إلى تخصص التدريس

كان في الأزهر نوعان من التخصص لحملة الشهادة العالية أو العالِمية، أوقف أحدهما وبقي الآخر، أما النوع الذي أوقف فهو "تخصص المادة"، وفيه يتخصص الخريج في مادة معينة ويقدم فيها رسالة يحصل بها على شهادة "العالِمية من درجة أستاذ".

وكان في كلية أصول الدين ثلاث شعب لهذا التخصص: شعبة التفسير والحديث، وشعبة العقيدة والفلسفة، وشعبة التاريخ، كما كان في كلية الشريعة شعبة الفقه، وشعبة أصول الفقه، وفي كلية اللغة العربية شعبة النحو والصرف، وشعبة البلاغة والأدب.

وقد خرَّج هذا التخصص بشعبه المختلفة عددًا لا بأس به ثم أُغلقت أبوابه، وكان من مطالبنا في المرحلة الثانوية وفي المرحلة الجامعية: إعادة فتح باب تخصص المادة لإتاحة الفرصة لطالب الأزهر المتفوق لينال حقه في الدراسات العليا، كسائر طلاب مصر، وطلاب العالم كله.

وأما التخصص الآخر فيسمى "تخصص المهنة"، وكان في الأزهر ثلاثة تخصصات للمهنة: تخصص تنفرد به كلية الشريعة، وهو "تخصص القضاء" وهو الذي يُعِدّ القضاة الشرعيين بما يلزمهم من دراسات معينة في أصول القضاء والمرافعات والإجراءات والإثبات ونحوها، وتخصص تنفرد به كلية أصول الدين، وهو تخصص "الدعوة والإرشاد" ومهمته تخريج وعاظ وخطباء مساجد، مؤهلين للدعوة والخطابة دارسين لفنونها ووسائلها.

وتخصص ثالث تشترك فيه الكليات الثلاث، وإن كان -إداريًّا- تابعًا لكلية اللغة العربية، وهو: تخصص التدريس. ومهمته إعداد مدرس علوم الدين أو اللغة العربية، وتأهيله بما يلزمه من أصول التربية ووسائلها وطرق التدريس العامة والخاصة.

كان أمامي -وقد تخرجت في كلية أصول الدين- إذن تخصصان عليَّ أن أختار أحدهما: الأول وهو تخصص الدعوة والإرشاد، والآخر هو تخصص التدريس، ولم أتردد في اختيار الثاني، رغم إلحاح بعض الأصدقاء أن ألتحق بتخصص الدعوة والإرشاد؛ لأنها أصبحت وظيفتي الأولى، وقد عُرفت بها، وبرعت فيها؛ فأولى بي أن أتخصص فيها، بيد أن لي وجهة أخرى أكننتها في نفسي؛ فقد كانت فكرتي أن يكون التدريس هو مهنتي التي أتعيش من ورائها، وأن أقوم بالدعوة محتسبًا متطوعًا، هذه هي الفكرة التي غلبت عليَّ، حتى إن الدكتور محمد خميس حميدة نائب المرشد العام للإخوان عرض علي أن أتفرغ بعد تخرجي لدعوة الإخوان براتب مناسب يقدر لي؛ لحاجة الجماعة إلى مثلي، فاعتذرت بلطف؛ لأني أحب أن أعمل للدعوة محتسبًا، لا موظفًا، ولأني أخشى أن يستهلكني هذا التفرغ في أمور جزئية تعطلني عما أريده لنفسي من مستقبل علمي ودعوي، مع أني أومن بضرورة تفريغ أشخاص للدعوة، ولكن في نظر نفسي لا أصلح أن أكون أحدهم.

على أية حال لقد حسمت الأمر، وتقدمت لتخصص التدريس، وهو يتبع إداريًّا كلية اللغة العربية، كما أشرت، ومقره بالدَّرَّاسة، مع مباني كلية اللغة العربية الجديدة، وكان تخصص التدريس يتكون من سنتين دراسيتين، وتدرس مقرراته في سنتين. هكذا مضى منذ نشأ، وهكذا تخرَّج فيه إخواننا ومشايخنا من قبل، ولكن ابتداء من هذه السنة التي التحقنا فيها به، ستتم الدراسة على نظام السنتين في سنة دراسية واحدة، بحيث تنتهي السنة الأولى في أوائل أشهر الصيف، ثم تبدأ السنة الثانية وتنتهي في شهر أكتوبر.

وأعتقد أن العلوم التي درسناها في هذا التخصص قد أفادتنا، وأضافت إلينا جديدًا، فقد توسعنا في دراسة علم النفس، الذي كنا درسنا شيئًا منه في كلية أصول الدين في إحدى سنوات الدراسة، فدرسنا هنا علم النفس التربوي، والغرائز أو الدوافع النفسية، وعلم نفس النمو، والصحة النفسية، وغيرها، كما درسنا أصول التربية، والتربية المقارنة، وتاريخ التربية، والطرق العامة والخاصة للتدريس، والتربية العملية، وغيرها.

أعتقد أنّا أخذنا جرعة كافية ومروية من علوم النفس والتربية، وصلتنا أكثر بالحياة المعاصرة والثقافة المعاصرة، وكان مدرسونا وأساتذتنا في هذه العلوم من خريجي الجامعات المدنية العصرية، وليسوا من الأزهريين، فكان في ذلك تلقيح لثقافتنا الأزهرية العتيقة.

وأذكر ممن درّسونا التربية العملية: الأستاذ الدكتور محمد قدري لطفي، وكان من أعلام التربية العملية في تدريس اللغة العربية، وله مؤلفات في ذلك، وفي أواخر الفصل الدراسي يأخذ طلبته إلى المدارس الحكومية، ليلقي كل منهم درسًا نموذجيًّا يختاره ويحضره، ثم يلقيه أمام الأستاذ وأمام زملائه، وفي اليوم الواحد نحضر عدة دروس، ثم نجتمع مع الأستاذ في جلسة خاصة للنقد والتقويم، وتعطى الفرصة أولًا للطلاب ليقوّموا عمل زميلهم، ويُبدوا ملاحظاتهم عليه، ثم يبدأ الأستاذ.

وأذكر ذلك اليوم الذي كان فيه درسي، وكان في إحدى مدارس العباسية بالقاهرة، وكنا أربعة من طلاب التخصص، وبعد أن ألقينا دروسنا اجتمعنا كالعادة، ونقد بعضنا بعضًا، ثم استمعنا إلى نقد الأستاذ الدكتور قدري، وكان نقده في الصميم: هذا كان عابس الوجه، وهذا كان قلق الشخصية، وهذا كان درسه تلقينيًّا لم يشرك الطلبة معه، ولم يستثرهم بالأسئلة المناسبة، إلى أن جاء عندي فقال: أما القرضاوي فكان درسه مثالًا يُحتذى: في شخصيته، وفي وقفته، وفي ابتسامة وجهه، وفي إقباله على التلاميذ، وفي إشراكهم معه في كل الخطوات، وفي تلخيص درسه في النهاية، ولا يسعني إلا أن أشكر له، وأن أتمنى له دوام التوفيق في مستقبل حياته، وقد أعطاني الدرجة النهائية خمسين من خمسين، كما فعل معي ذلك في الفصل الثاني -أو قل في السنة الثانية- الأستاذ الدكتور الريدي، رحم الله الجميع، فقد أعطاني خمسين من خمسين.

الشيخ محمد عبد الله دراز

ومن أهم ما استفدته في تخصص التدريس أن كان من أساتذتنا فيه الشيخ الدكتور العلامة محمد عبد الله دراز، الذي كان يدرسنا "علم الأخلاق"، وكان يتدفق في معارفه كأنما يغرف من بحر، ويبهر سامعه كأن كلامه السحر. ويشرح الدقائق فيجليها، والغوامض فيكشف عن خوافيها، ويُبين عن معانيها، لقد كنت أستمع إليه، وأنا معجب متابع، ورأيت أنه ينطبق عليه ما كان يكتبه الأولون عن علمائهم ومؤلفيهم، مثل: العالم العلامة، الحبر البحر الفهامة.

فهذا ما يمكن أن نقوله عن الشيخ، فقد أحاط بعلوم الدين من التفسير والحديث والتوحيد والأصول والفقه، وبعلوم اللغة من النحو والصرف والبلاغة، وبالأدب وتاريخه، وبالعلوم الإنسانية العصرية، التي درسها في "السوربون" وحصل بها على الدكتوراة، وقدّم فيها أكثر من رسالة، وبخاصة رسالته للدكتوراة "دستور الأخلاق في القرآن الكريم".

كان الشيخ دراز علمًا من أعلام الفكر، وإمامًا من أئمة الدين، وبحرًا من بحور العلم والثقافة، جمع -حقًّا- بين الأصالة والمعاصرة، فإن شئت نسبته إلى جامع "الأزهر" فهو ابنه البار، وتكوينه الأزهري قوي متين، وإن شئت نسبته إلى جامعة "السوربون" فهو من خريجيها الذين تعتز بهم، وتفخر بانتمائهم إليها، وهو أحد رجال الفلسفة والأخلاق المعدودين في عالمنا العربي والإسلامي.

كان الشيخ يدرّسنا علم الأخلاق، وقد كتب فيه بالعربية رسالة لطيفة موجزة مركزة، صغيرة الحجم، ولكنها كبيرة القيمة، سماها "كلمات في مبادئ علم الأخلاق" يتجلى فيها علم الشيخ وثقافته الموسوعية، كما يتجلى أدبه وبيانه الرائع المشرق.

كما تجلى علم الشيخ وأدبه وأصالته فيما صدر عنه من كتب، ليست كثيرة من ناحية الكم، ولكنها قيّمة من ناحية الكيف، سواء في فكرتها ومضمونها أم في بيانها وأسلوبها، منها: "النبأ العظيم" وهو: نظرات جديدة في علوم القرآن وإعجازه، لم ينسجه على منوال أحد، كما لم ينسج أحد على منواله.

ومنها: "المختار من كنوز السنة" وهو: شروح عميقة متميزة لعدد من الأحاديث النبوية، وله كتب شرع فيها، وظهر منها بعض الملازم ولم يكملها، مثل كتاب: "الميزان بين السنة والبدعة" كأنما كان يريد أن يحدِّث به كتاب "الاعتصام" للشاطبي.

كان الشيخ متمسكًا بزيه الأزهري الأصلي، بجبته وعمامته، رغم أنه كان يُدرِّس في "كلية الآداب" بجامعة فؤاد الأول، التي ألقى فيها عددًا من المحاضرات في تاريخ الأديان، دعاه لإلقائها صديقه الأستاذ الدكتور علي عبد الواحد وافي، رئيس قسم الاجتماع في الكلية. وكان من ثمرات محاضراته فيها كتابه "الدين": دراسة ممهدة لتاريخ الأديان، كما كان يُدرِّس في "كلية دار العلوم" محاضرات في تفسير القرآن الكريم.

وله رسائل عميقة متميزة في موضوعات كتبها للمشاركة في مؤتمرات عالمية مثَّل فيها الأزهر، مثل رسالته عن "الربا" التي قدمها لمؤتمر الحقوق الدولي في باريس سنة 1951م، ورسالته عن "الإسلام والعلاقات الدولية"، ورسالته عن "موقف الإسلام من الأديان الأخرى"، التي ألقاها في مؤتمر الأديان في لاهور سنة 1958م، الذي وافته المنية فيه، وهو يمثِّل الأزهر هناك، وكان نبأ وفاته فجيعة هزت الأزهر والأوساط الإسلامية؛ لما كان يتمتع به -رحمه الله- من منزلة بين أهل العلم والدين، وكان صبيح الوجه، يتلألأ وجهه نورًا وإشراقًا لكل من يراه، وتبدو عليه ملامح الربانية، وقد كانت هذه الصلة الدراسية سببًا لصلة أخرى فكرية وروحية، سنتحدث عنها فيما بعد.

مؤتمر طلاب الأزهر

استمر نشاطي المعتاد داخل الإخوان في المجالات التي كان لي بها صلة قوية: في قسم نشر الدعوة، حيث أذهب إلى بعض المحافظات في مناسبات مختلفة، وفي قسم الاتصال بالعالم الإسلامي، حيث كنت أشرف على عدد من الإخوة السوريين، وفي قسم الطلاب، حيث كنت مسؤولًا عن طلاب الأزهر في كلياته الثلاث، وفي معهد القاهرة، وهو مجال نشاطي الأول.

وكان من أهم الأنشطة التي أقمناها في هذه المرحلة: المؤتمر الأزهري العام، الذي عُقد في ساحة كلية الشريعة وكلية اللغة العربية، في مبانيها الجديدة بالأزهر، وقد حضر هذا المؤتمر طلاب الكليات الثلاث، وطلاب معهد القاهرة الديني، وكان من مطالب أبناء الأزهر التي طالبنا بها من قديم منذ كنا طلابًا في القسم الثانوي، ولم يُستجب لها، وقد ذكرت طائفة منها في حديثي عن المرحلة الثانوية من قبل؛ مثل فتح باب الدراسات العليا لطلاب الأزهر كغيرهم، وفتح باب الكليات العسكرية -مثل الحربية والشرطة- أمامهم، والعمل كملحقين دينيين في سفارات مصر، وفتح مجالات العمل في المصالح والوزارات المختلفة أمام أبناء الأزهر، وفتح معاهد للطالبات... إلخ.

قدمني إخواني وزملائي (أحمد العسال، وعلي عبد الحليم محمود، ومحمد الراوي، ومحمد المطراوي، وصلاح أبو إسماعيل، وغيرهم) لأكون المتحدث الرئيسي باسمهم في هذا الملتقى، وتوليت شرح المطالب، وضرورة إرسال نسخة من مطالبنا إلى شيخ الأزهر.

وكان مما قلته في هذه المناسبة قصيدة كان لها وقعها وصداها بين طلبة الأزهر، ضاعت إلا أبياتًا منها، ويذكرني بها زملائي من أبناء الأزهر كلما لقوني، وقد حفظوا الكثير منها. حتى إني سمعت الخطيب الشهير الشيخ عبد الحميد كشك -رحمه الله- ينشد أبياتًا منها في إحدى خطبه؛ مما يدل على أنه حضر هذا المؤتمر وهو طالب، وسمع القصيدة يومها، فالتقطتها ذاكرته القوية واختزنتها. ومطلعها:

صبرنا إلى أن ملَّ من صبرنا الصبر **  وقلنا: غدًا أو بعده ينجلي الأمر

فكان غـد عـامًا، ولـو مـد حبله  **  فقد ينطوي في جوف هذا الغد الدهر

وقـلنا: عسى أن يدرك الحقَّ أهلُه  **  فصاحت "عسى" من "لا"، و"لا" طعمها مر

ومـاذا عـلينا بعد أن فار مـرجل  **  مـن الغيظ، والإهمال يغلي به الصدر

سددنا بطول الصبر منا صمامه  **  فزادت عليه النار فانفجر القِدْر

ومنها:

عجبت لمصر تهـضم الليث حقـه  **  وتسرف للسِّنَّوْر، ويحك يا مصر!

سلام على الدنيا، سلام على الورى  **  إذا ارتفع العصفور وانخفض النسر!

أيعطى لـزيد ما يشاء مـن المُنَى  **  ويحرم حتى من ضروراته عمْرو؟

أيُعطَى لنا -يا قومنا- القشر والنوى  **  ومَن دوننا يعطى له اللب والتمر؟

إذا العدل والإنصاف في الأرض لم يقم  **  فمن أين يأتي أهلها العز والنصر؟

ووصّلنا مطالبنا إلى الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر محمد الخضر حسين، وكان متجاوبًا معنا في كل مطالبنا، وكان رجلًا له هيبته ومقامه العلمي والديني الكبير، وصاحب تاريخ مجيد في العلم والجهاد، ولكن الدولة لم تكن تتجاوب مع آماله، وهو صاحب المقولة الشهيرة التي قالها لرجال الحكومة: "إن لم يزد الأزهر في عهدي فلا يُنقص منه"، وفي أوائل ثورة يوليو ذهب إليه اللواء محمد نجيب قائد الثورة وزاره في مكتبه في مشيخة الأزهر، وقال: "إن من واجب الرؤساء أن يزوروا العلماء".