادته دراسات واسعة في القانون المقارن والتشريع الإسلامي، واطلاع واسع على كتبه وموسوعاته" انتهى.

وكأن هذا التعريف الشامل المركز من الأستاذ البنا؛ كان يحمل ترشيحًا لصاحبه ليقود سفينة الجماعة من بعد مرشدها الأول، رحمهما الله جميعًا.

كما نوه الأستاذ البنا بالأستاذ حسن الهضيبي في خطاب مفتوح إلى رئيس الوزراء في ذلك الوقت (وهو النقراشي) بشأن "التشريع الإسلامي والدستور القرآني"، الذي كان نسيانه أو تناسيه أساس البلاء ومصدر النكبات، وقال لرئيس الوزراء: "لستم بحاجة إلى من يذكركم بفضائل التشريع الإسلامي ويعدد لكم مزاياه ويبرهن لكم على حاجة الأمة إليه؛ بعد أن قام يدعو إلى تطبيقه الرجل المسلم الغيور والمؤمن القوي والموظف المسئول، الأستاذ الهضيبي بك..

هذا الرجل العظيم الذي كُلِّف رسميًا ببحث إصلاح التشريع في مصر؛ فقال إن هذا الإصلاح لا يحتاج إلا إلى مادة واحدة هي أن يكون دستورنا القرآن وتشريعنا مستمدًا من هذا النبع الخالد الزاخر: الفقه الإسلامي الذي وسع كل شيء وحل كل مشكلة...إلخ. ثم قال: يا صاحب الدولة، إن الهضيبي بك قد أدى واجبه وأبرأ ذمته وذكَّر قومه بأن سعادتهم في تطبيق الشريعة الإسلامية الغراء" (مجلة الاخوان المسلمون الأسبوعية عدد 211 ـ 8-8-1948م - دلني على هذا النص ابننا عصام تليمة).

وقد حل اختيار الأستاذ الهضيبي مرشدًا عامًا عقدة اختيار المرشد من رجال الصف الأول البارزين: صالح عشماوي وكيل الإخوان، وعبد الرحمن البنا عضو مكتب الإرشاد وشقيق المرشد الأول، وعبد الحكيم عابدين السكرتير العام للجماعة وزوج أخت الأستاذ، والشيخ أحمد الباقوري أحد قدامى الإخوان، وغيرهم من المتطلعين إلى منصب المرشد العام، وكل يزعم -أو يزعم له- أنه أحق به من غيره. فكان اختيار رجل من خارج المجموعة كلها حلًا للإشكال.

وكان الإخوان قد اختاروا مقرًا مؤقتًا في حي "الظاهر" بالقاهرة، يلتقون فيه حتى يكسبوا قضيتهم، وتعود إليهم ممتلكاتهم، ومنها المركز العام بالحلمية الجديدة.

وكان أول لقاء عام بالإخوان للأستاذ الهضيبي في هذا المقر المؤقت، وقد أوصى الإخوان بتقوى الله عز وجل، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وطلب منهم أن يُقلِّوا الحديث عما أصابهم من بلاء في سبيل الدعوة؛ فهذا أول الطريق، وكأنه يستشف ما يُكنُّه ضمير التاريخ من محن كبيرة مخبأة للإخوان.

وبعد جهود واتصالات ومظاهرة أمام مجلس النواب وضغط على حكومة الوفد؛ أُلغي قرار حل الإخوان، وعادوا رسميًا ليمارسوا نشاطهم تحت سمع القانون وبصره، وتسلموا مركزهم العام ليقيموا فيه أحاديث الثلاثاء، التي أمسى يتعاقب عليها عدد من دعاة الإخوان، ولكن أين من يملأ مكان حسن البنا؟

وفي هذا الوقت طُلب من الأستاذ الهضيبي أن يزور الملك فاروق، وُحدد موعد الزيارة؛ وكأن الملك أراد بذلك أن يُقيم صلة أو يعقد هدنة مع الإخوان بعد أن اغتيل مرشدهم الأول لحسابه، وذهب الأستاذ الهضيبي للقاء الملك، وجرى بينهما حديث عن الله ثم الملك ثم الشعب، فعقب الهضيبي قائلا: "بل الله، ثم الشعب، ثم الملك". وبعد خروج الأستاذ الهضيبي من الزيارة الملكية، سأله الصحفيون عن مضمون هذه الزيارة، فقال: "لقد كانت زيارة كريمة لملك كريم".

واستغلها خصوم الدعوة ليشوشوا على الإخوان وعلى مرشدهم الجديد، وليجعلوا منها مقدمة لدوران الإخوان في فلك القصر، وأن الهضيبي إنما جاء ليؤدي هذا الدور، وكل هذه أوهام وأباطيل، وإنما قالها الرجل على سجيته جملة يريد بها المجاملة لا أكثر من ذلك، وما غيَّر الإخوان من أهدافهم ولا من مناهجهم قيد شعرة، كما يعرف ذلك كل مراقب للإخوان، مطلع على مسيرة الإخوان.

وقد ذكر الأستاذ محمود عبد الحليم في الجزء الأول من كتابه "الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ" بعض التفاصيل عن هذه الزيارة، منها: أنهم بعثوا إلى الأستاذ الهضيبي من القصر حُلة خاصة لا يُقابَل الملك إلا بمثلها، يسمونها "الردنجوت" فرفض الهضيبي أن يلبسها، وأصر على أن يلقى الملك بحلته المعتادة، وقبلوا بذلك لأول مرة.

ومنها: أن الملك ظل يتحدث نحو الساعة؛ معتذرًا عما أصاب الإخوان، وأنه من عمل حزب السعديين وحكومتهم، وأنه هو الذي أقال حكومة إبراهيم عبد الهادي، وأمر بالإفراج عن الإخوان… إلخ، والأستاذ ساكت، ومنها: أن الملك أرسل إلى الهضيبي صورة فاخرة له موقعة بخطه، وكان ينتظر أن يعلقها في  مكتبه فلم يفعل، ولكنه أخذها إلى بيته، ووضعها على الأرض في مكان لا يراه أحد.

مسجد آل طه بالمحلة

كانت نفقات الحياة بالقاهرة كثيرة، المسكن والمعيشة والتنقل والملبس والكتب... وغيرها، وليس لي مورد يغطي هذه التكاليف؟ أخي وزميلي محمد الدمرداش حل هذه المشكلة بالتقدم إلى وزارة التربية والتعليم ليُعيَّن بالثانوية مدرسًا؛ وقد كان، وعُيّن بالصعيد، ولكن مثل هذا العمل لا يلائمني بالمرة، فأنا لا أريد عملًا يقطعني عن الحضور بالكلية، ويبعدني عن القاهرة مركز الدعوة والنشاط والحركة.

ولهذا فكرت في أن أعمل خطيبًا بأحد المساجد الأهلية، وآخذ مكافأة تكفيني، وقد دلني بعض الإخوة على مسجد يُنشأ في المحلة الكبرى في شارع البحر، وهو أكبر الشوارع في المحلة، وهو يوشك أن ينتهي، والذي أنشأه أسرة "آل طه" من أعيان المحلة، وسيحتاجون قطعًا إلى خطيب للمسجد، ودلوني على الحاج رشاد طه، وهو ضابط مهندس كبير بالجيش، ومن أهل الصلاح والتقوى، بالفعل سألت عن مسكنه في القاهرة وزرته وعرفته بنفسي، وحاجتي إلى العمل بالمسجد، وطلبت منه أن يسأل عني، فقال لي: الكتاب يُقرأ من عنوانه، وسأجتهد في إقناع عمي الحاج حسن بذلك.. والله يختار الخير.

وتم الأمر بحمد الله، وافتتحت المسجد بأول خطبة حضرها عدد ملأ المسجد، وهو صغير نسبيًّا، وفي الجمعة التالية صلى الناس خارج المسجد، وما زال العدد يتضاعف حتى أصبح الذين يصلون في الشارع أضعاف الذين يصلون داخل المسجد؛ وهو ما اضطر أصحاب المسجد أن يبنوا ملحقا بجواره من عدة طوابق حتى يتسع للناس.

وكان الناس يفدون إليه من طنطا، ومن سمنود، ومن طلخا والمنصورة، وبات مدرسة متميزة يقصدها الكثيرون للاستفادة منها. وكنت كثيرًا ما أجعل الخطب سلسلة متماسكة الحلقات، بعضها في العقائد، وبعضها في العبادات، وبعضها في أخلاق المؤمن، وبعضها في مشكلات الحياة والمجتمع، وبعضها في قضايا أمة الإسلام.

وقد اشتهر المسجد باسم "مسجد الشيخ يوسف" وقلت للإخوة: أنا حريص على أن يظل اسمه "مسجد آل طه" تشجيعًا لهم، وتنويهًا بعملهم الصالح، فقد قرروا لي مرتبا "عشرة جنيهات كل شهر"؛ حلّوا بها مشكلتي الاقتصادية، جزاهم الله خيرًا، كما أنهم لم يضيقوا علي في حضور ولا غياب؛ فلي أن أباشر أنشطتي كما أشاء، وحسبهم السمعة الكبيرة التي جاءتهم من وراء المسجد..

وكنت آتي إلى المسجد مساء كل خميس؛ لألقي درسًا في المسجد، وأصلي الجمعة، وكثيرًا ما يكون هناك حلقة بعد الجمعة، وبعد عودة الإخوان الرسمية كنا نخرج من المسجد في تجمع كبير إلى دار الإخوان، وهي قريبة من المسجد، وأصلي المغرب والعشاء في المسجد، ثم أسافر مساء الجمعة أو صباح السبت إلى القاهرة. وفي الصيف كنت أقيم بصفة دائمة في المحلة. وقد استأجرت مع بعض الإخوة شقة صغيرة من حجرتين لأسكن بها، وكان معي الأخ حلمي عبد الحميد مولانا من صفط ويعمل بشركة المحلة، والأخ محمد السعيد من طنطا.

وبعد أن أصبح للإخوان دار مستقرة، وكان بها حجرة مستقلة على السطح اقترحوا عليّ أن أنتقل إلى هذه الحجرة، وقد عاينتها فوجدتها مناسبة جدًا، وتجعلني قريبًا من الإخوان، وقد نقلت إليها سريري وفراشي وغطائي، وأضفت إليها خزانة صغيرة لكتبي؛ وبهذا أصبح لي مسكنان: مسكن في القاهرة، ومسكن في المحلة.

كان شهر رمضان شهر النشاط المضاعَف؛ درس بعد صلاة العصر، وصلاة التراويح بجزء من القرآن، ودرس في الترويحة، وفي بعض الليالي نذهب إلى قرية من قرى مركز المحلة، أو سمنود وخصوصًا ليالي الاحتفال بغزوة بدر، وفتح مكة، وليلة القدر.

كان مسجد آل طه مصدر إشعاع وإحياء، وكانت سنوات حافلة بالنشاط والعطاء، وكان من بواعث إنعاش الإخوان ونموّهم في منطقة المحلة وما حولها وظهور عدد من الدعاة الشباب، أمثال: مصباح عبده، والسيد النفاض، ومحمد حوطر، وعبد الستار نوير، وعبد الوهاب الشاعر... وغيرهم، ممن أصبحوا بعد ذلك نجومًا زاهرة في سماء الدعوة.

وقد تعرفت في المحلة على إخوة كرام: محمد محمد عبد العال رئيس الإخوان، وعدد من أعوانه المتجردين المخلصين من أمثال: حسين عتيبة، ومصطفى الغنيمي، وسليمان مطاوع، وسيد أحمد الغزالي، وعبد الخالق عيطه... وغيرهم، ممن يعملون في مصنع المحلة، وعبد الحي غالي الذي يعمل مدرسًا في وزارة التربية والتعليم.

كما عرفت عددًا من الشباب الواعد الصاعد، الممتلئ بالحيوية والطموح، وعلى رأسهم الأخ محفوظ السيد حلمي، الذي يعمل بشركة المحلة، وقد اشتهر بنشاطه الرياضي؛ فكان يتولى تدريبنا فجر أيام الجمع والإجازات حتى ننهك، كما اشتهر بطرائفه وملحه، فكنا نوزع الأطعمة في الكتائب والرحلات بالتساوي، فيقول: يا جماعة الحصة على قدر الجثة! وكان يرفض شرب "الكوكاكولا" ويقول: أنا لا أشرب إلا مصر كولا، يعني: العرقسوس! وكان من هؤلاء الشباب: مُقبل أبو رحال، والسيد العزب صوان، وعلي إبراهيم حمزة...، وقد استشهد الاثنان (السيد وعلي) في مجزرة ليمان طرة.

وكان من هؤلاء الشباب: كمال السامولي، وعبد الرحمن الكموني، وعبد الغني العنتري، ومحمد حوطر، وزين العابدين البلاوي، وآل البيطار، ومحمود القوطي، وماجد المالكي، ومحمد جحا، وإهاب الصياد، ومجدي السعدي، وعدد آخر لا يتسع المقام لذكرهم جميعًا، وبعضهم لا يحضرني اسمه الآن، وكان الأخ علي العوضي يعمل بالبنك، ويشرف على الطلاب، وزارنا في ذلك الحين الأستاذ عمر شاهين من طلاب القاهرة لإنعاش العمل الطلابي.

وكان الأخ الأديب الشاعر: محمد حوطر قد التزم أن يكتب خطبي كل جمعة بقلمه الرصاص، يعد لها عدة أقلام وكشكولًا، ويكتبها بطريقة مختصرة؛ فهو يكتب أول الآية وأول الحديث ويترك بقيته، ثم يأتي آخر النهار فيُبيِّضها، وهو يذكرها، فإذا باتت لم يحسن قراءتها في الغد، ولم يكن التسجيل قد شاع بعد.

وقد قرأت ما كتبه فأعجبني، وشجعني أن نصدره في صورة "ديوان خطب منبرية" أسميته "نفحات الجمعة"، ولكن بعد أن أقرأه وأُحسن وأُجود صياغته؛ حتى يظهر على وجه أرضاه.

وقد طلب إليّ الإخوان بالمحلة أن أكتب لهم رسالة مبسطة تتضمن "أحاديث نبوية" يحفظونها في الأسَر، ويستشهدون بها عند الحاجة، فكتبت رسالة "قطوف دانية من الكتاب والسنة" رأيت أن أربط فيها الأحاديث النبوية بالآيات القرآنية؛ فالقرآن هو مصدر الإسلام الأول، والسنة هي المصدر الثاني المبين للقرآن.

كما رأيت أن أرتب هذه النصوص ترتيبًا معينًا عن الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم، والحكومة المسلمة، وأقسِّم كل فصل من هذه الفصول إلى عناصر، وقد طُبعت هذه الرسالة ونُشرت أكثر من مرة.

وقد شجعتني هذه الرسالة أن أمسك بالقلم لأكتب، فقد كان نهجي السابق أن أقتصر على استخدام اللسان، ولا أكاد أستخدم القلم إلا في كتابة عناصر الموضوعات التي أتحدث فيها غالبًا، مع أن العرب قالوا: "القلم أحد اللسانين"، وقال الله تعالى في أول آيات أُنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} (العلق: 4)، ومن أوائل ما نزل من القرآن سورة سميت "سورة القلم"، بدأ تعالى بقوله: {ن * وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (القلم: 1، 2) فأقسم الله فيها بالقلم، ولا يُقسم الله بشيء إلا لينبه على أهميته.

ومع هذا لم أكتب، ولم ينبهني أحد من الإخوان الكبار على ذلك، أو يدفعني إليه، وأول ما كتبته في هذه الفترة: كتيب بعنوان "رسالتك أيها المسلم"، وكان من حظ هذه الرسالة أن تُصادَر مع ما أُعدّ من كتاب "نفحات الجمعة" حين أُغلقت دور الإخوان في عهد الثورة، كما سيأتي في الحديث بعد.

كان من الشخصيات الكبيرة التي زارتنا في المحلة:

1- الأستاذ أبو الحسن الندوي، وقد أشرت إلى ذلك من قبل، وكان قبل عودة الإخوان بصورة رسمية.

2 - الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام، وقد زارنا مرتين: مرة زار فيها مصنع الغزل والنسيج بالمحلة، وكنا رفقاءه في هذه الزيارة، ومرة كان معه الأستاذ سيد قطب والأستاذ عبد الحكيم عابدين وكان بمناسبة الاحتفال بالهجرة النبوية.

3 - الأستاذ الدكتور الشيخ مصطفى السباعي المراقب العام للإخوان في سورية، وقد ألقى محاضرة قيمة؛ احتشد له فيها عدد كبير وظل نحو الساعتين والجميع مشدود إليه، فقد كان يأسر العقل والقلب معا يرحمه الله.