أشد ما يصيب الجماعات خطرًا أن ينقسم بعضها على بعض، وخصوصًا في ساعات الشدة، وأيام الحرج والأزمة، ويزداد هذا الخطر بالنسبة إلى جماعة الإخوان المسلمين، حيث يقوم كيانها أساسًا على الأخوَّة والترابط، حتى إن اسم الجماعة ليدل على ذلك بجلاء "الإخوان المسلمون".

وكان مؤسس الجماعة حريصًا كل الحرص على توثيق روابط الجماعة: فكريًا وعاطفيًا وتنظيميًا، وكان يقول: دعوتنا تقوم على: الفهم الدقيق، والإيمان العميق، والحب الوثيق، وكان في كل ثلاثاء يلقى فيه الإخوان يبدأ حديثه إليهم بما سماه "عاطفة الثلاثاء"، وهي كلمات يحيي فيها المشاعر الإيمانية، ويلهب فيها العواطف الأخوية، بأحاديث الحب في الله، والتجالس في الله، والتزاور في الله .

ولقد كان عبد الناصر حريصًا على أن يُقسِّم صفوف الإخوان؛ ليضرب بعضهم ببعض، ويستفيد من خلافهم فيما بينهم، ولطالما حاول ذلك وباءت محاولاته بالإخفاق. واليوم وقد وجدت محاولاته الجو الملائم، المحضن الذي تُفرِّخ فيه وسوساته للجماعة ولقياداتها المختلفة، وساعد على هذا اختفاء المرشد عن ساحة الأحداث، ولجوءه إلى مخبأ غير معروف إلى أمد غير معلوم .

ولقد احتدم الصراع بين الإخوان وحكومة الثورة، وكل يوم يمر يتطاير الشرر، ويتزايد الضرر، ويتفاقم الخطر. وكان كثير من الإخوان القدامى يتوجسون شرًا من استمرار الصراع بين الإخوان والثورة، ويرون ضرورة العمل على رأب الصدع، ورتق الفتق بين الفريقين، والصلح دائمًا خير، والخلاف أبدًا شر.

وكان شيوخنا في الدعوة: البهي الخولي، وعبد المعز عبد الستار، ومحمد الغزالي، وغيرهم من قدامى الإخوان، وممن لهم قدم راسخة في الدعوة على هذا الرأي. وكانت عواطفي في أول الأمر أنا وأخي أحمد العسال معهم، إشفاقًا على الجماعة. أو هكذا كنا نتصور. وقد قيل: العاقل من يتقن فن الخروج من المضيق، وأعقل منه من لا يدخل المضيق أصلًا.

محاولة إخوانية للإنقاذ

وكان الأخ الأستاذ محمود عبد الحليم عضو الهيئة التأسيسية والحائز على رضا الطرفين، وغير المحسوب على أي منهما قد اتخذ مبادرة إيجابية، واتصل بعبد الناصر عن طريق رجليه إبراهيم الطحاوي وأحمد طعيمة، وكتب مذكرة في التقريب والمصالحة بين الطرفين.

قبلها في الجملة عبد الناصر بشروط، وعرضها الأستاذ محمود على حشد إخواني كبير في منزل الأستاذ محمد جودة عضو الهيئة التأسيسية والتاجر المعروف، وصديق عبد الناصر.. وتبنى الحشد الإخواني هذه المذكرة، وإن كان للأستاذ البهي رأي ذكره ودافع عنه أمام هذا الحشد، وهو اقتراح خلع المرشد الأستاذ الهضيبي، والاستعاضة عنه بلجنة تدير الجماعة، حتى تختار مرشدًا آخر، ورأى أن هذا هو الذي ينقذ الموقف. وعارضه الأستاذ محمود في هذا، وأنه ليس من الصواب ولا الحكمة أن نعرِّض الجماعة في مثل هذا الوقت لهذه الأزمة، وأن هذا سيُحدث فتنة كبيرة، وفتقًا قد لا يستطاع رتقه في الظروف الحالكة الحاضرة.

واختار الحاضرون وفدًا يمثل الإخوان للقاء عبد الناصر مكونًا من: خميس حميدة، وعمر التلمساني، ود. عثمان نجاتي، محمد حلمي نور الدين، والشيخ أحمد شريت، ومحمود عبد الحليم. والتقوا مع عبد الناصر في بيته. وعرض عبد الناصر موقفه من الإخوان، وموقف الإخوان منه منذ قامت الثورة في حديث طويل سرده في الجلسة المشتركة بينه وبين محمود عبد الحليم وعدد من الإخوان؛ مما دل على قوة ذاكرة الرجل، واستحضاره للأحداث، وتماسك شخصيته، كما يقول الأستاذ محمود، الذي يحسب أن العوامل النفسية كانت من أسباب هذه الأزمات، وأن الإخوان لم يفهموا نفسية عبد الناصر كما ينبغي. ولم يتعاملوا معه بالطريقة التي يمكن بها كسبه إلى صف الجماعة، ولا تؤلبه وتثير حقده عليهم.

القرارات التي اتُخِذت

وأود أن أذكر هنا ما كتبه الأخ محمود عبد الحليم عن هذه الجلسة التاريخية وما تم فيها. قال رحمه الله: "في نهاية هذه الجلسة الطويلة المضنية كان لا بد لنا من الوصول إلى اتفاق محدد، وكان أملنا جميعا -نحن الإخوان- أن يكون اقتراحي الذي ذيلت به مذكرتي هو الذي يتم عليه الاتفاق. وتكون مهمتنا -نحن المجتمعين- أن نبحث تفاصيل تنفيذه، ولكن جمال فاجأنا في نهاية الجلسة برفضه هذا الاقتراح بل برفضه أي اقتراح للصلح قائلًا: "إن الدعوة إلى إجراء صلح بيني وبينكم فات أوانها. ولم تعد الثقة التي هي أساس الصلح موجودة". وتناقشنا معه حول هذه النقطة نقاشًا طويلًا غير أنه أصر على الرفض.. وما كنا نملك شيئًا بعد أن صار هو يملك كل أوراق اللعب في يده ونحن لا نكاد نملك منها شيئًا.

قلنا: إذن لم كان هذا الاجتماع؟ ولو علمنا أنك ترفض الصلح لما أتعبنا أنفسنا. ولكن الأستاذ الطحاوي والأستاذ طعيمة أبلغانا أنك قرأت المذكرة ووافقت على ما جاء بها.. وعلى هذا حضرنا، فقال: أنا وافقت على المذكرة كمبدأ. فالصلح هدف، ولكنه الآن ليس الهدف المباشر. لكن الهدف المباشر الآن سيكون مقدمة للصلح؛ وإذا استطعتم أن تقوموا بأعباء الهدف المباشر انتقلنا إلى الصلح.

 قلنا: وما هو الهدف المباشر؟

قال: كل الذي أستطيع أن أبذله لكم الآن: أن أعقد معكم هدنة؛ فإذا نجحتم فيها كان لكم أن تطالبوا بصلح.

قلنا: وما شروط هذه الهدنة؟

قال: هما شرطان:

1-  أن توقفوا حملتكم على اتفاقية الجلاء.

2- أن توقفوا إصدار النشرات.

قلنا: ولنا شرطان مقابلان هما:

1- أن توقف الاعتقالات والتشريد.

2- أن توقف الحملة الصحفية.

قال: أنا موافق على شرطَيكم إذا وافقتم على شرطيّ.

قلنا: إننا موافقون.

قال: إذا نفذتم الشرطين فلنا اجتماع آخر بعد اجتماع الهيئة التأسيسية، أما إذا لم تستطيعوا تنفيذ الشرطين فلا اجتماع، ولا تلوموني بعد ذلك.

وهنا ختمت الجلسة، وخرجنا، وكلنا أمل في الوفاء بما اشترط علينا لنخرج بالدعوة من هذا المأزق الخطير الذي وضعت فيه.

يقول محمود عبد الحليم: كان مبيتي عادة حين أكون في القاهرة أن أبيت عند الأخ الحبيب -رحمه الله- الدكتور جمال عامر زميلي القديم في الدعوة وعضو الهيئة التأسيسية وصاحب صيدلية الصليبة بالقاهرة.. فلما ذهبنا في تلك الليلة إلى البيت وجدنا في انتظارنا الأخ الأستاذ عبد العزيز كامل، الذي ابتدرني قائلًا: إنني كنت في انتظارك على أحر من الجمر؛ لأنني أقدر أهمية هذه الجلسة، وأؤمل فيها خيرًا للدعوة، وقد قدمت لأعرف منك ما تم فيها، وأعرف رأيك شخصيًا في جمال عبد الناصر..

فحدثته بكل ما تم في الجلسة، كما شرحت له وجهة نظري في شخصية جمال عبد الناصر على الوجه الذي أجملته في هذه المذكرات، ولكنني أقرر أن ما حدّثت به الأخ عبد العزيز لا بد أنه كان أوفى وأشمل، لا سيما وأنا أثبت ما أثبته في هذه المذكرات بعد مرور اثنين وعشرين عامًا على هذه الأحداث.. وأذكر أنني أنهيت حديثي إلى الأخ عبد العزيز بقولي: إنني أرى أن شخصية جمال عبد الناصر كانت تستحق منا دراسة أكثر، وعناية في التعامل معها أكثر مما كنا نوليها".ا.هـ

ويبدو من سير الأحداث أن الأمور جرت في مسار آخر غير المسار الذي كان ينشده الأخ محمود عبد الحليم ومن وافقه من الإخوان فيما سماه "محاولة للإنقاذ". فقد كان الجو في داخل الإخوان متوترًا ومشحونًا ضد الثورة وعبد الناصر؛ ولهذا باءت هذه المحاولة للتقريب أو المصالحة أو الهدنة -التي قد تؤدي إلى مصالحة- بالإخفاق والفشل؛ نتيجة لتصلب القيادات في مواقفها، وتغليب التشدد على المرونة، والمواجهة على المقاربة؛ لأمر قدره العزيز العليم.

وقد عُرضت مذكرة الأخ محمود عبد الحليم على الهيئة التأسيسية، ولكن جرت الأمور على غير ما أراد صاحب المذكرة؛ فقد أخذ رأي الهيئة بالتصويت: أتُعْرَض المذكرة عليها أم لا؟ فكانت الأغلبية مع عدم عرضها!

كان هذا الانقسام في الصفوف العليا للإخوان، أما قواعد الإخوان بصفة عامة؛ فكانت مع المرشد؛ وذلك لأسباب ثلاثة:

الأول: أنها لا تدري شيئًا عما يدور وراء الكواليس، ولا تعرف عن العلاقات الخاصة بين الإخوان والثورة ما يمكنها من الحكم؛ فالحكم على الشيء فرع عن تصوره.

والثاني: أن النشرات السرية التي كانت تصدر في تلك الأيام كانت تعبئ الإخوان تعبئة شعورية عدائية للثورة ورجالها، ولا تسمح بأي تقارب أو مهادنة.

والثالث: ما كانت تقوم به الثورة ضد الإخوان على المستوى الإعلامي التحريضي، وعلى المستوى الأمني التضييقي.

اعتقال مفاجئ ليلة الامتحان

وقد كنت في هذه الأيام الساخنة المتوترة أتهيأ للامتحان في الفصل الثاني والنهائي في تخصص التدريس. وقبل أول أيام امتحاني في تخصص التدريس حدث حادث مهم بالنسبة لي؛ فقد فتشت المباحث شقتنا التي نسكن فيها بشارع راتب باشا بشبرا، واعتُقل زميلي الذي يعيش معي في حجرتي، وهو الأخ محمود نعمان الأنصاري، الطالب بكلية الآداب الذي ضبط بحوزته كمية من المنشورات المحظورة، وكانت الشقة تتكون من أربع حجرات كل حجرة يسكن بها شخصان. وكان محمود زميلي في نفس الحجرة فلما قُبض عليه وسألوه: لمن هذا السرير في حجرتك؟ فقال: هو لفلان.

فانتظروني حتى عدت في المساء؛ ليسوقوني إلى قسم روض الفرج الذي نتبعه، وأنا لا أعلم شيئًا عن المنشورات التي ضُبطت عند زميلي محمود. وهذه الأيام في غاية الأهمية عندي؛ لأنها أيام الامتحان النهائي لإجازة التدريس، بعد دراسة سنتين. وقد أوصيت بعض زملائي في الشقة أن يتصلوا بأستاذنا البهي الخولي ليتوسط في الإفراج عني لأداء الامتحان، وأن يتم ذلك على وجه السرعة؛ فالامتحان في الساعة الثامنة صباحًا.

وقضيت هذه الليلة الليلاء ساهرًا، لم يغمض لي جفن، لا من أجل عشق ليلى وسُعدى، كما قرأنا للشعراء العشاق، ولكن خوفًا على الامتحان الذي لو ضاع فربما لا أعوضه إلا بعد سنين أو ربما لا أعوضه أبدًا؛ فقد كنا مهددين بالاعتقال ما بين حين وآخر. وإن كنت في ذلك الوقت محسوبًا على جناح المعارضة الذي يمثله الأستاذ البهي ومن معه، ولكن أجهزة المباحث تعرف جيدًا أن ولاءنا إنما هو للدعوة قبل كل شيء، بغض النظر عما يحدث بين قادتها من خلاف. وهذا ما كان يُخيفني ألا تنجح وساطة أستاذنا البهي في الإفراج عني، ولكن القوم كانوا أذكى وأدهى، ويريدون للخلاف أن يتعمق وتمتد جذوره في الجماعة، فقبلوا الوساطة، ولا سيما مع إلحاح الأستاذ البهي.

وحوالي الساعة السابعة والنصف صباحًا نودي علي بالإفراج، ولم أكد أغادر باب القسم، حتى ركضت ركض الفرس، لأصل إلى شارع شبرا، لآخذ أول سيارة أجرة (تاكسي)، لأصل بها إلى مقر الامتحان في "الدَّرَّاسة"، وقد دق الجرس، فظللت أعدو، حتى دخلت الفصل وأنا ألهث وأتصبب عرقًا، وسُمح لي بالدخول بعد مرور عدة دقائق. وأديت الامتحان على ما يرام، وقد شعرت بتوفيق الله تعالى لي في إجابتي عن الأسئلة، رغم أرقي الطويل تلك الليلة.

وربما كان ذلك هو الشيء الوحيد الذي كسبته من وراء الخلاف الذي حدث بين الإخوان، وإن كان الخلاف كما قال ابن مسعود شرًا، ولكن كما قال تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة:216).

فترة قاسية علينا

كانت تلك الأيام من أشق الأيام علينا، أنا وأخي أحمد العسال، وبعض شباب الدعوة، المتأثرين بالأستاذ البهي وشيوخ الدعوة المعروفين أمثال الشيخ محمد الغزالي، والشيخ عبد المعز عبد الستار، والشيخ سيد سابق وأمثالهم، وقد كانت عواطفنا معهم من ناحية، يؤكدها عاطفة الإشفاق على الدعوة ومستقبلها: أن تدخل معركة غير متكافئة مع ثورة عسكرية متجبرة، معركة لا يعلم مصيرها إلا الله. فلو أمكن الصلح بين الجماعة والثورة، واللقاء في منتصف الطريق، بدل الصدام المجهول النتائج ربما كان ذلك خيرًا.

وقد حاول الإمام الشهيد حسن البنا بعد حل الإخوان سنة 1948م أن يسلك كل السبل ليجنب الإخوان الصدام الدامي مع الحكومة، ولو تنازل عن بعض الأشياء في سبيل هذا الهدف، حتى إنه قَبِلَ أن يترك السياسة في تلك الفترة، ويتفرغ للتربية ونشر الدعوة.

وكان سيدنا محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في غزوة الحديبية: "والله لا تدعوني قريش إلى خطة فيها صلة رحم وحقن للدماء إلا أجبتهم إليها". وكان عمر رضي الله عنه قبل أن يتهيأ لفتح بلاد الروم يغريه القواد بما وراءها من مغانم ومكاسب، فيقول: "والله لمسلم واحد أحب إلي من الروم وما حوت".

كان الحرص على حقن دماء الإخوان، والضن بهم أن يدخلوا معركة غير معروفة المصير؛ هو الذي يسيطر علينا في تلك الفترة العصيبة. وإن كانت عقولنا تقول لنا: هل صحيح أن الثورة تريد صلحًا وتقاربًا مع الإخوان؟ أو هي تريد شق صفهم وتمزيق جماعتهم، وضرب بعضهم ببعض؟

إن الذي يبدو من ظواهر الأمور أن الثورة تريد أن تنفرد بالسيطرة على مصر، وألا يشاركها في ذلك أحد، وأنها لا تقبل أن يكون للإخوان ولا غيرهم وجود مؤثر؛ إلا أن يصدِّقوا دعواهم، ويؤمِّنوا على دعائهم، ويمشوا في ركابهم، وهذا ما لا يرضاه أبناء الدعوة جميعًا.

الحملة على القرضاوي والعسال

ومن الذكريات المؤلمة التي لا أنساها: أن الإخوان كانت لهم نشرة سرية تصدر في هذا الوقت تحت عنوان "الإخوان في المعركة" تهاجم الثورة ورجالها بعنف، وتتضمن المنشورات الثورية التي تصدر عن قيادة الإخوان مثل منشور عنوانه: "هذه الاتفاقية لن تمر" يعني: الاتفاقية التي عقدت مع الإنجليز، وآخر بعنوان: "خمسة وعشرون مليونًا يباعون في سوق الرقيق". وكان ينسب إلى الأستاذ سيد قطب أنه محرر هذه المنشورات الثورية بقلمه.

وقد أذاعت هذه النشرة نبأ قالت فيه: إن القرضاوي والعسال قد مرقا من الدعوة، وانضما إلى ركب الخونة، وعلى الإخوان أن يحذروا منهما! وقد استجاب الإخوان لذلك حتى قابلني بعض الإخوة الذين كانوا يعتبرون من تلاميذي، فأعرضوا عني، ونأوا بجانبهم: وبعضهم قال لي: لم يعد بيننا وبينك رباط.

وهذا أمر شائع في الإخوان، أذكر أنه حين صدر أمر بفصل الشيخ الغزالي والأستاذ صالح عشماوي، والدكتور محمد سليمان، والأستاذ أحمد عبد العزيز جلال، وكنا في معتقل العامرية، وكنت أتحدث مع أحد وعاظ الإخوان المعروفين، وجاء ذكر الأخ الشيخ الغزالي، فقال: الغزالي لم يعد أخًا لنا، لا هو ولا إخوانه المفصولون من الجماعة.

قلت: لم يعد أخا لنا في الجماعة، ولكنه بقي أخا لنا في الإسلام.

قال: إن عمله فصل ما بيننا وبينه.

قلت: هل يُهدم تاريخ الشخص وجهاده كله بزلة واحدة يزلها؟ إن الله سبحانه لو عامل الناس بهذه الطريقة لدخلوا جميعًا جهنم.

إن الرسول الكريم علمنا أن الإنسان تشفع له سوابقه، وتُغتفر له بعض سيئات حاضره من أجل مآثر ماضية، وقد قال لعمر في شأن حاطب بن أبي بلتعة، وقد ارتكب ما يشبه الخيانة للرسول وجيشه: "ما يدريك يا عمر، لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فإني قد غفرت لكم". من أجل جهاده في بدر غُفر له ما اقترفه في فتح مكة!

وأقول بأسف: لقد كان رجال المباحث أصدق في الحكم علينا من إخواننا الذين عرفونا وعرفناهم، وعايشونا وعايشناهم، فلم تخدعهم هذه المعارضة الظاهرة عن قراءة ما تكنه صدورنا من ولاء وعداء، أو حب وكره؛ ولهذا لم يترددوا في القبض علينا في أول فرصة، وتقديمي للمحاكمة.

وهذا ما يُعاب على الإخوان: أنهم إذا أحبوا شخصًا رفعوه إلى السماء السابعة، وإذا كرهوه هبطوا به إلى الأرض السفلى. والمفروض في الإنسان المؤمن -ولا سيما الداعية- الوسطية والاعتدال في الحكم على الناس، في الرضا والغضب، والمحبة والعداوة، فإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، وإذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل، وإذا أحب لم يُحابِ من يحب بالكذب، وإذا عادى لم تبعده عداوته عن الصدق، كما قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (الأنعام: 152)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ} (النساء:135)، {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة:135).

وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا". على أن الكراهية هنا لا ينبغي أن يكون لها مورد، فإن اختلاف الناس في السياسات والمواقف كاختلافهم في الأحكام والفقه، والواجب هنا: أن تختلف الآراء ولا تختلف القلوب، وأن يعذر الإخوة بعضهم بعضًا فيما اختلفوا فيه.

والمختلفون هنا يُقال فيهم: مصيب ومخطئ، لا مؤمن ومنافق، أو صالح وفاسق؛ إذا حسنت النيات، وصفت القلوب، وهذا ما يُظَن بأهل الدعوة إلى الإسلام، وإن اختلف بعضهم مع بعض.. فالمصيب منهم مأجور، والمخطئ معذور. بل المصيب مأجور أجرين، والمخطئ مأجور أجرًا واحدًا، إذا كان خطؤه ناشئًا عن اجتهاد.

ولقد نهى السلف -رضي الله عنهم- عن الإسراف في الحب والبغض، وقالوا: لا يكن حبك كلفًا، ولا يكن بغضك تلفًا. وفي الأثر: "أحبب حبيبك هونًا ما؛ عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما؛ عسى أن يكون حبيبك يومًا ما". وفي القرآن الكريم: {عَسَى اللهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الممتحنة:7) وهذه وردت في شأن المشركين المعادين، فما بالك بالمسلمين الموالين؟!

ولقد بيَّنت الأيام فيما بعد أن لله حكمة في فصل الغزالي من الإخوان؛ فقد قدَّر الله تعالى له بهذا أن ينجو من المحنة التي أصابت الإخوان في سنة 1954م وما بعدها، وأن يبقى حرًا طليقا يتجول في أنحاء مصر داعيًا إلى الله وإلى دينه القويم.

وظل الغزالي طوال سنوات المحنة لسان الدعوة الناطق بالصدق، الصادع بالحق، المقاوم لأباطيل الماركسيين والعلمانيين. ولم يكن أحد يجرؤ على أن يتهمه بمعاداة الثورة، أو بموالاة الإخوان، وقد فصلوه رسميًا من جماعتهم. وقديمًا قالوا: رب ضارة نافعة. وقال تعالى: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (النساء:19).